ملخص
تتضارب الأرقام في شأن إحصاءات العدد الكلي لقتلى الحرب المندلعة بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023، ما بين 60 إلى 130 ألفاً.
سكان مناطق أم بدة وأبو سعد في الفتيحاب جنوب أم درمان وغربها اضطروا إلى دفن موتاهم في مقابر موقتة ضمن أسوار المدراس وساحات المساجد لعدم تمكنهم من الوصول إلى المقابر.
فرض واقع الحرب والظروف والمرارات القاسية التي خلفتها على كثير من السودانيين التعايش مع عواقبها من أحزان وقهر، بدفن أعزائهم في مقابر موقتة داخل المنازل وشوارع وساحات المساجد والمدراس، نتيجة تعذر الوصول إلى المقابر العمومية المعروفة من دون أن يحظوا بلحظات الوداع وإقامة جنازات ومراسم العزاء لهم. ومع بدء أفواج العودة للمناطق الآمنة، يحمل العائدون معهم مواجعهم وتشاطرهم سرادق العزاء المؤجلة التي تنتظر أفراح عودتهم للديار.
عودة مثقلة
مع سلسلة الانتصارات التي يحققها الجيش واسترداده كثيراً من المدن والمناطق في الآونة الأخيرة، انتظمت رحلات وأفواج العائدين لعدد من مناطق وأحياء ولايتي الخرطوم والجزيرة بمبادرات تكفلت بتنظيم رحلات مجانية، إذ نقلت أكثر من 20 حافلة كبيرة منتصف هذا الشهر مئات النازحين من نهر النيل إلى مدينة الخرطوم بحري، بخاصة الأحياء الشمالية في السامراب والدروشاب والحلفايا.
وتكفلت ولاية البحر الأحمر من جانبها بتسيير أكثر من 70 حافلة سياحية من مدينة بورتسودان إلى مدينة ود مدني المحررة، وبدأت عمليات التسجيل للعودة داخل مراكز الإيواء في بورتسودان اعتباراً من نهاية الأسبوع الماضي.
وتنظم بعض المبادرات المصرية والسودانية والمشتركة رحلات مجانية للعودة تضم ما بين 7 إلى 12 حافلة أسبوعياً من مدينة أسوان والعاصمة المصرية القاهرة، إلى وادي حلفا وعطبرة وبورتسودان شمال وشرق السودان.
ونظمت حكومة ولاية الجزيرة من عاصمتها الموقتة مدينة المناقل، برنامجاً لتفويج الأسر إلى المدن والقرى الآمنة في محلية جنوب الجزيرة، بدعم من ديوان الزكاة لكل الأسر التي شملها برنامج العودة الطوعية بالتنسيق مع اللجنة العليا في المحلية والرعاية الاجتماعية والغرفة العامة للسفريات والحافلات والهلال الأحمر السوداني ومفوضية العون الإنساني ومجموعة من الجهات الخيرية.
آلاف الأسر
وتجاوز عدد أسر الفوج الأول ضمن البرنامج المتواصل للعودة للمناطق الآمنة الـ1441 أسرة، بحسب مصادر في المحلية، مؤكدة عمل الولاية على تجاوز تعقيدات تطبيع الحياة والعودة الكاملة للاستقرار والأمان.
في وصفه لرحلة العودة من بورتسودان لمدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، يقول عبدالمحمود زين العابدين "طوال الطريق كانت تسيطر على العائدين قصص الموت والدمار وحكايات المفقودين والعالقين في مناطق المعارك، وبدا واضحاً أنهم ما زالوا تحت تأثير صدمة الحرب وجراحها، وجميعهم يجهلون ما إذا كانت الحياة ستعود كما كانت في السابق، خصوصاً أن بعض الأسر فقدت نصف عدد أفرادها ومنها من فقدت المعيل، وهم يتوقون إلى لقاء الأقارب بعد فراق دام قرابة العامين".
عند الوصول إلى المدينة، يلاحظ زين العابدين أن العائدين تفاجأوا بالتغيير الكبير في ملامح المدينة ومعالمها، فالسكون يلف الأحياء والمنازل المهجورة الخالية من الحياة والحركة سوى بعض اللصوص الباحثين عما ينهبونه، وسط عدد كبير من المنازل المهدمة كلياً أو جزئياً التي تحتاج إلى الترميم وإعادة التأهيل قبل السكن فيها.
النبش والسرادق
أما محمد صالح فضل الله، فيوضح أن السبب الرئيس لتعجيله بالعودة حرصه على سرعة نقل جثامين خمسة من أفراد أسرته قضوا في الحرب، ودفنهم بصورة شرعية لائقة ثم إقامة سرادق لتلقي العزاء إكراماً لأرواحهم العزيزة لدينا.
