Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

برادي كوربيت من سجن النازية إلى فخ الرأسمالية

فيلم "الوحشي" يعود إلى أصول السينما الكلاسيكية ويستوحي ملامح الخمسينيات

ناجون من الحرب العالمية الثانية في أميركا كما يصورهم الفيلم (ملف الفيلم)

ملخص

"الوحشي" للمخرج الأميركي برادي كوربيت الفائز بجائزة أفضل مخرج في الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية، كان يستحق أكثر من هذه الجائزة. واعترفت لجنة التحكيم بأهمية الفيلم أقله على مستوى الإخراج، لكنها أبعدته من "الأسد".

أحدث فيلم "الوحشي" للمخرج الأميركي برادي كوربيت دهشة كبيرة عند عرضه في مهرجان البندقية، وكثر توقعوا له الجائزة الكبرى التي ذهبت في النهاية إلى بدرو ألمودوفار وفيلمه "الغرفة المجاورة". لكن "الموسترا" ليست نهاية الطريق وقد يجد الفيلم مكاناً له تحت الشمس في موسم الجوائز المقبل. 

منذ اللقطات الأولى يثير الفيلم الأسئلة ويحبس الأنفاس. والكاميرا تتبع شخصية تخرج من السفينة التي ترمز إلى رحلة المهاجرين نحو أميركا، بوصفها تمثل انطلاقة جديدة للهاربين من جحيم الحرب العالمية الثانية. وعلى متن هذه السفينة رجل اسمه لاسلو توت مهندس معماري مجري (أدريان برودي) نجا من محرقة النازيين. وأول صورة بارزة تطل في الفيلم هي لتمثال الحرية لكننا نراه معكوساً، مما يكرس منظوراً غير تقليدي للأحداث التي ستتوالى خلال 215 دقيقة، فتترك المشاهد في نشوة سينمائية قلما تضاهى. 

الحكاية تعبر بنا نصف قرن من سيرة هذا الشخص (شخصية متخيلة) يحاول الهرب من ماضيه نحو مستقبل غير محدد المعالم، قافزاً من النازية إلى الرأسمالية. ويطرح الفيلم أسئلة حول الحرية الحقيقية وما إذا كانت الرأسمالية سجناً آخر. ويمنع النص نفسه من الغوص في تفاصيل ماضيه المأسوي مركزاً بدلاً من ذلك على محاولته التكيف مع حياته الجديدة في أميركا، أرض الأحلام والفرص التي تبدو مليئة بالوعود والاحتمالات المفتوحة على مصراعيها. 

ويحاول لاسلو تأسيس حياة جديدة في ما يعرف بـ"أرض الفرص". وعلى رغم أن الحظ يلعب دوراً في جانب من الأحداث، فقدراته وكفاءاته هي التي توصله. وأميركا ليست أرضاً تمنح الجميع فرصاً بالتساوي، بل تفتح أبوابها لأولئك الأكثر كفاءة وفرادة بينما يبقى الآخرون في الظل. والنقاش حول مفهوم النجاة لن يتوقف: كيف تؤثر التجارب السابقة على الرؤية الجديدة للعالم؟ ما دور النجاة في خلق الفن، وهل يمكن تحقيق الإبداع تحت ضغط اقتصادي؟ تطرح هذه القضايا بطريقة ضمنية، فنشعر بها بدلاً من تناولها بالملعقة.

عقبات كثيرة

يدخل النجاح حياة لاسلو بعنف شديد، عندما يكلفه ملياردير أميركي (غاي برس) بتصميم مكتبة ضخمة. ثم يتوسع المشروع ليُطلب إليه إنجاز مجمع متكامل يضم مكتبة وكنيسة وصالة رياضية ومركزاً ثقافياً، تكريماً لذكرى والدة الرجل الثري. وبناء هذا المجمع يتحول إلى تحد غير مسبوق ليس فقط على الصعيد المهني بل الشخصي، مما يخلق حالاً من الفوضى والتوتر والضغط النفسي. هذا كله يصاحبه وصول زوجة لاسلو من أوروبا بعد نجاتها من الحرب. ولاسلو يجد نفسه عالقاً بين الطموح والضغط المتزايد. ويشعر وكأنه يقاتل ضد عقبات لا حصر لها. 

أي محب للسينما قد يتذكر المهندس في فيلم "فيتسكارالدو" لفرنر هرتزوغ الذي حاول تحقيق المستحيل بسحب سفينة عبر الجبال. والمشروع يدفع الفيلم إلى أبعاد جديدة إذ تتصاعد الصراعات وتبدأ الحقائق في الظهور تدريجاً. إنه نزول إلى قاع الجحيم. هل سيكون هذا المشروع نهاية رجل، خصوصاً بعد وقوعه في فخ تعاطي المخدرات؟

"الوحشي" الذي صوره مخرجه بشريط خام 70 ملم "فيستافيجن" تجربة سينمائية تتعذر مقارنتها بأية تجربة مرت علينا خلال الأعوام الأخيرة، يعيدنا إلى أصول السينما الكلاسيكية كما أنه يستوحي من ملامح الخمسينيات ومفرداتها. وأبدع المصور لول كراولي في استخدام التقنيات القديمة المستعادة. هذا، فيما نمط الأداء الذي يبعث على الحنين والموسيقى الأصيلة التي ألفها دانيال بلومبيرغ يرفعان من شأن العمل إلى مستويات خرافية، تجعله تحفة سينمائية كلاسيكية على الفور. وشخصياً، شعرت بنوع من الانتعاش الفكري والجمالي وأنا أتابع الأحداث التي تمتد عبر ثلاث ساعات ونصف الساعة، وهي مدة زمنية تمر من دون أي شعور بالملل. ولا توجد أية لحظة غير ضرورية أو مشهد يمكن الاستغناء عنه. واستطاع كوربيت استعادة سحر السينما وإحياء ماضيها متعمقاً في زوايا مظلمة قلما تطرقت إليها السينما الحديثة. والفيلم يتناسل من تقليد السينما الأميركية الذي نحبه بتوجهاته النقدية وطابعه التجريبي، بعيداً من التيار الاستهلاكي السائد في هوليوود حالياً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يستلهم الفيلم العمارة الوحشية التي ظهرت خلال الخمسينيات، وشيده كوربيت كما شيد لاسلو تحفته المعمارية، فكل من المخرج والشخصية يسعيان إلى تحقيق طموحات لا حدود لها، الأول على مستوى السينما والثاني في مجال الهندسة. والعلاقة غير المباشرة بين كوربيت ولاسلو تتجسد في كثير من النواحي، ويظهر هذا الترابط العميق جلياً من خلال إصرار الشخصيتين على كسر القوالب المألوفة وتجاوز التوقعات التقليدية.

يجمع الفيلم بين عدد من القضايا المهمة: علاقة الهندسة المعمارية ببيئتها وتأثيرها الاجتماعي والثقافي، والحب وصموده في وجه المسافات والزمن، والتروما والإذلال، وفقدان الثقة بالطبقة البورجوازية. كل واحد من هذه الشؤون يمكن أن يكون محور فيلم منفصل لكن كوربيت دمجها في إطار حياة متكاملة بحيث لا تتداخل أو تطغى. ويُظهر النص تماسكاً وانسجاماً في كل عنصر حتى يشعر المشاهد وكأن كل فكرة جزء من لحن متكامل.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما