ملخص
فرض الرسوم الجمركية أدى إلى ارتفاع كلفة السلع المستوردة، مما انعكس على المستهلكين بزيادة أسعار المنتجات مثل الإلكترونيات والأجهزة المنزلية، فمؤشر التضخم الأميركي شهد ارتفاعاً 2.1 في المئة في 2016 مقارنة بـ0.1 في المئة في 2015، وفقاً لمكتب إحصاءات العمل الأميركي
تعد الرسوم الجمركية أداة اقتصادية تستخدم لحماية الصناعات المحلية وزيادة الإيرادات الحكومية، ومع ذلك فإن استخدامها المفرط أو غير المدروس قد يؤدي إلى تصاعد التوترات التجارية بين الدول، مما يمهد الطريق لنزاعات اقتصادية قد تتطور إلى حروب تجارية شاملة.
واستخدمت الرسوم الجمركية للمرة الأولى بصورة واسعة كأسلحة في حرب تجارية عام 2016، بعدما بدأت الولايات المتحدة في تنفيذ سياسات تجارية أكثر حمائية في عهد الرئيس الأميركي المنتخب ترمب خلال فترة رئاسته الأولى ضد الصين القوة الاقتصادية الثانية في العالم، ومع اندلاع تلك الحرب تفشت عدد من المؤشرات الاقتصادية السلبية التي ظهرت نتيجة فرض الرسوم الجمركية عام 2016 وما بعده.
وبعد مرور نحو عقد على اندلاع الحرب التجارية الأولى، فقد يشهد العالم تجدد الصراع واندلاع الحرب التجارية الثانية، مع عودة مطلق الرصاصة الأولى في الحرب التجارية مع حلول الإثنين المقبل، إذ تتجه الأنظار إلى البيت الأبيض، فهو اليوم المرتقب لتنصيب الرئيس الـ47 لأميركا دونالد ترمب الذي يوافق الـ20 من يناير (كانون الثاني) الجاري.
وتتصدر مشاهد تجدد الحرب التجارية ما بين الولايات المتحدة والصين مخاوف المستثمرين والأسواق العالمية، خصوصاً أن السياسات التجارية التي اقترحها الرئيس الأميركي المنتخب خلال حملته الانتخابية، تمتد هذه المرة لتضم دولاً أخرى، حتى من الحلفاء وليس الصين فحسب.
مثلها مثل الحروب العسكرية، فالجميع يخرج منها متضرراً حتى لو انتصر أحد أطراف الصراع لبعض الوقت، إلا أنه في النهاية سيتضرر لاحقاً أيضاً مالياً واقتصادياً، بل إن الأضرار تطاول أطرافاً عدة خارج نطاق الصراع.
الحرب التجارية الأولى
بداية الحرب التجارية الأولى، كانت في عامي 2018 و2019، عندما فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية على واردات صينية بقيمة 350 مليار دولار، وردت الصين بفرض رسوم جمركية على واردات بقيمة 100 مليار دولار.
الخسائر المباشرة للحرب التجارية الأولى، رصدتها
ورقة بحثية من مركز أبحاث السياسة الاقتصادية البريطاني، إذ أشارت إلى تتضرر مؤشرات الأسهم والسندات في الأسواق المالية من السياسات التجارية الحمائية للدول، فضلاً عن أسعار الصرف وتدفقات الاستثمار، ولا يقتصر ذلك على الدول التي تأثرت صادراتها بصورة مباشرة، بل يمتد للدولة التي تفرض الحواجز التجارية أمام غيرها من البلدان.
فخلال الشهر الأول من فرض التعريفة الجمركية الجديدة بنسبة 30 في المئة على مكونات الألواح الشمسية المستوردة من الصين آنذاك، انخفض مؤشرا الأسهم الصينية لأشباه الموصلات والمعدات الكهربائية تسعة في المئة، وتراجعا أربعة في المئة خلال الأسبوع الأول من بدء الحرب فحسب.
ولفت مركز أبحاث السياسة الاقتصادية البريطاني إلى أنه خلال الأشهر الستة المنتهية في يونيو (حزيران) 2018، انخفضت الأسهم الأميركية أربعة في المئة وتراجعت نظيرتها الصينية 13 في المئة، وخسرت السندات الأميركية ما بين اثنين وخمسة في المئة، وانخفض اليوان (العملة الصينية) ثلاثة في المئة مقارنة بالدولار.