وتحدث فضل الله عن تمسك السودانيين بإقامة صيوان (سرادق) العزاء باعتباره واجباً ملزماً لا يمكن التنازل عنه، كما أن نبش الجثامين المدفونة في الميادين والشوارع ونقلها لإعادة دفنها في المقابر العمومية، هو الدفن الشرعي الذي تعقبه تلقائياً مراسم العزاء وكأن المرحوم توفي في تلك اللحظة.
ويتابع أنه "قلما تكون هناك أسرة في أم درمان وشمال الخرطوم بحري لم تفقد عزيزاً لديها في هذه الحرب، غير أن معظمهم تلقى التعازي عبر الوسائط ووسائل التواصل الاجتماعي، لكنها عند السودانيين لا تكفي، فحال ما يصل الأهل إلى بيوتهم يتم نصب سرادق العزاء كواجب مقدس يبدأ بقراءة سورة الفاتحة على روح المتوفي".
ويقول بشير شيخ إدريس، العائد لمدينة أم درمان، "والدي وعمتي دُفنا مع آخرين في ميدان إلى جوار مسجد وسط الحي، ولم يتمكن أحد من تشييعهم ودفنهم في المقابر العمومية بسبب المعارك والاشتباكات واعتراض قوات ’الدعم السريع‘ على خروج مواكب التشييع، لذلك لم نقِم لهم (الفراش) وهو مصطلح محلي يعني السرادق، وما زلنا ننتظر نبش قبورهم ونقل الجثامين إلى المقابر حيث ستتجدد الأحزان ويقام مأتم العزاء".
ويوضح أن كثيرين من سكان مناطق أم بدة وأبو سعد في الفتيحاب جنوب أم درمان وغربها اضطروا إلى دفن موتاهم في مقابر موقتة ضمن أسوار المدراس وساحات المساجد لعدم تمكنهم من الوصول إلى المقابر.
عادات متفردة
في السياق، تشرح الباحثة الاجتماعية هناء أحمد علي أن تمسك السودانيين بإقامة سرادق العزاء ينطلق من قيم راسخة كجزء من تعاليم الإسلام والتضامن في المواساة، ومن مزاياها أنها تكون عامرة بالروحانيات، وتتم فيها تلاوة القرآن وصلاة الجماعة، والدعاء للميت وحض أهله وأقاربه على التمسك بالإيمان والصبر والرضا بالقضاء والقدر.
وتضيف أن من العادات التي توارثها السودانيون في الأتراح والأفراح عادة ما يعرف بـ"الكشف" أو "الختة" في بعض المجتمعات المحلية، وهي عبارة عن مساهمات مالية طوعية كل على قدر استطاعته تشمل قائمة بأسماء المساهمين تسلم مع المال إلى أصحاب المناسبة، ولا تستثني هذه العادة النساء لكن بصورة منفصلة عن الرجال.
وتتابع أنه "في العزاء السوداني، يبدأ كل الوافدين إلى المكان قبل إلقاء التحية أو الجلوس، بقراءة سورة الفاتحة على روح المتوفي برفع أيديهم إلى الأعلى ويرددون بصوت مرتفع ’الفاااااتحة‘ ويقف جميع الحضور لقراءة سورة الفاتحة سراً ثم يدعون إلى المتوفي بالرحمة والمغفرة، ويقدم للمعزين بعدها الشاي والماء فقط، ويقرأون الفاتحة أيضاً عند المغادرة ".
مظاهر سلبية
وعلى رغم تلك المزايا التي تحدثت عنها الباحثة الاجتماعية، لكنها ترى أن مآسي هذه الحرب يجب أن تكون فرصة ودرساً ليعيد السودانيون النظر في بعض الظواهر السلبية المرتبطة بالبذخ والإسراف ضمن مآتم العزاء التي ظل يصاحبها قدراً من الترف في الولائم خلال فترة ما قبل الحرب، كما درجوا على أن يمتد المأتم لأيام عدة، وإقامة أكثر من عزاء إذا كان للمتوفي أهل وأصدقاء في مدن بعيدة أو خارج السودان.
وقالت إن على "السودانيين التخلي عن كثير من المظاهر التي كانت تنتشر في السابق مثل المبالغة في فترة السرادق لأيام عدة والصرف المفرط بخاصة من جانب الأسر الميسورة، وأن يكون العزاء مبسطاً ورمزياً للتعبير عن مشاعر الحزن، بعيداً من مظاهر التفاخر التي بدأت تنتشر في الفترة السابقة للحرب".
