Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أي تبعات لتحول أنماط العنف بالشارع المصري؟

متخصصون يرون أن جذور الأسباب تعود لقرارات من الحقبة المباركية وللعولمة الثقافية وسيادة منطق أخذ الحق باليد لعدم الثقة في منظومة العدالة

معدلات ارتكاب الجريمة في مصر قد انخفضت بشكل ملحوظ خلال الـ12 سنة الأخيرة (أ ف ب)

ملخص

يتصدر المراهقون الاهتمام في مصر حالياً بسبب حوادث عنف متكررة، فما السبب في اتجاههم لهذا الأسلوب النوعي في العنف، لكن الأمر لا يقتصر على الصغار فقط فالناضجون أيضاً أصبحوا يلجأون ببساطة إلى ذروة العنف بارتكاب أنماط من الجرائم تحاكي السينما القاتمة. ربما لا يعكس هذا زيادة في أحداث العنف نفسها، ولكنه يشير إلى أن هناك تغييراً ما في ممارسته وتأثراً بمجتمعات أخرى

تقول الأرقام الرسمية إن معدلات ارتكاب الجريمة في مصر قد انخفضت بشكل ملحوظ خلال الـ12 سنة الأخيرة، فوفقاً لتصريحات سابقة على لسان اللواء محمد توفيق وزير الداخلية فإن هناك انخفاضاً يصل إلى 73 في المئة في معدلات ارتكاب الجنايات في عام 2023 مقارنة بعام 2013. وعلى رغم أن تداول تفاصيل الجرائم عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي قد يوحي بأنها باتت أكثر انتشاراً في المجتمع عن ذي قبل، فإن هذا قد لا يعبر بالضرورة عن حقيقة الإحصاءات. إلا أنه ومن دون شك هناك تحول ما في أنماط ممارسة العنف في مصر، والأمر هنا لا يخص العنف الذي يمارسه المجرمون الخارجون عن القانون بطبيعتهم أو المضطربون نفسياً، وإنما العنف الذي قد يرتكبه المواطن العادي من أي طبقة اجتماعية أو فئة عمرية، والذي قد يحدث بالمصادفة ويتطور بسبب أزمة ما، فقد أصبح يصل لذروته بسرعة ويتجاوز المدى المتوقع.

تبدو أسباب مثل البطالة والأزمة الاقتصادية والإدمان متكررة بشكل ملحوظ عند مناقشة هذا النوع من الظواهر، حيث إنها كلمات كلاسيكية تتردد بشكل تلقائي حينما يحاول أحدهم تفنيد العوامل المؤدية للعنف البدني والذي قد يفضي إلى القتل أو إحداث العاهات المستديمة، ولكن ما يفرزه المجتمع، الذي بات أفراده مرتبطين بشكل وثيق بالمنتجات التكنولوجية ومطلعين على سلبيات وإيجابيات ما يجري في العالم كله، يشير إلى أنه ينبغي التروي قبل تبني هذه الأسباب المتكررة. بالطبع لا ينبغي التغافل عنها أو نفيها لأنها ستظل مؤثرة، ولكن أيضاً يجب الوضع في الاعتبار المتغيرات الجديدة. وإلا كيف يمكن تفسير الجريمة التي جرت في إحدى المدارس الدولية بالقاهرة التي يرتادها عادة طبقة عليا من المواطنين الميسورين مادياً، حيث أحدثت فتاة في زميلتها عاهة مستديمة واستلزمت الواقعة تحركاً عاجلاً من وزارة التربية والتعليم الفني؟

جرائم الكبار

الأمر لا يقتصر فقط على فئة المراهقين، حيث إن هناك جرائم أيضاً وصلت للقتل والإصابات الخطرة بين مواطنين عاديين قرروا ألا يكتفوا بالعراك اللفظي واختاروا الاعتداء بآلات حادة على رغم أن الأسباب كانت بسيطة وفق المتداول، وهي وقائع جرت في محافظات عدة، فهؤلاء مجموعة من الأهالي ينظمون حلقة للاعتداء بالضرب على معلمة رفضت أن تساعد التلاميذ على الغش، وهذه امرأة قتلت سائقاً هددها بفضح علاقتهما، وآخر قتل زوجته إثر مخالفات معتادة، وآخرون حبسوا ابنتهم سنوات بعد طلاقها على غير رغبتهم، ورابع قرر التلذذ بتعذيب كلب وربطه في سيارة وسحله على الطرق، وهناك من اختار خنق ابنته بعد أن ارتاب في سلوكها، إضافة إلى ظهور أكثر من نموذج لجرائم مرتبطة بـ"الدارك ويب" للمرة الأولى في البلاد، والعثور على جثث مشوهة، وقبلها كانت هناك جرائم طعن فتيات في الشارع بسبب رفضهن الارتباط بأشخاص بعينهم، إضافة إلى قيام إحدى الشخصيات المرموقة بحبس زوجته وقتلها خوفاً من كشف الزيجة السرية، كما خطف آخرون وعذبوا بغرض الانتقام العائلي، فهل الغضب بات يتملك من الناس سريعاً بعض النظر عن مستواهم الطبقي، بخاصة أن كثيراً من الأسباب التي أفضت إلى هذه الأمور كان يمكن معالجتها باللجوء لوسائل أخرى، فأحدها حدث بسبب طلب كوب قهوة، حيث يبدو أن الاعتداء البدني بات وسيلة سهلة في نظر البعض وتشبع شيئاً ما لديهم، بخاصة إذا تم تنفيذها بأبشع الطرق، وبما أن مصر التي لديها تشديدها في قوانين حيازة الأسلحة النارية، فالجرائم عادة تحدث بوسائل أخرى وأشهرها السلاح الأبيض، فتبدو الجرائم وكأنها تحاكي السينما القاتمة.

