Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سجال مصري جديد ميدانه "تعريب الطب" في الأزهر

متخصصون يرون أنه سيؤدي إلى تكرار فشل التجربة السورية وآخرون: انتصار للعربية وتعزيز للانتماء

أعلن المركز الإعلامي لجامعة الأزهر أنه تُجرى دراسة علمية متأنية حول إمكان تعريب العلوم الطبية (أ ف ب)

ملخص

استند قرار رئيس جامعة الأزهر إلى مجموعة من القوانين والتشريعات التي تضمن استمرارية تطوير العملية التعليمية، وكان من بينها القانون رقم 103 لعام 1961 في شأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التابعة له، إضافة إلى القرار الجمهوري رقم 250 لعام 1975 الخاص باللائحة التنفيذية للقانون المذكور، فضلاً عن قانون الخدمة المدنية رقم 81 لعام 2016 .

أحدث مقترح لرئيس جامعة الأزهر في مصر حول دراسة "تعريب العلوم" وتشكيل لجان لبحث "تعريب المقررات الدراسية" في كلية الطب، جدلاً وانقساماً واسعاً في الأوساط الأكاديمية والنقابات الطبية ولدى مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، إذ تباينت الرؤى حوله بين فريق مؤيد يرى أنه بمثابة انتصار للغة العربية ويعزز الانتماء والهوية ويزيد مساحة الإبداع والابتكار، وبين فريق معارض يرى أنه سيؤدي إلى تأخر الطب وتراجعه سنوات للخلف، إضافة إلى خلق جيل من الأطباء بمعزل عن التطور والتأثير العلميين، وسيكرر فشل التجربة السورية في تدريس مقررات ومناهج الطب باللغة العربية.

وأظهر خطاب منسوب إلى رئيس جامعة الأزهر الدكتور سلامة داوود، مؤرخ في 11 يناير (كانون الثاني) الجاري، أنه وجه بتشكيل لجنة من قسم الطب النفسي بطب الأزهر لتعريب الطب النفسي برئاسة الدكتور محمود عبدالرحمن حمودة أستاذ الطب النفسي في القسم ورئيس قسم الطب النفسي السابق بطب الأزهر، كبداية لتعريب باقي أقسام كلية الطب، كما نص القرار على أن يتم تنفيذه من قبل جميع الجهات المتخصصة، بما يتوافق مع اختصاصاتها، لضمان سير عملية تعريب المقررات الدراسية بصورة دقيقة وفاعلة.

واستند قرار رئيس جامعة الأزهر إلى مجموعة من القوانين والتشريعات التي تضمن استمرارية تطوير العملية التعليمية، وكان من بينها القانون رقم 103 لعام 1961 في شأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التابعة له، إضافة إلى القرار الجمهوري رقم 250 لعام 1975 الخاص باللائحة التنفيذية للقانون المذكور، فضلاً عن قانون الخدمة المدنية رقم 81 لعام 2016 .

"تجربة فاشلة" ولكن

"المقترح مرفوض جملة وتفصيلاً"، هكذا يعقب نقيب أطباء الأسنان الدكتور إيهاب هيكل على المقترح، مشيراً إلى أنه سبق تطبيق تلك التجربة في سوريا قبل عشرات الأعوام وفشلت بصورة ذريعة ومتسائلاً "لماذا نريد تكرار تجربة أثبتت فشلها من قبل، ولماذا يريد بعضهم أن نعود سنوات للخلف مرة أخرى على رغم تقدمنا في الطب حالياً؟".

ويؤكد هيكل خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن تدريس مقررات ومناهج الطب والصيدلة وطب الأسنان باللغة العربية سيتسبب في تأخر المجتمع وحدوث عثرات جمة أثناء التطبيق للأطباء، مرجعاً ذلك إلى أن معظم مصطلحات وتعريفات الطب لاتينية وليست إنجليزية، علاوة على أنه سيمنع الخريج من مواكبة أحدث التطورات في مجال الطب بسبب حاجز اللغة ومتوقعاً رفض المقترح وعدم قبوله مجتمعياً.