تقاليد داعمة
وفي السياق، أوضح المتخصص في علم الاجتماع عبدالماجد سليم أن "العزاء عند السودانيين لا يكتمل إلا بالدفن الشرعي في المكان الصحيح وهو المقابر، فهم يعتقدون بأن ذلك يساعدهم على تجاوز مآسيهم وأحزانهم، وعلى رغم جنوحهم نحو تضخيم المآتم وكثرة أعداد المعزين وكلفتها العالية، لكن السودانيين لديهم وسائل عدة للتعامل مع هذا الوضع، ويعتمدون في ذلك بصورة كبيرة على تقاليد اجتماعية راسخة في المؤازرة والتكافل".
ويشير إلى انطلاق عدد من المبادرات التضامنية المجتمعية تنظم حملات هدفها جمع المساعدات ونظافة منازل العائدين وإعادة إعمارها، مما يسهم في تخفيف الأحزان ويعزز الشعور بقدر من الطمأنينة في ظل الظروف القاسية التي فرضتها الحرب والتي كانت سبباً في تأجيل مراسم العزاء لكثيرين إلى حين هدوء الأوضاع.
ويضيف أن "الأحزان تكاد تكون غزت كل بيوت ونفوس السودانيين بفقدان أعزاء بسبب الحرب، إلى جانب الدمار والتخريب والنهب التي تعرضت لها بيوتهم، لكن المطلوب منهم الآن هو التحلي ببعض القناعات الروحية والعودة لقيمهم وروابطهم الاجتماعية والدينية في الدعم الجماعي، بالتفاف الأهل والأقارب وحتى الجيران لتقديم الدعم المعنوي والمادي للمفجوعين والمتضررين".
تعقيدات قانونية
ومن زاوية قانونية، يرى أستاذ القانون في الجامعات السودانية بكري الطاهر أن هناك بعض الترتيبات والإجراءات القانونية الواجب اتباعها لتسلم الجثامين ومن ثم نقلها إلى المقابر لإعادة دفنها حتى تتمكن الأسر من إقامة مراسم العزاء، لافتاً إلى أن الجثامين التي تتطلب النبش تخضع لإجراءات فحص الهوية والحصر وإثبات الواقعة والوفاة.
ويوضح أن الإجراءات المرتبطة بأعمال النيابة والشرطة والطب الشرعي قد تؤخر تسليم الجثامين إلى أهالي الضحايا والسماح لهم بنقل الرفاة إلى المقابر العامة لإعادة دفنهم وفق الضوابط الشرعية والقانونية المعلومة، إلى جانب أنها مهمة جداً للتوثيق القانوني للمتوفين مجهولي الهوية الذين ربما يتم التعرف إليهم في وقت لاحق، فضلاً عن الحرص على إمكان محاسبة الجناة متى ظهروا أو أمكن الكشف عنهم.
ويشدد الطاهر على أن هناك حاجة فعلية لنقل كثير من القبور الموقتة من المدارس والمنازل، لكن هناك تعقيدات قانونية ترتبط بالأمر، فهناك بعض الضحايا ممن اعتقلتهم أو اختطفتهم قوات "الدعم السريع" سواء من المدنيين أو العسكريين، باستغلال المنازل التي طردت منها سكانها كمعتقلات أو لإيواء جرحاها ومن بينهم من قتل أو توفي وتم دفنه داخل تلك المنازل من دون علم أهلها، منوهاً إلى ضرورة تحمل مسؤولية صاحب المنزل تجاه تلك الجثث.
تضارب وتزايد
وتتضارب الأرقام في شأن إحصاءات العدد الكلي لقتلى الحرب المندلعة بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023عام، ما بين 60 إلى 130 ألفاً.
وقدّر بحث أجرته أربع جامعات أميركية عدد الذين قتلوا بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب المستمرة بنحو 13 ألف شخص، واعتبر البحث أن أعداد الضحايا تتزايد بصورة مقلقة مع استمرار المواجهات، في ما وصفه بـ "أحد أكثر الصراعات دموية على مستوى العالم، مما أدى إلى ارتفاع أعداد الضحايا.
ورجح الباحثون المتخصصون في الطب والصحة العامة بالتعاون مع عدد من الكيانات الطبية المحلية ومنظمات دولية أخرى أن نحو 19 ألفاً من الضحايا قتلوا بصورة مباشرة في الحرب، بينما فقد نحو 111 ألفاً حياتهم بسبب عدم الحصول على الغذاء والعلاج أو لأسباب أخرى ناجمة عن تداعيات النزاع.