قرارات الحقبة المباركية

مرة أخرى، ينبغي التأكيد أن القصة هنا لا تتعلق بأعداد الجرائم بقدر ما تحاول البحث في تغيير نوعيتها، ولماذا بات من لديهم استعداد للغضب أو للتعامل بشكل عنيف يصلون بالموقف إلى حد لا رجعة فيه، فهل هناك تأثر بما يجري في مجتمعات أخرى أو بالاحتكاك بثقافات مختلفة؟ في عام 2019 كانت وزارة الداخلية المصرية قد أصدرت تقريراً مفصلاً يشرح أسباب ظهور أنماط جديدة من الجرائم في البلاد، بخاصة تلك المتعلقة بالعنف الاجتماعي، وعزت بعضها إلى انتشار هذه المشاهد في الدراما والسينما ومحاولة تقليدها، إضافة إلى الظروف الاقتصادية وشيوع اقتناء الأسلحة، لكن خلال السنوات الست الأخيرة حدث أيضاً تطور كبير في استخدام أجيال جديدة للإنترنت الذي بدوره يحفز، بناءً على مواد معينة تنتشر به، ظواهر الغضب والعدائية وضرورة الانتقام، إضافة إلى الدعوة لعدم الصمت في مواجهة المتنمرين والآخرين. فيلجأ البعض لأخذ حقه بيده، إذ باتت العبارة الأخيرة منتشرة في طبقات عدة وبين الكبار والصغار.

يحاول الطبيب النفسي بدر عباس، الذي يعمل أيضاً استشارياً في عديد من المؤسسات التعليمية، الإجابة عن سؤال "ماذا حدث للمصريين؟ وكيف أصبحت خيارات الشخصيات التي تجنح ناحية العنف مختلفة تماماً بل وصادمة؟"، إذ يقول في البداية إن هناك تشوهاً وخللاً ملحوظاً في الشخصية المصرية أدى إلى هذا التحول. فهذا الخلل، في رأيه، قد يخرج على هيئة تغير في أنماط العنف أو التعامل أو التفكير أو غيره. ويرى أن من الأسباب الرئيسية للغاية في تفشي هذه المشكلات هو تلاشي دور معلم المدرسة المؤهل، ويفسر جذور المشكلة بإلغاء تكليفات كليات التربية منذ عام 1997، حيث كان لا يزال الرئيس مبارك على رأس السلطة، مشدداً على أن قيام خريجيها المؤهلين بالتدريس كان يضمن الحصول على تعليم جيد جنباً إلى جنب مع دورهم التربوي الفاعل، مضيفاً أن الأمر نفسه ينطبق على تلاشي "دبلوم المعلمين" الذي كان يمنح شهادة مستحقة لمن يقومون بالتدريس، وكان به منهج جيد ووصايا تحقق الغرض منها في ما يتعلق بالتربية والتدريس. وبغياب كل هذا تأثرت منظومة التربية بقوة، وبشكل تدريجي أدى إلى ما يحدث اليوم، مشيراً إلى أن المجتمع المصري يدفع ثمن هذا القرار غالياً، ومنوهاً إلى أن آباء اليوم أنفسهم عانوا من قلة المعلمين التربويين، بالتالي أصابهم الخلل وامتد لأبنائهم، من دون التفرقة بين طبقة وأخرى.

