عندما استفقت من العملية التي شقت بطني طولاً، أربع أصابع فوق السرّة و10 تحتها، حزنت على بطني الذي كان مشدوداً وعلى القرط المزين لسرّتي الذي بات لا مكان له، إنه بطني الجديد، ندبة طويلة تلتقي بندبة عرضية سفلية، وقفت هذه الندبة تحدّق بي مرتاحة إلى مكانها الجديد.
خجلت من ندبتي هذه، ثم وبلحظة واحدة غيّرت رأيي...
لا أحد يعرف ماذا وراء هذه الندوب الظاهرة، ماذا يجري داخل هذا الجسد المتخبط، وكم كان الألم لئيماً، وكم من أوجاع تختبئ وندوب تهمش الداخل، وخلصت إلى فكرة أنهّ لكل منا ندوبه الخاصة، ندوب على الجسد أو في أعماق الروح، ندوب في الذهن أو في القلب، ندوب لا تحصى، بعضها ظاهر بجرأة أو وقاحة وبعضها يهشّم الأرواح، وها أنا أرتدي ندبتي هذه كوشم يذكرني بذلك القلق، وذلك الوجع ويجمعهما في صرّة من التناسي وبوابل من الأمل.
مرات عدة بحثت عن وشم أو "تاتو" أخفي فيه هذه الخطوط الممعنة في التباهي والظهور، مرة فكرت بصائدة الأحلام الهندية، ومرة برأس ذئب وحيد مع قمره، ومرة بريشة متناثر بعض منها، ومرة فكرت بأسماء عائلتي، ومرة ببومة سعيدة، ومرة بضفيرة لفتاة تشيح بوجهها عن هذا الكون، ومرة بأرجوحة طائرة، ومرة بقصيدة، وجمل تكاد لا تنتهي... لوحات عدة رسمها خيالي ولم تجد طريقها بعد إلى جرحي.
قد تكون مقدمة طويلة للحديث عن الوشم بهدف تغطية الجرح، ولكن لا بد من معرفة ماذا يدور في الفكر حتى يقرر أحدهم أن يغطي ندبته التي لم يخترها بوشم من اختياره على الأقل.
الفنان اللبناني هادي بيضون الذي درس تصميم الغرافيكس، ويعمل في تصميم ديكورات مبتكرة، ويرسم الغرافيتي، إضافة إلى نقش الأوشام منذ حوالى 25 عاماً، يقول إنه عندما غطى ندبة كبيرة تمتد من البطن إلى الظهر فالساق من آثار عملية، اتصلت به السيدة تقول له إنها أصبحت قادرة على النظر إلى المرآة بمعنويات عالية وراحة نفسية وإنه غيّر حياتها. وكان قد غطاه بـ "تاتو" شجرة كرز مزهرة.
الحروق والجروح
ويؤكد هادي الذي يملأ جسده حوالى 20 "تاتو" بعضها وشمها بنفسه وبعضها أثناء سفره، أن التقنية نفسها تستعمل في العمل على أي جلد مع الأخذ في الاعتبار أن الجروح والحروق يجب أن يكون قد مرّ زمن عليها لينقش عليها "تاتو".
البعض، يخبر هادي، تكون لديه ندبة لكنه يختار أن يوشم مكاناً آخر، هذا يعود ربما إلى شكل الندبة ومكانها وإلى ارتياح أو عدم ارتياح الشخص نفسياً مع ندبته.
فكرت في جرح يدي الذي لم أوشمه بل ذهبت إلى خيار آخر إذ وشمت على الطرف الآخر من اليد جملة طويلة، وظل أثر الجرح تذكاراً لحقبة معينة كوشم جلدي له ذاكرته وقصته.
من الكتابة إلى الرسم
أما ماذا يمكن أن يوشم على الندبة فكل شيء وارد، من الكتابة إلى الرسم، ويفضل هادي في بعض الأحيان إضافة ألوان إذا أراد الشخص إخفاء الآثار بشكل كامل، يقول هادي إنه عندما تأتيه حالة جرح معين يصوره ويضعها على شاشة ويجعل الزبون قادراً على رؤية الـ "تاتو" على الفوتوشوب وكيف سيخفي الجرح، وليقوم بالتعديل الذي يناسبه قبل البدء بنقش الوشم.
وعن أكثر الجروح التي يطلب الناس تغطيتها بالـ "تاتو" يقول هادي إنها آثار عمليات تجميل شد البطن والصدر وبعض الحالات تكون بسبب مرض أو حرق.
