ملخص
اللافت في سيرة الرسام الهولندي بيار - بول روبنز أنه وقع في فخ التعاون مع أرشيدوقة النمسا الداهية، الوصية على العرش اليزابيثا، التي أقنعته بأنه إذ يخدمها سياسياً، إنما يخدم وطنه الممزق ودينه الكاثوليكي الذي يهدده الإصلاح البروتستانتي
في البداية ومن ناحية منطقية فعلت السياسة فعلها في حياة الرسام الهولندي بيار - بول روبنز (1577 - 1640)، جاعلة إياه وعلى خطى كثر من المبدعين قبله، وكثر آخرين من بعده، ينحو نحو أفلاطون وابن خلدون، متطلعاً للعب دور في السلطة وفي سياسات القصور الكبرى قد لا يستقيم مع خياراته الإبداعية، لكن المكانة التي توفرها له تلك الخيارات ونجاحه فيها يؤهلانه لخوضها. غير أن الرسام الذي كان بفضل تمرسه في الرسم وعظمة إبداعه، قد وصل إلى الذروة والمكانة الاستثنائية ليس في بلاده الهولندية وحدها، بل في أوروبا كلها، سرعان ما سيكتشف أن ممارسة السياسة أمر لا جدوى منه، ويقلل من قيمة المبدع من دون أن يضيف إليها شيئاً، لكن المشكلة أنه حين اكتشف ذلك كان الوقت للتراجع فات، وبخاصة أنه في السياسة كان وقع في فخ التعاون مع أرشيدوقة النمسا الداهية، الوصية على العرش اليزابيثا، التي أقنعته بأنه إذ يخدمها سياسياً، إنما يخدم وطنه الممزق من ناحية ودينه الكاثوليكي الذي يهدده الإصلاح البروتستانتي من ناحية ثانية. وكانت حجج الأرشيدوقة مقنعة على أية حال، يشهد على ذلك ما يقوله التاريخ من المصائر التي كانت مكتوبة تحت الاحتلال الإسباني من جهة والأطماع الإنجليزية من جهة أخرى.
في براثن السلطة
ومهما يكن من أمر هنا، لا شك في أن الأرشيدقة لم تكن لتضغط على الرسام كي تقنعه، فهو من ناحية كان استمرأ خوض الحراك السياسي وأغرم بالتلاعب بين القصور والمستشاريات، كما أنه أدرك أن "عمله" السياسي سيضاعف من مكاسبه الفنية. ثم هل هناك من لا تغريه السلطة، إذ تصل إليه على طبق من فضة، خصوصاً إن كان صاحب قضية؟ وروبنز كان صاحب قضية وكذلك صاحب فن يعيش بفضله، ويؤمن ما يمكنه من أن يعيش مع زوجته المحبة هيلين حياة كريمة، لا شك في أن خدمته للأرشيدوقة أسهمت في دفع هذه إلى المساهمة فيها، لكن ما كان مطلوباً من الرسام، كلاعب في السياسة، لم يكن معقداً ولا كثيراً. كان يتعين عليه أن يفاوض باسم الأرشيدوقة وفي عداد وفود من مفاوضين آخرين حول شؤون تتعلق بالبلاد الواطئة، هولندا، التي كانت مؤلفة من أقاليم عدة متفاوته في مذاهبها واللغات التي تنطق بها، وولاءات أبنائها الموزعة بين أمم أوروبية قوية تطمع كل أمة منها بالهيمنة على البلد الصغير الممزق، مستدرجة فئة من أبنائه تدين بما تدين به هي من مذاهب، وجزءاً من مناطقه وأقاليمه إلى نفوذها من دون إمكان تقسيمه، لأنه هو الآخر كان أصغر من أن يقسم وأكبر من أن يبتلع! في استعارة لتعبير ابتدعته عند نهايات القرن الـ20 مخيلة سياسية لبنانية، تحديداً في حقبة من الزمن وجد لبنان فيها نفسه في وضعية تشبه تماماً وضعية هولندا قبل نحو من خمسة قرون، لكن مشكلة لبنان أنه لم يكن لديه فنان عبقري من طينة روبنز يسهم في حل مشكلاته العضوية! غير أن هذا لا يعني هنا أن تدخل روبنز في سياسات وطنه كان هو ما مكن ذلك الوطن من التغلب على الانقسام، بل إن روبنز، إذ أدرك بسرعة أن تدخله في المحادثات لن يقدم ولن يؤخر، سعى دائماً إلى إقناع سيرته النمسوية بإعفائه من النشاط السياسي فيخدمها بصورة أفضل، لكنها هي كانت ترى الأمور من منظور آخر هو منظور المكانة التي يؤمنها لها وجود روبنز متحدثاً باسمها متجولاً بين مدن أوروبية متنقلاً بين إسبانيا وإنجلترا وفرنسا، حيث هو وفنه معروفان ومعترف بهما. وهكذا كان على روبنز أن ينتظر كثيراً قبل أن يفلت من ذلك الفخ المحكم المبني أصلاً على حبه واحترامه العميقين للأرشيدوقة، أكثر منه على الخوف من إغضابها.