ويتفق نقيب الأطباء الدكتور أسامة عبدالحي مع الطرح السابق، قائلاً "قرار تعريب علوم الطب يصعب تطبيقه على الأطباء حالياً ومن الأيسر عليهم في التطبيق دراسة مناهج الطب باللغة الإنجليزية وليست العربية"، منوهاً بأن الحضارة السائدة حالياً هي الغربية، بالتالي يصعب أن يتم تدريس مناهج ومقررات العلوم الطبية باللغة العربية، وأوضح أن العولمة أتاحت الفرصة للغة الإنجليزية أن تفرض سيطرتها على العالم.

غير أنه يرى في الوقت ذاته أن تدريس العلوم الحديثة بلغتها الوطنية الأصلية بات ضرورة حتمية، واصفاً تلك الخطوة بـ"الإيجابية"، وأشار إلى أن مصلحة أي مجتمع وسبيل نهضته وتطوره يبدأ من التعلم بلغته الأصلية حتى تكون هناك ثقافة علمية في المجتمع، مثلما يحدث في كثير من بلدان العالم التي تدرس مناهجها بلغاتها الأصلية.

 

ووفق نقيب الأطباء، فإن عدم تدريس العلوم الحديثة بلغتها الأصلية سيجعل الثفافة "رجعية وليست تقدمية"، مستشهداً بمثال أنه في القرون الوسطى كان مصدر العلوم هم العرب وكانت اللغة العربية هي السائدة، ولكن بعد تطور البلدان الأوروبية أصبحت للغة الإنجليزية قوتها.

ويعضد الآراء السابقة عضو مجلس النقابة العامة للأطباء الدكتور إبراهيم الزيات، موضحاً أن هذا المقترح يصعب تطبيقه على أرض الواقع، وقال "غالبية البلدان العربية ومن بينها مصر حالياً مستهلكة وليست منتجة للطب لأنها تعتمد على ما يصل إليها من الخارج"، واستشهد بالتجربة السورية، معتبراً أنها لم تنجح على الإطلاق ومدللاً على ذلك بغياب الأطباء السوريين عن مراكز التفوق والتأثير والنفوذ في تلك المهنة في الوقت الراهن.

ويتوقع الزيات تراجع جامعة الأزهر عن ذلك المقترح، موضحاً أن بيان الجامعة الأخير أعطى إشارات إلى إمكان تراجعه عن تلك الخطوة، لا سيما في ظل رفض كثير من الجهات الأكاديمية والطبية له لأن تطبيقه قد يؤدي إلى حدوث تدهور وتأخر كبيرين.

وكان المركز الإعلامي لجامعة الأزهر أصدر بياناً رسمياً قبل أيام أكد خلاله أنه تُجرى دراسة علمية متأنية حول إمكان تعريب العلوم الطبية وتوجيه الدراسة باللغة العربية في قطاعات الطب والصيدلة وطب الأسنان، ومدى قابلية ذلك للتطبيق، مع الأخذ في الاعتبار جميع الأبعاد الأكاديمية والتقنية والتطبيقية لضمان تحقيق أفضل معايير التعليم الطبي، وتلبية حاجات الطلاب والمجتمع على حد سواء، ووفق بيان المركز فإن "أي قرارات تتعلق بهذا الشأن ستصدر بعد الانتهاء من الدراسات والمناقشات العلمية اللازمة بما يخدم المصلحة العامة، وأن جامعة الأزهر ملتزمة دائماً تطوير العملية التعليمية بما يواكب التقدم العلمي ويلبي تطلعات الطلاب والمجتمع".

صعوبات في التطبيق

وفي السياق ذاته، يعدد عميد كلية طب أسيوط الدكتور علاء عطية إشكاليات التطبيق لهذا المقترح، موضحاً أن ترجمة المصطلحات والتعريفات الطبية من الإنجليزية إلى العربية أمر في غاية الصعوبة ويحتاج إلى مجهود شاق وضخم، لا سيما أن تلك المصطلحات حينما تتم ترجمتها تتحول إلى اللغة العربية الفصحى التي يصعب فهمها في كثير من الأحيان، علاوة على أنه سيجعل من الصعب على الأطباء حضور المؤتمرات الطبية العالمية التي تعتمد على اللغة الإنجليزية وتنتج أبحاثاً بتلك اللغة، فضلاً عن صعوبة الحصول على اعتماد من الاتحاد العالمي للتعليم الطبي بلغة جديدة لمناهج ومقررات الطب.

