ملخص
بعد أكثر من 15 شهراً من الحرب والمعاناة في غزة، يواجه الفلسطينيون في جنين ومخيماتها بالضفة الغربية أوضاعاً كارثية جراء العمليات العسكرية الإسرائيلية هناك. العديد من العائلات فرت من المنازل تحت القصف، في وقت يشعر فيه سكان الضفة الغربية بخوف متزايد من تصعيد الهجمات.
على وقع دوي الانفجارات المتقطعة، تنقل عربة كهربائية مثقوبة بالرصاص المسنين وحقائبهم عبر الطريق المدمر الذي أصبح الآن المخرج الوحيد من جنين ومخيم اللاجئين فيها.
وتسير وراء العربات عائلات فلسطينية تحمل صغارها وحقائبها على الطريق الترابي الذي جرفته الجرافات الإسرائيلية خلال العملية، التي تقول إسرائيل إنها تستهدف المسلحين في المدينة الواقعة في الضفة الغربية المحتلة.
من بين الفارين تسير الطفلة أسماء البالغة من العمر ثمانية أعوام، وهي ترتدي كنزة زهرية اللون وتحمل بين ذراعيها معزاة صغيرة تقول إن عائلتها أنقذتها أثناء خروجها من المخيم. وبعدها بمسافة قصيرة تسير لطفية، وهي والدة ستينية لديها 12 ابناً وابنة، تقول إنهم هربوا جميعاً بعدما أمرتهم مسيرات إسرائيلية مزودة بمكبرات صوت ذلك الصباح بإخلاء المنطقة فوراً.
وتضيف لطفية باكية "فرغ المخيم من سكانه، ليس لدينا مكاناً نقصده. قابلتنا التفجيرات والجرافات عند خروجنا منه. تعيش عائلتي هنا منذ 70 عاماً، منذ 1948. لا نملك سوى هذا المنزل. أين عسانا نذهب؟ لا نملك شيئاً هناك".
وتكمل: "أخشى أن هناك وقف لإطلاق النار في غزة، إلا أن حرباً جديدة قد بدأت هنا".
احتفلت الأسر في غزة وأسر الرهائن الإسرائيليين بالتوصل إلى اتفاق لإطلاق النار بين إسرائيل وحركة "حماس" المسلحة، وأملت في أن يشكل ذلك بداية نهاية صراع مدمر استمر 15 شهراً وعودة الرهائن والمحتجزين، وربما فتح الباب أمام سلام دائم.
ولكن بعد ثلاثة أيام فقط من الاتفاق، أعلنت إسرائيل بدء عملية "كبرى لمكافحة الإرهاب" في مناطق شمالية من الضفة الغربية، وتركزت العملية على جنين ومخيمها للاجئين، الذي أصبح معقلاً للمسلحين الفلسطينيين الموالين لحركتي "حماس" والجهاد الإسلامي، لكنه أيضاً موطن لآلاف المدنيين.
وتشهد جنين منذ أسابيع عديدة عمليات شنتها القوات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية - الواقعة تحت سيطرة "فتح"، الفصيل المناوئ لـ"حماس"- في محاولة لاستعادة السيطرة على المدينة قبل العملية الإسرائيلية. ويخشى كثيرون أن تكون الحرب انتقلت إلى الضفة الغربية بدل أن يشكل وقف إطلاق النار بداية نهاية العنف في المنطقة.
تحتل إسرائيل الضفة الغربية لنهر الأردن، التي يطالب الفلسطينيون بأن تكون نواة الدولة الفلسطينية المستقلة، منذ حرب عام 1967 في الشرق الأوسط. وبنت عليها مستوطنات يهودية غير شرعية بموجب القانون الدولي وتلقى إدانة واسعة عالمياً. لكن إسرائيل تخالف هذا الرأي، وتلفت إلى وجود روابط تاريخية لها بالأرض، مذكورة في الكتاب المقدس.
خلال السنوات الأخيرة، ومع وجود حكومة يمينية متطرفة بصورة متزايدة تضم وزراء من المستوطنين أنفسهم، وسعت إسرائيل برنامجها الاستيطاني كما زادت عمليات تهجيرها للفلسطينيين وغاراتها العسكرية. كما تصاعدت أعمال العنف من المسلحين.
منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ، اقتحمت أرتال من المركبات العسكرية الإسرائيلية مدعومة بالطائرات المروحية والمسيرات، مخيم جنين وقصفته، وهو مستوى من "القوة غير المشروعة" وصفهالناطق باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ثمين الخيطان، يوم الجمعة أنه ينطوي على "وسائل وأساليب مخصصة لخوض الحروب".
وحذر الخيطان قائلاً: "يشمل ذلك ضربات جوية متعددة وإطلاق نار عشوائي على سكان غير مسلحين يحاولون الفرار أو البحث عن الأمان".
وأضاف: "ما يحدث اليوم في الضفة الغربية قد يؤثر في وقف إطلاق النار في غزة، من الضروري أن يستمر وقف إطلاق النار في غزة".
وقال مسؤولو الصحة الفلسطينيون من جهتهم إن 12 شخصاً قتلوا منذ بداية العملية الإسرائيلية، من بينهم أطباء ووالد عمره 43 سنة أفادت التقارير بأنه أردي بالرصاص أثناء قيادته السيارة لنقل أطفاله. وصرح نائب رئيس بلدية جنين لوسائل الإعلام المحلية هذا الأسبوع بأن نصف سكان المخيم في الأقل فروا منه، علماً أن عدد السكان الإجمالي يبلغ 18 ألفاً. كما قالت مجموعات معنية بحقوق الإنسان منها "أكشن أيد" Action Aid إن مخيم اللاجئين يعيش أصعب أيامه على الإطلاق".
يوم الجمعة، صرح الجيش الإسرائيلي بأنه يوسع نطاق عمليته لتشمل بلدة إضافية في محافظة جنين، لافتاً إلى أنه "قضى" على 10 مسلحين فيما اعتقل 20 "مشتبهاً به ومطلوباً"، وبعد يوم على هذه التصريحات، خرجت وزارة الصحة الفلسطينية لتقول إن القوات الإسرائيلية أطلقت النار على طفلة عمرها سنتين ونصف وقتلتها فيما أصابت والدتها الحامل في قرية خارج جنين، وقال الجيش الإسرائيلي من جهته إنه "يحقق" في الحادثة. وفي بيان لـ"اندبندنت"، نفى الجيش الإسرائيلي إصدار أي أوامر بالإخلاء أو استخدام قوة مفرطة أو استهداف المدنيين، مضيفاً أنه "يحترم القانون الدولي ويتخذ الاحتياطات الممكنة لتجنب إلحاق الأذى بالأفراد غير المتورطين".
وقال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي في أحدث تقييم للوضع متحدثاً عن العملية، "علينا الاستعداد لمواصلة العمل في مخيم جنين بصورة تؤدي إلى تغيير وضعه".
من جانبه قال رونين بار، رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، إن إسرائيل "تخوض حملة متعددة الجبهات، لكن في الوقت الحالي، حان دور (شمال الضفة الغربية)".
وأشارت مصادر أمنية لوسائل إعلام إسرائيلية إلى أن العملية قد "تستمر لأشهر".
في هذه الأثناء ارتفعت وتيرة العنف في أماكن أخرى من الضفة الغربية، فعلى بعد نحو 60 كيلومتر جنوباً (37 ميلاً)، في قرية الفندق الفلسطينية، يظهر في كلام رئيس البلدية لؤي تيم أيضاً خشية من نية إسرائيل إشعال حرب جديدة في الضفة الغربية.
يشق الرجل طريقه عبر بقايا مشتل متفحم، دمره عشرات المستوطنون الإسرائيليون الملثمون أثناء هجومهم على القرية الفلسطينية وإضرامهم النيران في المباني والسيارات يوم الإثنين، جرح 21 شخصاً بالمحصلة من بينهم والد فلسطيني تعرض للضرب على يد عصابة عندما كان يحاول حماية زوجته وطفله ذو الأشهر الستة.
ويقول تيم وهو يقف وسط الدمار "نشعر أنه بعد وقف إطلاق النار في غزة، لم تحقق الحكومة اليمينية الأهداف التي كانت تضعها نصب عينيها، لذلك يحتمل أن يزيدوا هجماتهم على الضفة الغربية ويسموا ذلك نوعاً آخر من الانتصار هنا".