وأثرت الرسوم الجمركية الأميركية في نحو 18 في المئة من وارداتها، أي ما يعادل 2.6 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي، بينما أضرت إجراءات الانتقام الصينية بـ11 في المئة من وارداتها، أي ما يعادل 3.6 في المئة من حجم ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وأشار المركز، إلى أن المستهلكين للسلع المستوردة، سواء من الأميركيين أو الصينيين لم يسلموا، إذ تحملوا العبء الأكبر من الرسوم الجمركية من خلال ارتفاع أسعارها، وأن إجمال الدخل الحقيقي في كل من الولايات المتحدة والصين انخفض نتيجة لذلك.
ومن الآثار السلبية أيضاً، نقلت شركات صينية كثيرة تعمل في قطاع أشباه الموصلات والتكنولوجيا إنتاجها إلى مصانع أخرى في جنوب آسيا لتجنب التعريفات الجمركية.
وعلى أثر ذلك، فقد مؤشر الأسهم الصينية لأشباه الموصلات ومعداتها 12 في المئة خلال شهر واحد، وخسرت أسهم الشركات الصينية الرائدة في هذا القطاع ما بين 15 و20 في المئة من قيمتها السوقية.
أما على صعيد، السلع المعمرة الاستهلاكية، ففي الشهر الأول من فرض رسوم جمركية آنذاك بنحو 50 في المئة على الغسالات الواردة لأميركا، فقدت أسعار أسهم كبار مصدري الغسالات ما يصل إلى سبعة في المئة من قيمتها، مع انخفاض بنسبة تراوح ما بين اثنين وخمسة في المئة خلال الأسبوع الأول فحسب.
على صعيد العملات، انخفض الدولار الكندي واليورو بنسبة أقل من واحد في المئة مقارنة بالدولار الأميركي، فيما ارتفع البيزو المكسيكي بنحو ستة في المئة مقارنة بالدولار، خلال الشهر الأول من فرض الرسوم الجمركية الأميركية عام 2016.
انخفاض التجارة العالمية
في 2016 وما بعده، شهدت التجارة العالمية تباطؤاً ملحوظاً نتيجة لارتفاع الحواجز التجارية، وفقاً لتقرير منظمة التجارة العالمية "WTO" فقد تراجعت معدلات نمو التجارة العالمية في 2016 إلى 1.3 في المئة، وهو أدنى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.
أيضاً شهدت الأسواق المالية اضطرابات بسبب تزايد التوترات التجارية، خصوصاً بعد فرض رسوم جمركية على الصين والاتحاد الأوروبي، إذ انخفض مؤشر "داو جونز" الصناعي ستة في المئة خلال النصف الثاني من 2016 بعد تصاعد التوقعات بفرض سياسات حمائية.
كذلك، تراجع نمو الصناعات المعتمدة على الواردات فعديد من الصناعات الأميركية التي تعتمد على الواردات، مثل صناعة السيارات والتكنولوجيا، تأثرت سلباً بسبب ارتفاع كلفة المواد الخام المستوردة.
فعلى سبيل المثال، أعلنت شركات مثل "فورد" و"جنرال موتورز" عن ارتفاع كلف الإنتاج بسبب التعريفات الجمركية على الألمنيوم والفولاذ.
ارتفاع أسعار المستهلكين
فرض الرسوم الجمركية أدى إلى ارتفاع كلفة السلع المستوردة، مما انعكس على المستهلكين بزيادة أسعار المنتجات مثل الإلكترونيات والأجهزة المنزلية، فمؤشر التضخم الأميركي شهد ارتفاعاً 2.1 في المئة في 2016 مقارنة بـ0.1 في المئة في 2015، وفقاً لمكتب إحصاءات العمل الأميركي.
تسببت التوترات التجارية في تراجع ثقة المستثمرين، مما أدى إلى تباطؤ خلق فرص العمل في بعض القطاعات، ففي 2016 انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة "FDI" في الولايات المتحدة 15 في المئة مقارنة بالعام السابق، وفقاً لتقارير البنك الدولي.
الصين، باعتبارها أحد أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، عانت تباطؤاً في الصادرات، مما أدى إلى تراجع النمو الاقتصادي الصيني إلى 6.7 في المئة في 2016 مقارنة بـ6.9 في المئة في 2015.
