ملخص
أثار إطلاق نموذج الذكاء الاصطناعي الصيني "ديب سيك"، صدمة في الأسواق العالمية بعد أن تسبب في خسائر ضخمة لعمالقة التكنولوجيا الأميركية. ومع اشتداد المنافسة بين الصين وأميركا على التفوق في الذكاء الاصطناعي، يبدو أن قواعد اللعبة قد تغيرت.
ليس مستغرباً أن إطلاق "ديب سيك" DeepSeek، تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني الناشئ، والذي تسبب بخسارة تريليون دولار من قيمة أسهم شركات التكنولوجيا الأميركية، أحدث اضطرابات مدوية في الأسواق المالية. ومن الوهلة الأولى أقله، يبدو أن الابتكار أعاد تشكيل طريقة عمل قطاع الذكاء الاصطناعي. ونتيجة لذلك، خسرت "إنفيديا" Nvidia الشركة الرائدة في إنتاج الشرائح الإلكترونية المتطورة المستخدمة في العمليات المعقدة ما يربو على 590 مليار دولار من قيمتها السوقية.
أما شركة "ألفابت" مالكة "غوغل" وشركة "مايكروسوفت" فقد خسرتا معاً 160 مليار دولار أخرى. وفي عالم الذكاء الاصطناعي، تتحرك التطورات بخطى متسارعة وعنيفة، وها نحن نشهد بداية سباق محموم بين الولايات المتحدة والصين من أجل التفوق في هذه التكنولوجيا، سباق لا يقل شأناً عن "السباق إلى الفضاء" الذي شهده العالم خلال ستينيات القرن الـ20 بين الولايات المتحدة ومنافستها القوة العظمى آنذاك الاتحاد السوفياتي. ومن هنا يصف بعض وصول "ديب سيك" بأنه "لحظة سبوتنيك" Sputnik moment جديدة.
ولمن لا يعلم، استخدم مصطلح "لحظة سبوتنيك" [للمرة الأولى] في إشارة إلى الإطلاق الناجح والمفاجئ للقمر الاصطناعي "سبوتنيك"Sputnik ("القمر الاصطناعي" باللغة الروسية) الذي حققه الاتحاد السوفياتي عام 1957. كان هذا الإنجاز السوفياتي غير متوقع. وبطبيعة الحال، أثار هذا الاختراق الفضائي قلقاً كبيراً لدى الولايات المتحدة، مما دفع الرئيس آنذاك دوايت آيزنهاور إلى إصدار قرار عاجل بتسريع العمل على برنامج خاص لإطلاق قمر اصطناعي أميركي خلال أقرب وقت ممكن. وفي مرحلة لاحقة، تعهد الرئيس جون كينيدي عام 1961 بإرسال إنسان إلى القمر قبل نهاية ذلك العقد (لدى إيلون ماسك الآن طموحات مماثلة، ولكن هذه المرة إلى المريخ).
وعلى صعيد النتائج الملموسة، قدم لنا سباق الفضاء في إنجازات بالغة الأهمية وعظيمة الشهرة أواني طهو غير لاصقة وتلسكوباً فضائياً يسعه اكتشاف الأورام في الجسم، إضافة إلى بعض الفوائد الأخرى من برنامج "أبولو" الفضائي ذي الموازنة الضخمة. ولكن وقع الذكاء الاصطناعي سيكون أكثر انتشاراً ويترك تأثيرات كبيرة وواضحة، بدءاً من روبوتات الدردشة البسيطة التي يمكنها الرد على الاستفسارات وكتابة المقالات، وتنظيم الخدمات المصرفية والمالية الخاصة بك في ثوان، وصولاً إلى إيجاد أجهزة كمبيوتر ضخمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي في مقدورها معالجة كميات مهولة من بيانات "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" البريطانية مثلاً واقتراح علاجات تسهم في إنقاذ حياة المرضى.