في وقت سابق من يناير (كانون الثاني) الجاري، قتل مسلحون فلسطينيون ثلاثة إسرائيليين من بينهم سيدتين مسنتين، على مسافة أبعد على هذا الشارع. وتعرف الإسرائيليون على هوية المسلحين فقالوا إنهم مقاتلون من "حماس" من منطقة جنين وإنهم "قضوا" عليهم يوم الأربعاء في قرية متاخمة للمدينة.
يقول تيم إنه لا يستطيع سوى الافتراض بأن المستوطنين في المستوطنات القريبة قرروا الانتقام من قريته التي يبلغ عدد سكانها 1400 نسمة مع أنه لا علاقة لهم بالموضوع.
ويتابع بيأس وسط أحواض المشتل الذائبة "لم يعلم سكان الفندق بمقتل الإسرائيليين الثلاثة، لم يكن باستطاعتنا منع ذلك ولم نعرف أي شيء عن الموضوع. تعرف قرية الفندق بأنها مركز تجاري يقصده الجميع، كل المتاجر هنا تضع لافتات بالعربية والعبرية، وكل من المستوطنين والعرب يأتون إليها لشراء حاجياتهم بسلام".
تقع قرية الفندق كما قرية جنصافوط المجاورة التي تعرضت أيضاً لاعتداءات يوم الإثنين، داخل المنطقة ج، التي تشكل 60 في المئة من أراضي الضفة الغربية وتخضع لسيطرة الإدارة المدنية والعسكرية الإسرائيلية. شهدت "اندبندنت" وجود جنود إسرائيليين في نقاط عدة من الفندق. ويقول تيم إنه في فترة سابقة من شهر يناير، أرغمه عشرات الجنود الإسرائيليون على الخروج من شقته التي احتلوها لأسبوعين، مما تركه بلا مأوى.
لكن وفقاً لتيم وسكان آخرين، "لم يفعل (الجنود) شيئاً" عندما هجم المستوطنون، فيما وصلت شرطة الحدود الإسرائيلية بعد ساعة من بدء أعمال العنف.
يعبر جلال بشير، رئيس المجلس البلدي في جنصافوط عن خشيته من وقوع مزيد من الهجمات، ولا سيما أن أعمال العنف بدأت يوم الإثنين بعد ساعات فقط من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي نصب حديثاً إلغاء العقوبات التي فرضها جو بايدن على المستوطنين المتطرفين.
وهو يخشى أن يطلق الأمر الذي وقعه ترمب يد المستوطنين كي يستخدموا العنف وأن يزداد هؤلاء جرأة بسبب الأعضاء اليمينيين المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية ومنهم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وهو شخصياً مستوطن يسكن في مستوطنة كدوميم المتاخمة لقريتي الفندق وجنصافوط.
ويقول بشير "نشعر بأن القادم أسوأ".
ويضيف تيم "نقلق من تكرار الهجوم، لا ننام في الليل لأنه علينا حراسة المكان. لا تعلم متى يقع الهجوم التالي، والجميع لديه أطفال في المنزل".
في جنين، وبعد أسابيع من العنف وانقطاع الكهرباء والماء بسبب العمليات العسكرية، يخرج مئات المدنيين من المدينة محملين بما تيسر من أشيائهم وسط حالة الفوضى.
وتقول قاهرة السعدي إن ابنيها البالغين وزوجها أوقفوا واحتجزوا عند نقطة التفتيش لدى خروجهم، وتضيف باكية "لا نعلم إلى أين اقتادوهم".
في هذه الأثناء، يوضح صدام جربوعة البالغ عمره 34 سنة، وهو يهرب برفقة أطفاله الأربعة، بأن كل ما يمكنهم حمله معهم هو بعض حقائب ظهر أطفالهم. إنها المرة الثانية التي يضطرون فيها إلى النزوح- فقد نزحوا قبل ذلك في يوليو (تموز) هرباً من توغل إسرائيلي، لكنه يعرب عن خشيته في أن تكون هذه المرة أسوأ.
ويتابع وهو يحمل أصغر أبنائه الذي لم يتعد عمره سنوات قليلة "جرف الإسرائيليون محطة غسيل السيارات التي تملكها عائلتي قبل يوم أمس كاملة، فأين الأمل؟ لقد دمروا كل شيء حرفياً".
أسهم في التقرير راتب قيسي
© The Independent