الاتحاد الأوروبي تأثر أيضاً، إذ انخفضت الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة 3.5 في المئة بسبب التوترات الجمركية.
ففرض الرسوم الجمركية في 2016 أدى إلى تباطؤ في التجارة العالمية، وارتفاع كلف الإنتاج، وزيادة أسعار المستهلكين، وانخفاض الاستثمارات، مما كان له تأثير سلبي في الاقتصادين الأميركي والعالمي.
توقعات أضرار الحرب التجارية الثانية
أما عن الحرب الجديدة المتوقعة هذا العام، فتوقع محللو "فاكت ست" المتخصصة في جمع وتحليل البيانات انخفاضاً بنسبة خمسة في المئة في أسهم الصناعات المستهدفة، خلال فترة من أسبوع إلى أربعة أسابيع بعد فرض الرسوم الجمركية المرتقبة، مع خسارة بنسبة تراوح ما بين 10 و15 في المئة في القيمة السوقية للشركات الرائدة المتضررة بصورة مباشرة.
كذلك، ومع استيراد الولايات المتحدة جزءاً كبيراً من السيارات ومكوناتها من المكسيك، يتوقع المحللون انخفاضاً بنسبة تسعة في المئة، في مؤشر أسهم صناعة قطع غيار السيارات في المكسيك، وتراجع بنسبة أربعة في المئة بمؤشر أسهم الصناعة المناظر في أميركا.
أما في حال تفاقم الإجراءات الانتقامية ما بين أميركا وكندا، يرى محللو شركة البيانات أن ذلك سيؤدي لانخفاض بنسبة خمسة في المئة بالسوق الأميركية، و10 في المئة للأسهم الكندية، مع هبوط مؤشرات السندات الأميركية بنحو خمسة في المئة، وتراجع بنسبة ثلاثة في المئة بقيمة الدولار الكندي.
البنك الدولي يحذر
من جانبها تدخلت المؤسسات المالية الدولية محذرة الجميع من مغبة السير في حرب الرسوم الجمركية، كان آخر تلك المؤسسات هو البنك الدولي الذي حذر الخميس الماضي، من أن الرسوم الجمركية الأميركية الشاملة المتوقع أن تبلغ 10 في المئة قد تقلص النمو الاقتصادي العالمي الضعيف بالفعل، والمرجح أن يسجل 2.7 في المئة خلال 2025 بنحو 0.3 نقطة مئوية إذا رد شركاء الولايات المتحدة التجاريون بفرض رسوم جمركية من جانبهم.
وقال البنك الدولي، إن محاكاة باستخدام نموذج للاقتصاد الكلي العالمي، أظهرت أن زيادة قدرها 10 نقاط مئوية في الرسوم الجمركية الأميركية على جميع الشركاء التجاريين عام 2025 قد تقلص النمو العالمي 0.2 نقطة مئوية لهذا العام، مشيراً إلى أن الرد من الدول المستهدفة قد يؤدي إلى تفاقم الضرر على النمو.
وأضاف، أن هذه التقديرات تتفق مع دراسات أخرى أظهرت أن زيادة قدرها 10 نقاط في الرسوم الجمركية الأميركية قد "تخفض مستوى الناتج المحلي الإجمالي الأميركي بنسبة 0.4 في المئة، في حين أن الرد المماثل من الشركاء التجاريين قد يفاقم التأثير السلبي الإجمالي إلى 0.9 في المئة".
لكنه قال، إن النمو في الولايات المتحدة قد يزيد أيضاً بنحو 0.4 نقطة مئوية عام 2026 إذا تم تمديد أجل الخفوض الضريبية في الولايات المتحدة، مع وجود آثار عالمية طفيفة فحسب.
وانضم بنك "التسويات الدولية" للبنك الدولي ليحذر أيضاً من زيادة "الخلافات والتفتت" في التجارة العالمية مشيراً إلى أن نشوب حرب تجارية واسعة النطاق بين واشنطن ودول أخرى هو "سيناريو خطر ملموس".
وتوقع أحدث تقرير للبنك الدولي حول آفاق الاقتصاد العالمي الذي يصدر مرتين سنوياً نمواً اقتصادياً عالمياً مستقراً عند 2.7 في المئة في عامي 2025 و2026، وهو نفس معدل النمو عام 2024. وحذر من أن الاقتصادات النامية تواجه الآن أضعف توقعات النمو على المدى الطويل منذ عام 2000.