تجميل جرح الولادة
وتقول إحدى السيدات إنها جمّلت جرح الولادة القيصرية بوشم شريط شائك لتعبّر أيضاً كم كانت فترة حملها شائكة ومتعبة، وتحملت ألم الـ "تاتو" من أجل زوجها الذي دائماً ما كان يذكرها بندبتها تلك، لكنه لم يحب الرسم الذي اختارته ما جعلها تضيف إليه بعد فترة زهوراً وأوراق شجر، وعندما حصلت على النتيجة التي أرادتها هي وزوجها تغيرت نفسيتها للأفضل، ولم تعد تخجل من جرحها.
مرساة سفينة
شانتال أيوب تقول إنها كانت تفكر بوشم صغير، وهو مرساة سفينة، ولم تكن قد قررت له مكاناً خاصاً، ولكن ندبة ما بعد عملية في كاحلها الذي كُسر جعلتها تقرر تكبير حجمه إلى 10 سنتمرات لتغطي آثار العملية، وجعلها قادرة على اختيار المكان بسرعة.
تضيف شانتال أنها لم تكن محرجة من جرحها ولم يزعجها ولم تشعر أن عليها أن تخفيه، ولكن فكرة الـ "تاتو" كانت في بالها وتبلورت في الزمان والمكان المناسبين، وتحب شانتال وشمها الذي أصبحت تنتعل أحياناً أحذية من دون ساق لتظهره. وتقول "لو عاد بي الزمن أكيد لكنت سأعمل الـ "تاتو" ذاته".
"تاتو"... وسرطان الثدي
ريتا قسطنطين السيدة التي أصيبت بسرطان الثدي بعمر 33 سنة وخضعت لعلاج كيميائي، زرع لها الطبيب "شامبر" أو "بورت" أي جهاز وصول للوريد بدل وخز الدواء في شرايين اليد التي أصبحت ضعيفة بسبب العلاج.
لم تخجل ريتا من جرحها لكنه كان يذكرها بالألم والأيام الصعبة ويظهر للجميع أنها ناجية من السرطان، لأنه ظاهر في أعلى الصدر، أرادت ريتا أن تخفي هذه الندبة بعد أن انتهت من العلاج، فاختارت وردة مع جملة باللغة الإيطالية تعني "لتكن مشيئتك". وأصبحت ترتدي ثيابها براحة، بعد أن غطى الـ"تاتو" الجرح بشكل كامل.
وتقول ريتا إنه ما زالت لديها ندبات أخرى في ظهرها وتحت إبطها بسبب العمليات التي خضعت لها، لكنها لا تظهر وتقول "لم أغطّها لأنها لا تزعجني".
إخفاء الندبة
ويقوم البعض بإخفاء الندبة كلياً، والبعض يحاول أن يحوّلها إلى لوحة فنية، كل بحسب مزاجه أو بحسب شكل الندبة وتأثيرها النفسي والاجتماعي.
وبينما كنت أبحث عن "تاتو" يخفي الجرح وآخر يضيء عليه، تذكرت أنني قرأت عن فن ياباني يصلح الكسور بالذهب، فتدخل عروق الذهب في الأواني أو التحف المكسورة وتزيدها تألقاً وقيمة وثمناً، هذا الفن ظهر في القرن الخامس عشر ويسمى "كنتسوجي"، والكلمة تعني "ربط الذهب". فعندما أراد أحد الأمراء ويدعى أشيكاغا يوشيماسا أن يرمم آنيته التي كسرت خلال حفلة شاي، كانت النتيجة كارثية في البدء على الصعيد الفني إلى أن عهد بالمهمة إلى حرفيين يابانيين رمموها بالذهب.
بالطبع هذه التقنية لا تخفي الكسور والجروح بل تظهرها وتضيئها، وتبيّن جمالية وبعداً آخر لها، وتحمل في طياتها قصصاً عن السقوط والألم والتجربة والخبرة.
لا تجزع من جرحك
يقول الشاعر والدرويش الصوفي شمس الدين التبريزي "لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك".
قد تكون خيوط الذهب هي نور القطعة المكسورة سابقاً، كما قد يكون الوشم الذي يظهر الندبة نور الجرح القديم الذي يهب صاحبه معنويات عالية، وقد يجد البعض أن موضوع الوشم بحدّ ذاته ليس بهذا العمق، على الرغم من أن تاريخه يعود إلى أكثر من 5000 سنة في جبال الألب، كذلك وجدت آثار لأوشام على المومياء المصرية، واستعملت بطرق مختلفة، منها تمييز فئة من الناس، أو للإعلان عن بلوغ سن الزواج، أو للزينة.
اليوم يرتبط الوشم بالزينة في معظم المجتمعات، ويرتبط بإخفاء معالم جروح ما أو بإظهارها بحسب الجرح ومكانه ومكانته وذكراه، وثقافة حامله.