ويضيف عميد طب أسيوط خلال حديثه أنه كان من الأجدى أن يتم عرضه على القطاع الطبي في المجلس الأعلى للجامعات لمناقشته وإبراز الجوانب السلبية المرتبطة به قبل طرحه كمقترح للنقاش.

مقترح غير عملي

في الأثناء، يصف خبير السياسات الصحية ومدير برنامج الحق في الصحة الدكتور علاء غنام المقترح بأنه "غير عملي وليس منطقياً وبلا جدوى"، موضحاً أن معظم الإنتاج المعرفي الطبي في العالم يدرس باللغات الشهيرة الإنجليزية والفرنسية والألمانية، كما أن اللغة الإنجليزية تعتبر هي الأشمل حالياً والأبرز في دراسة مقررات ومناهج الطب، بالتالي تصعب دراستها بالعربية.

وبحسب غنام، فإن "إعادة ترجمة مقررات الطب من الإنجليزية للعربية تحتاج إلى مجهود قد يمتد لأعوام، فضلاً عن وجود عدد قليل للغاية من المترجمين المتخصصين في هذا المجال، مما يهدد بفشل تلك التجربة".

وأمام تباين آراء الأكاديميين والمتخصصين حول المقترح، تباينت كذلك رؤى مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي حوله، إذ علق الكاتب والمفكر الدكتور خالد منتصر على هذا التوجه، قائلاً "خريج كلية طب الأزهر بدلاً من إصدار كارنية نقابة الأطباء سيحصل على كارنية مجمع اللغة العربية، وبدلاً من قسم أبقراط، سيقول ألفية ابن مالك"، في المقابل أشاد خالد تركي بالمقترح، قائلاً "العرب واللغة العربية هما العرق الأصيل بين الشعوب واللغة العربية هي من علمت العالم كله، وتعريب الطب ستنتج منه أبحاث باللغة العربية وتكون لنا شخصيتنا الحقيقية ولعلنا نسترجع أيام الماضي، الكتب العربية أنارت العالم وأخرجت أوروبا من الظلمات".

"انتصار للغة العربية"

ورأى المتحدث الرسمي باسم جامعة الأزهر الدكتور أحمد زارع أن مقترح تعريب العلوم التطبيقية كـ"الطب والهندسة وطب الأسنان" ليس الهدف منه إلغاء اللغة الإنجليزية، مثلما يردد بعضهم، ولكن ستتم ترجمة الكتب والمراجع إلى اللغة العربية ليكون لدى الطالب منهجان للدراسة، أحدهما باللغة العربية وآخر بالإنجليزية.

 

ووفق زارع، فإن جميع الدول المتقدمة تدرس العلوم بلغتها الأصلية، مردفاً أن "الإنسان يبدع دائماً حينما يدرس المواد بلغتها الأصلية وهدفنا الانحياز إلى هويتنا والانتصار للغتنا العربية في ظل العولمة والتغريب والهجوم الشرس الذي نتعرض له، وإذا لم نستطع تقوية لغتنا التي تمثل هويتنا فلن نتمكن من مواجهة هذا الهجوم".

وكان رئيس جامعة الأزهر أعلن خلال احتفالية اليوم العالمي للغة العربية في ديسمبر (كانون الأول) 2024 أن مجلس الجامعة اتخذ للمرة الأولى قراراً تاريخياً بتشكيل لجنة لدراسة إمكان تعريب العلوم في مجالات الطب الصيدلة والهندسة، موضحاً أن هذا القرار "يستند إلى حقيقة أن العلوم الأساسية وضعت في الأصل باللغة العربية وترجمها الغربيون نقلاً عن علماء المسلمين، وآن الأوان أن نستعيد مكانتنا بالعودة لهويتنا في تلقي العلوم التي وضع المسلمون أسسها".