وقال البنك الدولي، إن الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصادات النامية يبلغ الآن نحو نصف مستواه في أوائل العقد الأول من القرن الـ21، وإن القيود التجارية العالمية أعلى بخمس مرات من المتوسط ما بين عامي 2010 و2019.
وأضاف، أن النمو في البلدان النامية من المتوقع أن يصل إلى أربعة في المئة خلال عامي 2025 و2026، وهو أقل بكثير من تقديرات ما قبل الجائحة بسبب أعباء الديون المرتفعة وضعف الاستثمار وتباطؤ نمو الإنتاجية، إلى جانب ارتفاع كلف تغير المناخ.
وأضاف أن الناتج الإجمالي في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية من المتوقع أن يظل أقل بنسبة تزيد على خمسة في المئة عن اتجاهه قبل الجائحة بحلول عام 2026، بسبب الجائحة والصدمات اللاحقة.
وقال كبير الاقتصاديين في البنك الدولي إندرميت غيل في بيان، "الأعوام الـ25 المقبلة ستكون أصعب على الاقتصادات النامية مقارنة بالأعوام الـ25 الماضية"، وحث الدول على تبني إصلاحات محلية لتشجيع الاستثمار وتوطيد العلاقات التجارية.
وقال البنك الدولي، إن النمو الاقتصادي في البلدان النامية انخفض من نحو ستة في المئة خلال العقد الأول من القرن الـ21 إلى 5.1 في المئة في العقد الثاني من القرن الـ21، وبلغ في المتوسط نحو 3.5 في المئة خلال عشرينيات القرن الـ21.
وقال البنك الدولي، إنه يتوقع مزيداً من الأخطار السلبية على الاقتصاد العالمي، مشيراً إلى زيادة في التدابير المعطلة للتجارة، التي تنفذها بصورة رئيسة الاقتصادات المتقدمة وعدم اليقين في شأن السياسات المستقبلية التي تعمل على تثبيط الاستثمار والنمو.
ومن المتوقع أن يصل متوسط التجارة العالمية في السلع والخدمات التي توسعت 2.7 في المئة عام 2024، إلى نحو 3.1 في المئة خلال عامي 2025 و2026، لكنها ستظل أقل من متوسطات ما قبل الجائحة.
تعزيز الشراكة بين المكسيك والاتحاد الأوروبي
وفي سياق الرد، أعلن الاتحاد الأوروبي الجمعة الماضي، عن اتفاق مع المكسيك لتعزيز علاقاتهما التجارية، وخصوصاً في مجال الزراعة، وجاء هذا الاتفاق قبل ثلاثة أيام فحسب من تنصيب دونالد ترمب الذي هدد بفرض رسوم جمركية على الجانبين.
ويجري التفاوض منذ عام 2016 في شأن تعزيز الشراكة القائمة منذ عام 2000 ما بين الاتحاد الأوروبي والمكسيك.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، الجمعة الماضي (17 يناير الجاري) تتخذ أوروبا والمكسيك خطوة كبيرة إلى الأمام في شراكتهما".
وأضافت، أن "المصدرين في الاتحاد الأوروبي سيستفيدون من فرص تجارية جديدة، بمن في ذلك مزارعونا وشركات الأغذية الزراعية".
وذكرت المفوضية الأوروبية أن الاتفاق من شأنه إزالة الرسوم الجمركية بنسبة تصل إلى 100 في المئة على منتجات التصدير المهمة للاتحاد الأوروبي مثل الجبن والدواجن ولحم الخنزير والمعكرونة والتفاح والمربى، إضافة إلى الشوكولاتة والنبيذ.
في النهاية، فقد تسببت الحرب التجارية السابقة ما بين الولايات المتحدة والصين إلى زيادة الرسوم الجمركية على ما يقارب 450 مليار دولار من التجارة الثنائية، وشكلت انتكاسة في أحد أركان الرأسمالية الغربية، وهي حرية انتقال السلع والخدمات والعمالة ورؤوس الأموال، والجميع يترقب حفل مراسم أداء القسم الرئاسي في الولايات المتحدة الإثنين المقبل، فهل يعيد ترمب تشكيل الخريطة التجارية، وتذعن دول العالم لمساعيه في فرض مزيد من الهيمنة الأميركية، أم تنتهي الحال ببلاده في معزل عن الدول، وتؤدي سياساته لدعم التخلي عن الدولار؟