والذكاء الاصطناعي أيضاً عالم من "الخفايا المجهولة غير المتوقعة والتي لا نفقه فيها شيئاً"، ابتكارات ومهام يمكنه ابتكارها وإنجازها لا يمكن حتى تصورها، كأن يقدم لنا أنواعاً جديدة تماماً من الموسيقى والأدب والفن. ربما يكون في متناول الذكاء الاصطناعي يوماً ما أن يقدم تشخيصاً لأمراضك ويعالجها ويختبر بصرك، ويدير صندوق تقاعدك ويوصلك إلى المنزل، وحتى إن يتولى ترتيب مشترياتك ومواعيد التسوق الخاص بك بناءً على حاجاتك... من يدري؟
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل يستطيع الأميركيون أن يكرروا إنجازاتهم السابقة في هذه الجبهة التكنولوجية الجديدة، أم أن القرن الـ21 سيثبت أنه عصر الهيمنة الصناعية الصينية؟
في الواقع، يبدو التباين بين المشهدين الأميركي والصيني صادماً وجلياً. خلال الأسبوع الماضي، أعلن دونالد ترمب لاعب الغولف وصديق فاحشي الثراء من أصحاب شركات التكنولوجيا العملاقة ورئيس الولايات المتحدة، بأسلوبه المعتاد والمبالغ فيه عن "مشروع ستارغيت" Stargate Project، وهو استثمار بقيمة 500 مليار دولار في البنية التحتية لدعم ثورة الذكاء الاصطناعي.
كان الرئيس محاطاً في البيت الأبيض ببعض الشخصيات البارزة الضالعة بثورة الذكاء الاصطناعي، سام ألتمان البالغ من العمر 39 عاماً والرئيس التنفيذي لـ"أوبن أي آي" OpenAI، الشركة وراء تطوير روبوت الدردشة الشهير "تشات جي بي تي" والتي أعتقد أننا سنسمع كثيراً عنها لاحقاً، ولاري إليسون الرئيس التنفيذي لشركة "أوراكل"Oracle المنافسة (وهو أكبر سناً وتبلغ ثروته نحو 200 مليار دولار)، وماسايوشي سون رئيس "سوفت بنك" SoftBank، إحدى الشركات الكبرة المتخصصة بالاستثمار [خصوصاً في المجالات التكنولوجية].
أعلن ترمب أن المشروع [ستارغيت] "أكبر مشروع بنية تحتية خاص بالذكاء الاصطناعي في التاريخ"، وأنه سيضمن التفوق الأميركي في هذا المجال. والتزمت شركة "مايكروسوفت" بالاستثمار فيه بمبلغ 80 مليار دولار، فيما تعهدت شركة مارك زوكربيرغ "ميتا" (وتضم "فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتساب") بدفع نحو 65 مليار دولار من أموالها. لا بد من توافر كل هذه المبالغ من أجل بناء مراكز بيانات ضخمة، وتشغيل البرامج، ودفع فواتير الكهرباء الباهظة.
ثم دخل التنين الصيني. إنه "ديب سيك" DeepSeek، التطبيق الذكي الأكثر تحميلاً في متجر "آبل" خلال الفترة الأخيرة. ووفق مؤسسه ليانغ وينفنغ الذي يتولى إدارة صندوق تحوط صيني يسمى "هاي فلاير" High-Flyer، بلغت كلفة تطوير روبوت الدردشة هذا 5.6 مليون دولار فحسب، أي جزء من 100 ألف من كلفة إصدار النسخة الأميركية البالغة 500 مليار دولار.
وحتى إذا أخذنا في الاعتبار بعض المبالغات وسلمنا جدلاً بوجود كلف مخفية غير مصرح عنها، يظل الفارق مذهلاً. ويبدو أن الأميركيين والشركات المستثمرة في مشاريعهم يبددون الأموال، وما زالوا. ولا تختلف الحال بالنسبة إلى المملكة المتحدة، مع خطتها الأكثر تواضعاً البالغة كلفتها 14 مليار جنيه استرليني لتعزيز قطاع الذكاء الاصطناعي داخل البلاد، وخلق نحو 13 ألف فرصة عمل جديدة. لقد فاز الصينيون بالسباق من دون أن يلحظ أحد، أليس كذلك؟
الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة. من عجيب المفارقات أن أحد جوانب القفزة الكبرى للصين في مجال الذكاء الاصطناعي أنها جاءت جزئياً نتيجة القيود الأميركية الرسمية المفروضة على نقل وتبادل التكنولوجيا بين الدولتين [لأسباب تتعلق بالأمن الوطني والتنافس الاقتصادي]. بحسب ما يقال، كان على "ديب سيك" استخدام مخزون قديم من الشرائح الإلكترونية التي تطورها "إنفيديا"، علماً أنها أرخص وأقل كلفة في التشغيل من الإصدارات المحدثة المتوافرة في الغرب. ولما كانت كلف الإنتاج في الصين منخفضة عموماً، يبدو أن كاليفورنيا غير قادرة على المنافسة، أو يمكن القول أقله إن قواعد اللعبة تغيرت.