وتعقيباً على تساؤل "اندبندنت عربية" حول مخاوف الأطباء من تكرار فشل التجربة السورية في تعريب مناهج الطب، يقول زارع إن "هذا الكلام عار تماماً من الصحة ويردده بعض ’المغرضين‘، مشيراً إلى أن التجربة السورية نجحت، مدللاً على ذلك بمشاركة أطباء سوريا في تطور المنظومة الطبية الألمانية وتأثيرهم فيها حالياً.

وعن الموعد المحدد لتطبيقه، يقول المتحدث باسم جامعة الأزهر إن المقترح لا يزال قيد الدراسة وهو مطروح للنقاش حالياً داخل أروقة جامعة الأزهر وخارجها، كما سينظم حوار مجتمعي حوله بين العلماء والخبراء والمتخصصين في الأزهر والنقابات المعنية بتلك القضية ومجمع اللغة العربية لتتم دراسة جميع الآراء، ثم رفع الأمر برمته إلى المجلس الأعلى للأزهر لاتخاذ القرار النهائي في شأنه، ومعرفة ما إذا كان سيصدر دفعة واحدة أو على نحو متدرج، وأكد أن القرار لن يصدر إلا بإجماع الآراء لأن الهدف من المقترح في النهاية هو "المصلحة العامة" وسيتم تطبيقه في إطار الفكر الوسطي المستنير لمؤسسة الأزهر، منوهاً بأن المقترح لن ينفصل عن واقع المجتمع وسيراعي رؤية القيادة السياسية ومسؤولي المنظومة التعليمية.

مخاوف غير حقيقية

ويعرب الأمين العام لمجمع اللغة العربية في القاهرة الدكتور عبدالحميد مدكور عن تأييده بقوة لمقترح جامعة الأزهر، متسائلاً "العالم بأكمله يتعلم بلغته الوطنية الأصلية، فلماذا يحرم العرب من التعلم بلغتهم؟"، وأوضح أن بعضهم يحاول التقليل من اللغة العربية على رغم قوتها وعراقتها وأصالتها.

ويستنكر مدكور خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية" المخاوف من تخريج أطباء ضعاف في المستقبل وانعزالهم عن مجريات التطور والتأثير العلمي وتأخر الطب في حال طُبّق تعريب المناهج والعلوم الطبية، مشيراً إلى أن تلك المخاوف غير حقيقية وليست في محلها، شرط أن يتم أخذ الأمور بمنهجية وجدية وأن يكون هناك تدرج وحسن تعامل مع تلك القضية الشائكة حتى يتم حل جميع العقبات والمشكلات والأخذ بالأسباب العلمية، وسيؤدي ذلك بالتدريج ولو على مدى طويل إلى إعادة اللغة العربية لتلك العلوم التي كانت تدرس باللغة العربية.

ويكشف الأمين العام عن تلقي المجمع دعوة من جامعة الأزهر منذ أكثر من شهر إلى مناقشة هذا المقترح، وأدلى مسؤولو المجمع برأيهم وأكدوا أن لديهم ترجمة لمئات آلاف المصطلحات الطبية، تمهيداً "لترك مساحات للإبداع وكتابة العلم باللغة الأصلية"، كما طالبوا بضرورة الاستفادة من التجارب السابقة كافة ومراعاة الجوانب السلبية ودراسة الآراء بعناية وتجرد وشفافية.

