ملخص
تسأل جورجي نيميس البالغة 97 سنة والمولودة في بودابست وقد اعتقلت في معسكرات رافنسبروك وفلوسنبرغ في ألمانيا وموتهاوزن في النمسا، "لماذا؟ حتى اليوم أجهل لماذا كانوا يكرهوننا إلى هذا الحد".
كانوا في سن الـ14 والأربع سنوات والسبعة أشهر، بعضهم ولد في معسكرات اعتقال نازية مثل أوشفيتز بيركيناو وبرغن بلسن وبوخينفالد لكنهم نجوا وأسسوا عائلات لاحقاً، وهم عازمون على نقل روايتهم لتجنب أن تذهب مأساتهم طي النسيان.
معسكرات
بعد 80 عاماً على تحرير معسكر أوشفيتز بيركيناو، وافق نحو 40 ناجياً من معسكرات الاعتقال والإبادة في نحو 50 بلداً منتشرة داخل أربع قارات، على مقابلة فرق من وكالة الصحافة الفرنسية بين نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي ويناير (كانون الثاني) الجاري.
وفي إسرائيل والولايات المتحدة وكندا وفرنسا وبولندا والمجر فضلاً عن رومانيا وألمانيا والأرجنتين وتشيلي والمكسيك وصولاً إلى جنوب أفريقيا، وقفوا أمام عدسة المصورين في منازلهم أو داخل الاستوديو، بمفردهم أو محاطين بأولادهم وأحفادهم وأولاد أحفادهم، أو أمام جدران تغطيها صور أفراد عائلاتهم.
نقلت الفرنسية إيفلين إسكولوفيتش في سن الرابعة والنصف إلى معتقلي فوغت وفيستبورك في هولندا ومن ثم برغن بلسن في ألمانيا، حيث بقيت حتى سن السادسة. وتشدد على أهمية التكلم عن الموضوع "لأنني أنتمي إلى الجيل الأخير"، على ما تقول.
ويريد هؤلاء من خلال شهادتهم تخليد الوجوه الذابلة والنظرات الثاقبة لأولئك الذين شهدوا الفظائع، ورواية مصائرهم والذكريات والأصوات المرتجفة.
ويشكل هؤلاء حراساً للذكرى منذ عام 1945. ومن سانتياغو في تشيلي تسأل مارتا نويفيرث البالغة 95 سنة والمولودة في المجر ونُقلت في سن الـ15 إلى أكبر معسكرات الموت الواقع في بولندا التي كان يحتلها النازيون "كيف سمح العالم بأوشفيتز؟".
وقُتل في هذا المعتقل نحو 1.1 مليون شخص بينهم مليون يهودي تقريباً فضلاً عن غجر ومقاومين بولنديين، بين عام 1940 وموعد تحريره على يد الجيش الأحمر خلال الـ27 من يناير 1945.
غرف غاز
وقُتل غالبيتهم في غرف غاز ما إن وصلوا إلى المعسكر.
وفي الإجمال، قضى 6 ملايين يهودي في المحرقة النازية.
وتسأل جورجي نيميس البالغة 97 سنة والمولودة في بودابست، واعتقلت في معسكرات رافنسبروك وفلوسنبرغ في ألمانيا وموتهاوزن في النمسا "لماذا؟ حتى اليوم أجهل لماذا كانوا يكرهوننا إلى هذا الحد".
يؤكد كثيرون منهم أن رواية ما حصل أعطى معنى لحياتهم مع أنهم شهدوا على إرسال أهلهم إلى غرف الغاز أو موت شقيق أو شقيقة جراء الجوع والإنهاك أو المرض. ولم يعرف بعضهم بإبادة عائلاتهم برمتها إلا بعد خروجهم من المعسكر.
حتى لا يهملنا التاريخ
وتواجه جوليا والاش التي شارفت على عامها الـ 100 صعوبات أحياناً في الكلام ويختلط عليها الحديث وتتوقف عن الكلام، بعد أن يغلب عليها البكاء. وتقول السيدة الباريسية التي صمدت عامين في بيركيناو متنهدة "رواية ما حصل صعب جداً جداً". أنزلها جندي نازي في اللحظة الأخيرة من شاحنة متجهة إلى غرف الغاز. وتؤكد أنها ستواصل رواية قصتها "سأستمر طالما يسمح وضعي بذلك". إلى جانبها، تجلس حفيدتها فرانكي متسائلة "عندما سترحل، هل سيصدقنا العالم عندما نتحدث عن هذا الموضوع؟".