أحد الأمثلة الأخيرة، كيف أن شركة "بي واي دي" BYD الصينية تنافس شركة إيلون ماسك "تيسلا" في السعي إلى الهيمنة على سوق السيارات الكهربائية، وكيف أن هواتف "هواوي" الذكية تعد بديلاً موثوقاً لـ"آيفون" من "آبل" أو هاتف "سامسونغ"، وكيف أن "تيك توك" يشكل وسيلة تواصل اجتماعي جديدة تماماً وذات شعبية استثنائية، لدرجة أن الولايات المتحدة عاجزة عن حظره.
في حالة "ديب سيك" يبدو أن نهجاً مختلفاً تماماً قد غيَّر، وبصورة كبيرة، الفهم السائد في هذا المجال. وتزعم الشركة أن نموذجها الأول "آر 1"R1 من نوع النماذج اللغوية الكبيرة (اختصاراً LLM)، يسعه معالجة كمية لا حصر لها من الكتب والصحف وصفحات الويب ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، وكل ما هو ضروري لتعليم حواسيبهم كيفية "القراءة"، وفهم اللغات، و"التفكير" والتفاعل مع البشر والآلات، تماماً كما ينمو الطفل ويتطور ويبدأ في التفاعل مع الناس والعالم من حوله. وإذا كان على الصينيين أن يجدوا طريقة لتحقيق هذا الإنجاز باستخدام شرائح إلكترونية أقل جودة وأقل كلفة، فهنيئاً لهم، ذلك أن الضرورة أم الاختراع.
وكما يقول ترمب شكل هذا التقدم الصيني "تنبيهاً" لأميركا، تماماً كما كان "سبوتنيك" بالنسبة إلى آيزنهاور قبل عقود، الذي أطلق وكالة "ناسا" في أعقاب ذلك. وهذه التطورات في الصين – وهناك لاعبون ناشئون آخرون - ستؤثر في أجزاء أخرى من قطاع الذكاء الاصطناعي، مما يفسر، إن لم يكن يبرر بالضرورة، التراجع الذي تسجله أسعار الأسهم في الأسواق المالية.
وفقاً لسام ألتمان، في منشور على منصة "إكس" [تويتر] (لذا أعتذر عن الأخطاء المطبعية...)، "نموذج "آر 1" من "ديب سيك" مثير للإعجاب، لا سيما إذا قارنا المهام التي يمكنه تنفيذها في مقابل السعر. وبالطبع، سنقدم نماذج أفضل منه بأشواط، ومن المشجع أن يكون لدينا منافس جديد! سنطلق بعض الإصدارات قريباً".
في الحقيقة، الخطر الواضح الذي ينطوي عليه "ديب سيك" ثقافي وسياسي. كما لاحظنا، إذا سألته عن تايوان أو ميدان تيانانمين [شهد احتجاجات ضخمة قمعها حكام الصين الشيوعيون لذا يعد موضوعاً حساساً في السياسة الصينية تحديداً أحداث 1989]، يجيبك بصورة ودودة "أنا مساعد ذكاء اصطناعي مصمم لتقديم ردود مفيدة وغير ضارة"، قبل أن يحاول تغيير الموضوع. وبطبيعة الحال، تؤثر مثل هذه التحيزات على نتائجه كافة، وإن بأسلوب أكثر خفاء. وربما يعتري المستخدمين قلق من أن أي استخدام للوحة المفاتيح، أو الدفع عبر الهاتف الذكي، أو رسائل البريد الإلكتروني، أو موقع الويب، سيصار إلى تسجيلها ونقلها إلى بكين، أو حتى من أن البرنامج قد يصبح خبيثاً. ليست هذه الاحتمالات مستبعدة أبداً.
الذكاء الاصطناعي، ومن غير المحتمل أن يخبرك بذلك روبوت دردشة، هو مجال حديث للغاية، ونحن في المراحل الأولى من السباق العالمي بين الدول على تولي القيادة. وبعض الشركات والبلدان ستحصل على الأفضلية في نهاية المطاف، وربما تحتل على نحو غير متوقع مركزاً مهيمناً في السوق، شأن شركات "أمازون" و"إيباي" ومحرك بحث "غوغل" في الماضي. ومن حيث المبدأ، لن يصب هذا في المصالح الاقتصادية والأمنية الاستراتيجية لأميركا. ولكن إذا كانت شركات التكنولوجيا العملاقة عاجزة عن خوض المعركة والفوز بسباق الذكاء الاصطناعي، وكان العالم يرغب في استخدام برنامج الذكاء الاصطناعي الصيني، كيف يمكننا الرد على التحدي الذي يطرحه برنامج "ديب سيك"؟
في انتظار الإجابة هنا...
© The Independent