ويستشهد مدكور بأمثلة من العصر القديم والحديث على مكانة اللغة العربية وتأثيرها، موضحاً أن العلم نطق باللغة العربية لمدة لا تقل عن خمسة قرون باعتراف المستشرقين، وأشار إلى أن المصريين في العصور الأولى قديماً كانوا يترجمون التراث العلمي للهند والفرس واليونان واللاتين إلى اللغة العربية، ثم عبر المسلمون عن هذه العلوم بلغتهم الأصلية وأضافوا إليها وأصبحت اللغة العربية هي السائدة آنذاك، وفي العصر الحديث نشأ التعليم في طب "قصر العيني" باللغة العربية وظل يدرس حتى دخول الإنجليز مصر وتحويل الدراسة من العربية إلى الإنجليزية، كما ألزم رفاعة الطهطاوي أثناء نشاط حركة الترجمة للبعثات كل مبعوث أن يقدم إلى اللغة العربية كتاباً في تخصصه، علاوة على أن الطب كان يدرس باللغة العربية في سوريا منذ عام 1919، حينما نشأ المجمع اللغوي بدمشق.

ويقترح الأمين العام لمجمع اللغة العربية أن يتم تدريس العلوم الطبية في الكتاب الواحد، فيكون هناك عمود باللغة العربية وآخر بالإنجليزية وتدريب الطلاب ثم تدريب الأساتذة وتوضيح اللغتين في المناهج ويكون لدينا العلم المنهجي اللائق بالمجتمعات وحينها ستنجح التجربة.

تجربة سوريا "تحت المجهر"

عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1919 افتتح في دمشق معهد الطب العربي، ومعهد الحقوق، اللذان شكلا لاحقاً عام 1923 وتحت سلطة الانتداب الفرنسي نواة جامعة دمشق الأولى الرسمية، ومنذ لحظة الشروع في التأسيس اتخذ قرار بتدريس المناهج باللغة العربية الصرفة، على أيدي الأساتذة المؤسسين الذين بدأ يتبلور دورهم في ترجمة مصطلحات الطب العالمية من لغاتها الأم ولا سيما الإنجليزية إلى العربية مع عام 1924 على وجه الخصوص، وهو العام الذي شهد إصدار المجلة العربية الطبية من سوريا.

 

ومع توالي الأعوام حذت بقية الأفرع العلمية والأدبية في جامعة دمشق وما تلاها تأسيساً من جامعات تشرين وحمص وحلب حذو جامعة دمشق في تكريس اللغة العربية كلغة أمٍّ يمكن من خلالها إيصال المطلوب في ترجمة المصطلحات العلمية والدوريات العالمية ووضع التراجم المناسبة.

لا شك أن الرعيل الأول من المؤسسين الباحثين قد أنجزوا دوراً لا يمكن نكرانه، وهو دور مستمر دونما انقطاع في مواكبة التطورات العلمية حول العالم وإعادة صياغتها باللغة العربية، وعلى رغم أن الانتداب الفرنسي لم ينجح في إلزام الجامعات السورية التدريس بلغته، فإن ذلك لم يشكل مهرباً يمكن تجاوزه من أن تسهيل دراسة الطب بالعربية جاء في مصلحة الطلبة السوريين الذين لا تراعي مناهجهم الدراسية خلال أعوام ما قبل الجامعة أيّاً من اللغتين الإنجليزية أو الفرنسية بصورة متينة يكون من شأنه تخريج أجيال ملمة باللغات وقادرة على الخوض بها، الخوض على سبيل الدراسة والفهم والحديث، وهي مشكلة جماعية لم تنجح سوريا في علاجها على رغم أهميتها الفائقة، علماً أن معظم الدول العربية باتت قادرة على إنتاج أجيال تتمكن من التعامل مع اللغات الأخرى، وهو ما يفسر ضعف السوريين حين اضطرارهم إلى استعمال لغة بديلة في دول اللجوء، وحتى بعض الدول العربية التي تتطلب تواصلاً باللغة الإنجليزية.

وبالعودة إلى الطب المعرب، في الحال السورية، تتباين كثير من وجهات النظر حيال الأمر، فبعض المتابعين يرجع ذلك إلى أسباب سياسية تتعلق بعدم إتاحة الفرصة الكاملة للخريجين للسفر خارج حدود دولتهم والعمل في المهنة، مما يعني أن أطباء البلد للبلد نفسه، وهي نظريات تتماشى مع الدراسات على أسس قومية كما في اليابان وكوريا وألمانيا وبلدان كثيرة أخرى.