ومن أجل ضمان ذلك، يزور نفتالي فورست وهو إسرائيلي يبلغ الـ92 ومولود في براتيسلافا واعتقل داخل أربعة معسكرات بينها أوشفيتز بيركيناو، منذ أعوام بانتظام ألمانيا والنمسا وتشيكيا ودول أخرى، للقيام بندوات "حتى لا تنسى الأجيال الجديدة أبداً ما حصل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تماماً كما تفعل إستير سينوت الفرنسية المولودة في بولندا والتي قاست خلال ديسمبر (كانون الأول) في سن الـ97، حدة الشتاء البولندي، لمرافقة تلاميذ في المدرسة الثانوية إلى بيركيناو. ويبعد هذا الموقع ثلاثة كيلومترات عن معسكر أوشفيتز الرئيس، وهو مترامي الأطراف ولا يزال يضم منصة "الانتقاء" التي كانت تصل إليها مواكب المرحلين. ويضم الأفران والأكواخ المحاطة بأسلاك شائكة.
وتفي سينوت بذلك بوعد قطعته على شقيقتها فاني التي همست لها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، ممددة على حصيرة بينما تبصق دماً "وصلت إلى نهاية المشوار، لن أصمد أكثر من ذلك. في حال تسنت لك فرصة العودة (...) عديني برواية ما حصل لنا. حتى لا يهملنا التاريخ".
ويتردد صدى هذا الكلام في مونتريال، حيث تقول إيفا شانيلوم البالغة 97 سنة والمولودة داخل رومانيا والتي نقلت في سن الـ16 إلى المعسكر نفسه، إذ قُضي على عائلتها بالكامل تقريباً "يجب أن نروي ما حصل حتى لا يذهب موتهم سدى".
على مدى أعوام ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن أحد مستعداً لسماع رواية الناجين عن معسكرات الاعتقال والموت. حتى السابع من ديسمبر 1970 عندما جثا المستشار الألماني فيلي برانت على ركبتيه أمام نصب أقيم تكريماً لذكرى ضحايا تمرد الغيتو اليهودي في وارسو، طالباً الصفح عن شعبه.
وعلى مر العقود، روى الشهود بدقة فظائع انتقاء الأشخاص بحركة من الذقن من جانب جندي نازي ووحشية القوات الخاصة والموت الصناعي.
وفي زحمة الروايات، تحضر على الدوام الرحلة الطويلة في ظروف لا تُحتمل داخل مقطورات مكتظة مخصصة للحيوانات، من دون طعام.
ويقول البريخت فاينبرغ البالغ 99 سنة في مسقط رأسه في ألمانيا "كنا نحو 80 شخصاً من نساء وأطفال ومسنين مع دلو لقضاء حاجتنا من دون أية قطعة خبز (...) مثل الحيوانات". ويضيف "عندما وصلنا (إلى أوشفيتز)، كان هناك معتقلون ببزات يحملون عصي ويصرخون (خارجاً). كان المسنون يسقطون (...)، وكان الشباب يعبرون فوقهم".
نزع الصفة الإنسانية
يتحدث نايت ليبسيغر، وهو كندي يبلغ الـ96، برعدة عن نزع الصفة الإنسانية على الفور عند الترجل من القطار. ويروي "في غضون دقائق قليلة، انتقلنا من وضع الإنسان الحر إلى الإنسان المعتقل مع رقم جديد على الذراع من دون وثائق ثبوتية. كانت تنزع عنا ملابسنا وكل ما هو شخصي ويحلق شعرنا، لنصبح مجرد شيء ونفقد أية قدرة على التصرف كبشر".
"أشياء" يتم "فرزها" على "منصة الانتقاء"، الموت الفوري في غرف الغاز للصغار والكبار والأكثر ضعفاً. أما الآخرون فمصيرهم العمل القسري المضني.
ويروي تيد بولغار المولود في المجر والبالغ المئة من كندا "كانوا يفصلوننا، النساء والأطفال من جهة والرجال من الجهة الأخرى. وكانت هناك المنصة الطويلة وفي آخرها طاولة مع جنود من وحدات الأمن الخاصة (أس أس). عند وصولنا إلى تلك النقطة، كانوا ينظرون إلينا ويميلون برأسهم يسرة أو يمنة. لم ندرك ما معنى ذلك في لحظتها، لكننا أدركنا لاحقاً".