الآباء قبل الأبناء

وتابع الدكتور بدر عباس، وهو متخصص في العلاج النفسي المعرفي السلوكي، "كانت هناك منظومة كاملة للتربية ومع غيابها شاهدنا أجيالاً مختلفة متأثرة بقوة بانحدار المستوى وعدم وجود مرجعية سليمة للتعامل أو حتى لتقدير الموقف. فحتى النصائح التي كانت تكتب على الكراسات كانت تؤثر إيجاباً وتتغلل في الذاكرة بعمق، وكذلك طابور الصباح. وبحكم مهنتي فالطبقة الثرية أيضاً متأثرة سواء في الآباء أو الأبناء. فمن لديه استعداد في شخصيته للعصبية أو الغضب، طالما أنه لم يترب على طريقة مثلى لإدارة انفعالاته، سيصل به الأمر إلى طرق كارثية. فسواء النفس لا يتعلق بمدى ثراء صاحبه، بالتالي فالفقر ليس سبباً أساسياً يمكن الاعتماد عليه في تفسير هذه الأزمة التي ينبغي دراستها جدياً نظراً لمدى خطورتها".

لكن استشاري الطب النفسي يصر أيضاً على أن هناك عوامل أخرى تزيد من عمق هذه الظاهرة، وهي عدم ثقة البعض في أنه سيحصل على حقه عبر منظومة العدالة المؤسسية، سواء كان مكان عمل أو مدرسة أو حتى في الشارع، وذلك بناءً على حالات كثيرة يتم تجاهلها إعلامياً مما يشيع اليأس في النفوس، فيتصرف الناس تحت ضغط هذا الشعور.

تعرف منظمة الصحة العالمية العنف بأنه: "إحدى المشكلات الصحية العمومية التي تحدث نتيجة لاستخدام القوة والعنف البدني عن قصد، سواء للتهديد أو للإيذاء الفعلي ضد النفس، أو ضد شخص آخر، أو ضد مجموعة أو مجتمع، وقد يؤدي العنف أو يحتمل أن يؤدي إلى الإصابة، أو الوفاة، أو الضرر النفسي، أو سوء النمو، أو الحرمان". وإذا كان الغضب شعوراً طبيعياً تتفاوت درجاته وفقاً لطبيعة كل شخصية، فإن اختيار العنف للتعبير عن الحنق تلزمه عوامل عدة، يتحدث عنها أستاذ علم الاجتماع الدكتور محمد شكر، الذي يرى أن نمط العنف الذي بات متكرراً في المجتمع في الفترة الأخيرة، والمتعلق بأناس عاديين ارتكبوا جرائم أو جنايات من دون تخطيط، قد يأتي من رواسب نفسية ومجتمعية عززها موقف معين زاد من الاحتقان، مشدداً على عدم الاستهانة بتفاصيل مثل الصوت العالي في المنزل أو المدرسة، لأنه شكل من أشكال العنف التي قد تتطور إلى ما هو أكبر.

التربية الإيجابية تتراجع

كان أستاذ العلوم والتربية بجامعة عين شمس، الدكتور محمد عبد العزيز قد لفت الانتباه إلى أن خطط وزارة التربية والتعليم هذا العام بإعادة الطلبة إلى مقاعد الدراسة وتقليص معدلات الغياب، إذا كانت قد نجحت ظاهرياً بالضغط عليهم في الحضور من أجل الحصول على درجات التقييمات وغيرها، فإنها لم تراع على الأرجح تبعات هذه العودة، لا سيما في المدارس ذات الأعداد الضخمة من الطلبة، إذ إن الاحتكاك سيزداد، ومن ثم المشاحنات التي قد تفضي إلى عنف، بخاصة في المراحل المعروفة بجنوحها نحو التمرد مثل الإعدادية والثانوية. وعلى ما يبدو أن النتيجة ظهرت سريعاً، حيث تعددت حوادث الطعن والضرب المبرح بين طلبة المدارس بالمحافظات المختلفة، ومنها بورسعيد سوهاج والقاهرة والجيزة، يأتي هذا في ظل تراجع الاهتمام بمفهوم بالتربية الإيجابية، الذي كان سائداً قبل سنوات، مقابل انتشار تدوينات متوالية لآباء وتلاميذ يعبرون عن رغبتهم بالحصول على حقهم بأيديهم إذا ما تعرضوا لإيذاء بدني. وكان من بينها تدوينات لمشاهير وإعلاميين يدعون أبناءهم للدفاع عن أنفسهم من دون انتظار تدخل المدرسة الذي قد لا يكون منصفاً ـ في رأيهم ـ مع ذكر مواقف وحوادث بعينها تعرضوا لها، مما يوضح عدم ثقتهم في منظومة المؤسسة التعليمية لتحقيق العدالة بين المتشاحنين. والحصول على الحق باليد هنا لم يعد يقف عند حد التهويش، بل يتطور إلى تعريض أرواح للخطر وتصرفات لم يكن متوقعاً أبداً أن تحدث بين جنبات مؤسسة تعليمية أو في أوساط معينة. فما السبب؟

جرائم مستوردة

يشرح الدكتور محمد السيد شكر، رئيس قسم علم الاجتماع بجامعة بورسعيد، وجهة نظره بالقول: "كان هناك بالفعل التزام أخلاقي حتى قبل ظهور مصطلحات التربية الإيجابية وغيرها، ولكن الأفكار باتت أكثر انحرافاً الآن، وليس لدى الطلبة فقط ولكن من هم أكبر عمراً، فالآباء الذين يشجعون أولادهم على هذا السلوك يرتكبون جريمة بحقهم وحق المجتمع، حيث بات نوع العنف نفسه غريباً، ويشبه أكثر ما يجري في مجتمعات أخرى وتتداوله مواقع التواصل الاجتماعي. فالعولمة الثقافية هنا أدت بشكل مباشر لتدهور القيم المرجعية والقابلية لتقليد أي شيء يحدث، مثل ظهور جرائم "الدارك ويب" بتفاصيلها المرعبة، كما لم يعد يخشى التلميذ عبارة استدعاء ولي أمره كما كان يحدث سابقاً، لأن الأب نفسه يشجعه على السلوكيات الخاطئة ويبررها له".

ويعتقد أستاذ علم الاجتماع السياسي أن سيطرة هذه النغمة في المجتمع أمر شديد الخطورة، فتحفيز الغضب والعنف لدى المراهقين بالذات يعتبر تشجيعاً مباشراً على الخروج عن القانون، مشدداً على أن تراجع المدرسة ليس مبرراً أبداً لأن يدعو الآباء أبناءهم لعدم الالتزام، بل يجب طرق كل الأبواب القانونية لإعادة الأمور إلى نصابها، مشيراً إلى أن مؤسسات التنشئة الاجتماعية لا تقوم بدورها أبداً كما ينبغي. ويرى شكر أن هناك فئات عمرية أكبر تلعب المخدرات الكيماوية المخلقة دوراً لا يمكن إغفاله في ما يتعلق بارتكاب جرائم معينة تتضمن تفاصيل مروعة.

 

وفقاً لمؤشر قياس الجريمة العالمي خلال العام الماضي في قاعدة البيانات "نامبيو"، فإن مصر احتلت المرتبة 65 عالمياً في مدى انتشار الجريمة، والرقم 18 أفريقياً، والثالث عربياً. وهي مؤشرات مقلقة بطبيعة الحال، ولكن في ما يتعلق بتفاصيل ونوعية الجرائم بخاصة، لا توجد دراسات كافية حول أسباب اللجوء لها، بخاصة في حال انتفاء أسباب مثل السرقة والأزمة الاقتصادية أو الثأر، حيث إن غالبيتها تأتي بدافع انتقام شخصي وليد لحظته، سواء كانت موجهة من زوج لزوجته مثلاً أو من طالب لزميله أو بين عامل وأحد الزبائن.

التدين الظاهري و"السوشيال ميديا"

يشير الطبيب رضا الغمراوي، مدير مستشفى العباسية للصحة النفسية وعلاج الإدمان سابقاً، إلى أنه لا يمكن إنكار أن هناك تحولاً في نمط الجرائم بالبلاد. ولكنه، مع تأكيده على خطورة ما يجري وأنه يستدعي التدقيق، يرى أن الجرائم لم تصل حتى الآن لمرحلة الظاهرة، معتبراً أن وسائل الإعلام و"السوشيال ميديا" تلعب دوراً ملحوظاً في هذا التحول وأيضاً في الإيهام بانتشارها ولكنها مقارنة بعدد سكان البلاد الذي يتجاوز الـ100 مليون سيجد هذه النوعية عادية مقارنة بمجتمعات أخرى في العالم، مطالباً أيضاً بعدم إغفال الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.

ينوه الطبيب بدر عباس أيضاً إلى أمر آخر، وهو ما يسميه بآفة التدين الظاهري الذي بات يتملك المجتمع، سواء كانوا كبار سن أو آباء شباب أو مراهقين في مقتبل حياتهم. حيث يرى، في رأيه، أن كثيرين يقتصرون على العبادات، بل يبالغون في إظهار أدائها، ولكن تعاملاتهم لا تستند إلى القيم الدينية من قريب أو بعيد. واصفاً التدين الظاهري بالكارثة التي تصب في سلوكيات المجتمع، فلا يوجد وازع حقيقي في منع ممارسة السلوكيات العنيفة الصادمة، سواء تمت مشاهدتها على الإنترنت أو جاءت نتيجة تحفيزات من أصدقاء السوء أو من قبيل التجربة وحب الاستطلاع. مطالباً أيضاً بعدم الاعتماد في تعديل السلوك على الأوامر، وإنما على التصرفات العملية كي تنتشر في المجتمع ككل.

المزيد من تحقيقات ومطولات