نهاية غير متوقعة
صحيح أن الانتظار طال أكثر مما ينبغي، لكن روبنز تمكن في نهاية الأمر من الحصول على مبتغاه ولكن بطريقة كانت محزنة حقاً بالنسبة إليه. فعند نهاية عام 1633 وبعد سنوات من التقلب على جمر الرغبة في الإفلات من العمل السياسي، وعدم الرغبة في إغضاب الأرشيدوقة الصديقة، بل حتى عدم الرغبة في مشاركتها دسائسها ولا سيما الدامية في فرنسا تحت ظل الكاردينال الداهية بدوره ريشيليو، وبالتعاون مع ابنتها مارغريت في نصب الكمائن السياسية والانقلابية في عهد صهر الأرشيدوقة لويس الـ13. عند نهاية ذلك العام ماتت السيدة الأرشيدوقة، صحيح أن روبنز خسر بموتها راعية وصديقة وممولة ومعجبة بفنه ساعدته طوال ما يزيد على ربع قرن وفتحت له كثيراً من الدروب، وهي التي كانت تقدر تقديراً كبيراً سنوات عيشه وتمرنه على ممارسة الفن في إيطاليا وطنها الأصلي. لكن الفنان الكبير حتى وإن كان حزن حقاً على موت اليزابيثا، وأحس بخسارة عاطفية كبيرة، أدرك أن ثمة قيوداً كانت تكبل يديه تحطمت الآن، لكنه كان يعرف أن ذلك لا علاقة له بفنه على الإطلاق. فالسيدة الحصيفة، والحق يقال، لم تكن تتدخل في فنه واختياراته الفنية على الإطلاق، وحتى حين يرسم أعتى أعدائها، أو يضع نفسه في خدمتهم أو خدمة عظمة بلادهم. صحيح أن وريثها في الهيمنة على السياسات النمسوية - وهي تركت النمسا إمبراطورية كبيرة ذات نفوذ عالمي على أية حال - ابنها الأرشيدوق فردينان، واصل سياسة أمه في إحاطة روبنز بالصداقة والرعاية، لكنه في الحقيقة لم يكن ذواقة فن كما كانت هي، ولا كان كريماً كما اعتادت أن تكون، ولكن روبنز كان بات في وضعية تجعله بغير ما حاجة إلى أية رعاية ملكية الآن. وهو حتى ومن دون أن يكون مدركاً بأن السنوات المتبقية من عمره لن تكون طويلة (سبع سنوات لا أكثر، إذ إنه سيلحق الأرشيدوقة في عام 1640 وهو في الـ63) فإن أوضاعه المالية كانت جيدة، وكانت الطلبات الفنية تنهال عليه غير ذات علاقة بأية سياسة من السياسات. ومن هنا نراه إذ راح يتأمل حياته وأوضاعه يقرر أن الوقت حان الآن للانصراف كلياً إلى الفن وترك السياسة للذين يحبون ممارستها، و"لا سيما حين لا يكون لديهم أشياء أخرى يفعلونها في حياتهم"، كما راح يردد خلال السنوات الأخيرة من حياته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفن هو الأبقى
صحيح أن السنوات الطويلة التي أمضاها روبنز في خدمة أرشيدوقة النمسا وسياساتها لم تحدث أي تأثير سلبي في فنه، بل بالعكس كانت حقبة أمنت له جولات أوروبية كثيرة مكنته من أن يبقى على تواصل مع كبار فناني المرحلة وعلى اطلاع على مستجداتها الفنية، لكن تفرغه النهائي للفن الخالص ومن دون أية خلفيات أيديولوجية خلال السنوات الأخيرة من حياته مكنت روبنز من أن يجد ما كان بحاجة إليه من الوقت لتنفيذ مشاريع ضخمة، ومنها على سبيل المثال تنفيذ تلك المجموعة من اللوحات التي رسمها على سقف صالة إحدى القاعات الرئيسة لمصرف وايتهال اللندني. وهي لوحات تماثل في عظمتها ما كان لفت نظر روبنز في إنجازات تيوبولو الجدارية في البندقية وآلى على نفسه أن يحقق ما يماثلها يوماً، وها هو هنا يحققها كخاتمة لتشييد تلك القاعة التي كان الملك تشارلز الأول أرادها مخصصة للعروض وحفلات الاستقبال الكبرى، لكنه ما أن انتهى روبنز من رسم سقفها في تسع لوحات، حتى منع ذلك الملك ذلك الاستخدام لخوفه من أن يفسد دخان الشموع وتبدل الإضاءة ألوان تلك اللوحات التي اعتبرها معادلاً لندنياً لسقف كاتدرائية سكتين في الفاتيكان.