تتذكر مارتا نويويرث التي كانت تفرز ملابس المعتقلات في أوشفيتز، طوابير النساء العاريات "ليل نهار"، ضمن مواكب "تأتي من كل حدب وصوب".
وتروي "كانت ترمى ملابسهن أرضاً. وهن يقفن هادئات. كن يظنن أنهن يستعدن للاستحمام (...) لا شيء ولا حتى صرخة، هدوء تام. كن يتجهن شامخات مباشرة إلى الأفران".
كان هذا المصير المأسوي لشقيقة تيد بولغار ووالدته اللتين قضتا في غرف الغاز لدى وصولهما واللتين "حرق جسدهما ليلاً". أما هو فتمكن من النجاة، لأنه قال إنه فني كهربائي.
كان المعتقلون يخضعون للعمل القسري تحت رحمة جلاديهم النازيين. كان البريه واينبرغ يمد الكابلات تحت الأرض في معسكر أوشفيتز. ويروي قائلاً "العمل كان مضنياً جداً وكان المهندس (...) وحشياً للغاية، إلى حد كان أحياناً يموت ثلاثة أشخاص من الإنهاك في يوم واحد".
وتقول الفرنسية جينيت كلوينكا البالغة 99 سنة "شراسة ووحشية... لا أجد الكلام للتعبير عن ذلك".
يضاف إلى ذلك الجوع. يصف ماريك دانين فاسوفيتش البالغ 98 سنة الذي اعتقل في ستوتهوف في بولندا، "في المعتقل كانت تمر أسابيع عدة، لم أكن آكل فيها شيئاً. كان جوعاً حقيقياً. أغمي علي بسبب الجوع".
أمراض واختبارات طبية
وكانت هناك الأمراض والاختبارات الطبية كتلك التي خضع لها الأميركي سام سينغكان البالغ 85 سنة عندما كان طفلاً في مويغيليف بودولسكي في أوكرانيا، عند الحدود مع مولدافيا.
ويؤكد الرجل "لا أزال أشعر بآلام حتى اليوم. أعطيت أدوية قوية للغاية تسبب الإدمان، لكني قررت قبل 45 عاماً تقريباً أن أتعايش مع هذا الألم من دون أدوية".
بعد مرور 80 عاماً لا يزال شعور الألم الشديد يلازم الناجين، لفقدانهم قريب استحال رمادا.
كان هيرش ليتمانوفيتش في سن 11 سنة عندما نقل مع شقيقه إلى معتقل ساخنهاوزن في ألمانيا، حيث أجري اختبار للقاح ضد التهاب الكبد عليه.
نجا من المأساة إلا أن شقيقه قضى فيها "لأنه تم اختياري لهذه التجارب من دونه. لم أتمكن حتى من وداعه ومعانقته". ويقول الرجل البيروفي المولود في بولندا بتأثر كبير.
ويتابع ليتمانوفيتش البالغ 93 سنة "أشعر بالألم بحدة أكبر من قبل. ولم أعد أنام في الليل وتساورني الكوابيس".
ويقول الكندي بينشاس غاتر البالغ 92 سنة والمولود في بولندا ونُقل إلى معتقل مايدانيك في بولندا المحتلة، "في كل مرة أفكر بالمحرقة، أتذكر شقيقتي" التوأم. وكان فصل عن شقيقته سابرينا عندما كان في الـ11، ما إن وصل إلى "جحيم نهاية العالم هذا"، كما يصفه.
وهو لا يزال يذكر "خصل شعرها الشقراء الرائعة. نسيت كل شيء عنها (...). أشعر بألم كبير لأنني لا أملك أي تذكار منها ولا أذكر حتى شكلها، فقط خصل الشعر هذه".
في بوينس أيريس، يتشبث بيدرو بولاتشيم البالغ 88 سنة والمولود في براغ ورحل في سن السادسة إلى معتقل ثيريسينشتات في تشيكيا، بذكرى والده الذي قتل. ويقول "أتمسك بما علمني إياه قبل أن ننقل إلى المعتقل، علمني أن أواجه الحياة".
وتتحدث الإسرائيلية إيفا إربين البالغة 84 سنة عن قوة والدتها خصوصاً في المعتقل، موضحة "كانت تحدثني عما سنقوم به بعد عودتنا إلى الديار، عما سنشتري والأحذية التي سنقتنيها والملابس والأشخاص الذين سنزورهم وطبيب الأسنان".
وتقول عن والدتها إنها "كانت بطلة"، وتوفيت بعد "مسيرة الموت"، عندما أرغم النازيون مع اقتراب الجنود السوفيات المعتقلين، على قطع مئات الكيلومترات في ملابس رثة وسط الثلوج والبرد الجليدي باتجاه ألمانيا والنمسا.
ومع مرور 40 عاماً، هل كان لشهادتهم أثر؟ يروي آخر الناجين لوكالة الصحافة الفرنسية خوفهم من حال العالم راهناً.
ويقول نايت ليبسيغر "لم أكن أتوقع أن يكون الحديث عن المحرقة بهذه الأهمية بعد مرور 80 عاماً، لكنه كذلك. بسبب الارتفاع الكبير في معاداة السامية بكل مكان في العالم". ويضيف أن الأجواء الحالية تذكره بتلك السائدة في ثلاثينيات القرن الماضي في مواجهة تهديد الرايخ الثالث، موضحاً "ما كان أحد مستعداً لاستقبال لاجئين".
ويثير بروز اليمين المتطرف في دول مثل إيطاليا أو ألمانيا خوفاً شديداً في نفوسهم.
ويقول إريك ريتشارد فينش البالغ 97 سنة والناجي من أوشفيتز بيركيناو "الحاضر قاتم جداً"، بعد أن شهد على فوز اليمين المتطرف في النمسا. ويرى أن الناخبين انخدعوا كما خدع أدولف هتلر الألمان.
ويساورهم القلق من الوقوع في طي النسيان. وتقول إيفا شيانبلوم "أرى ذلك لدى أحفادي حتى. أقلق على الجيل الجديد لأنهم لا يملكون الصبر للإصغاء، وهم ينكبون فقط على الهواتف".
وتؤكد المجرية جوديت فارغا هوفمان البالغة 97 سنة والتي كانت في معتقل أوشفيتز "على مدى عقود، قالوا إننا نفرط في الكلام عن هذا الموضوع (...)، لكن كلما أتى جيل جديد تتراجع المعرفة بما حصل".
وتخشى إيلينا جبينا البالغة 82 سنة والتي كانت في سن السبعة أشهر عندما اعتقلت في معسكر كلوغا في إستونيا، "ألا يبقى أي ذكرى" بعد رحيل آخر الناجين.
وتحذر كاترين شالفين، وهي تستعيد تاريخ والدها غابريال بنيشو البالغ 98 سنة والمولود في الجزائر والذي أوقف في مارسيليا واعتقل في أوشفيتز، "ثمة جملة في التلمود مفادها (من ينسى ماضيه محكوم عليه باختباره من جديد)".
على رغم ذلك، هناك رسالة أمل وإيمان بالحياة من أشخاص كادوا يفقدونها، فالجنوب أفريقية إيلا بومنتال البالغة 83 سنة والتي نجت من غيتو وارسو ومايدانيك وأشوفيتز بيركيناو وبرغرن بلسن، تتحدث عن "فن الصمود والبقاء". وهي ولدت داخل وارسو وفقدت كل أفراد عائلتها، 23 شخصاً، في المعسكرات.
ويدعو الناجون إلى المقاومة ويوجهون نداء، كل على طريقته، من أجل الحرية والسلام والمسامحة وضد العنصرية ومعاداة السامية والفاشية التي تنهش العالم.
وتؤكد الأرجنتينية ليلي سوريانو البالغة 97 سنة والمولودة في جزيرة رودوس اليونانية عندما كانت تحت السيطرة الإيطالية، "يجب المحافظة على أمل بالاستمرار والكفاح من أجل ذلك". وهي تمكنت عندما كانت في سن الـ18 من الفرار من فرع كوفيرين التابع لمعتقل داشاو في ألمانيا قبيل تحريره.
ويشدد ماريك دونين فاسوفينش على ضرورة "نقل الشعلة إلى الشباب"، هو الذي انخرط في صفوف المقاومة البولندية في سن الـ15 ونجا من "مسيرة الموت".
ويقول "هم أملنا الوحيد. يجب ألا يستذكروا الموتى فقط الذين قتلوا أو رحلوا بل أيضاً أن هذا الأمر حصل ويجب ألا يتكرر".