يوافق أكاديميون على تدريس الطب باللغة العربية ويدافعون عن الفكرة، معتبرين أن اللغة هي الهوية، وأن الأمر إذا ما قيس انطلاقاً من البعد القومي فهو فكرة مشروعة ومباحة، بل وهي مطلب أساس للحفاظ على الخريجين المفيدين لبلدهم في الحال الطبيعية وبمعزل عن الحرب الأخيرة التي استنزفت الجسد الطبي في سوريا.

يقول الطبيب ماهر سلطان في حديثه مع "اندبندنت عربية" إن تدريس الطب باللغة العربية في سوريا هو ظاهرة بحد ذاتها، وظاهرة أثبتت نجاحها من استمراريتها التاريخية حتى الآن، ويضيف، "لو أن الطالب لدينا يتخرج في الثانوية العامة ويسجل الطب ويدرسه بالإنجليزية لكان سيواجه مصاعب جمة تطيح دراسته الأكاديمية لأنه أساساً لم يتلقَّ تكويناً معرفياً ملائماً يرقى به إلى تلقي علوم معقدة بلغة لا يعرف عنها إلا القليل، وعلى رغم ذلك لم يكن هذا السبب الأساس في تعريب الطب، فحين نشأ المعهد قبل قرن وسريعاً تحول إلى كلية علمية كانت سوريا قبلها تواجه مطولاً حملة تتريك عنيفة، وبعدها فوراً حملة لفرنسَة التعليم، فكان لا بد من إجراءات وطنية صارمة تتبنى بالتضافر مع الجمعية العربية للعلوم شكلاً ومضموناً ما يحفظ اللغة العربية من الضياع العلمي".

وفي الإطار يشير الدكتور في كلية الطب البشري منير رياحنة إلى أن التدريس باللغة العربية حمى سوريا من هجرة العقول لما يربو على 90 عاماً كاملاً حتى جاءت الحرب الأخيرة ونسفت كل العقود التي سبقتها، ويستدل على رأيه بأن الطبيب السوري كان يجد حاضنة اجتماعية رفيعة للغاية تنتظره ليكون واحداً منها، وبالشهادة التي يحملها كان يمكنه العمل وجني أموال كثيرة، إذ كانت المعاينة قبل الحرب عام 2011 تصل أو تتجاوز 10 دولارات، أما اليوم فهي بحدود دولارين مع شح شديد في عدد الأطباء وشبه انقراض لأطباء التخدير والأطباء الشرعيين والأطباء النفسيين.

ويكمل، "تدريس الطب باللغة العربية ليس أمراً سهلاً، فهو يحتاج إلى متابعة دائمة وحثيثة لكل تطور طبي في العالم، وتلك التطورات تقتضي الترجمة المتمكنة وإضافتها إلى المناهج وتقريبها للطلبة، مما يجعل الأعباء مضاعفة، ولكن الأمر بالمحصلة يرقى إلى أن يكون قراراً سيادياً في بلد يتمسك بمحيطه وعمقه العربي على رغم فداحة الخلط ما بين الانفتاح العلمي المعرفي والأفكار النيوليبرالية، مما جعل هذه تؤخذ بجريرة تلك ويغلق الباب نسبياً أمام ما هو أقرب إلى تحدٍّ حول واحد من أهم عناصر القومية".

في المقابل، يرفض أطباء كثر استمرار تدريس الطب البشري وغيره من الأفرع التخصصية باللغة العربية، ومن بينهم البروفسور ماجد الزعبي، الذي يقول، "الحديث حول أن التدريس ينطلق من القومية هو محض هراء، فهؤلاء الطلبة أنفسهم لا يعرفون سبب تعريب تخصصاتهم وعلاقتها بالقومية والشعارات التي باتت بائدة، اليوم هناك شرخ هائل لا يمكن تداركه بين ما وصلت إليه العلوم الغربية وما نحن ندرسه في جامعاتنا، إذ يبدو غريباً للغاية أننا ندرس الكيمياء العضوية وغيرها باللغة العربية، بينما اعتمادها العالمي هو الإنجليزية".

المزيد من تحقيقات ومطولات