ملخص
كل ما هو جزائري إيجابي يثير الحساسية والكراهية لدى المصابين بفيروس "الجزائرفوبيا"، ويعمل هؤلاء وبكل الوسائل على تشويه صورته ومسخها في عيون العامة في الداخل وفي أوروبا.
"الجزائرفوبيا" مرض جديد، جائحة سياسية معاصرة، فيروس حاد يصيب بعض الكائنات من النخب السياسية والثقافية والإعلامية الجزائرية والأجنبية على حد سواء، ينتشر هذا الفيروس بشكل واضح على الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، وتوجد بعض البؤر له في الداخل وفي الجوار الجغرافي للجزائر، والغريب أن فيروس جائحة "الجزائرفوبيا"، يصيب بشكل مباشر المثقفين من الجزائريين أو من مزدوجي الجنسية الذي ينتمون إلى ما يسمى بسلالة "عرب السرفيس" (عرب الخدمة) والذين هم في خدمة "سيد" لهم حتى إشعار آخر، أي حتى انتهاء المهمة الموكلة إليهم والتي ستنتهي قريباً جداً.
تتميز جائحة "الجزائرفوبيا" المنتشرة في القارة العجوز، بظاهرة إطلاق النار، نار الكراهية، على كل ما هو جزائري، وعلى كل جزائري يعبر بطريقة من الطرق عن ولائه الصادق لبلده، وعن حقه في الدفاع عن هذا البلد، الدفاع عن البلد لا يعني الدفاع عن نظام سياسي بعينه، لكن الجزائرفوبيا صنفت كل من يدافع عن بلده، من يقف إلى جانب بلده، في خانة المدافع عن النظام، بالتالي فهو: عميل لهذا النظام أو ذاك.
في عيون الجزائرفوبيا لا توجد جزائر خارج النظام السياسي.
كل ما هو جزائري إيجابي يثير الحساسية والكراهية لدى المصابين بفيروس "الجزائرفوبيا"، ويعمل هؤلاء، وبكل الوسائل، على تشويه صورته ومسخها في عيون العامة في الداخل وفي أوروبا.
كل بلد وفيه نقائص ومفاسد، وصورة الجزائر ليست "مشينة" إلى الدرجة المرضية الهستيرية التي يتم تقديمها عليها من قبل المصابين بفيروس "الجزائرفوبيا"، الجزائر ليست جنة وليست جحيماً، فهي شأنها في ذلك شأن كثير من دول الجوار في الشمال وفي الجنوب، في الشرق وفي الغرب، فأبناء نوميديا القديمة أنتجوا ثورة معاصرة عظيمة شارك فيها المسلم والمسيحي واليهودي والشيوعي واللائكي ضد الاستعمار الاستيطاني (وهذه ليست ديماغوجية بل هي فصاحة التاريخ الذي لا يمكن تغطيته بالغربال حتى وإن كان البعض يريد التسويق لبعض المغالطات الإسلاموية أو الوطنياتية الشوفينية) وأبدع الجزائريون أدباً جميلاً مقاوماً من خلال أقلام مميزة مقاومة، عبر أجيال متتالية من الكتاب باللغة الفرنسية، من النساء والرجال، أسهموا على مدى قرن، ولا تزال هذه الكتابة مستمرة بإبداع وتألق، أسهموا في بناء ذاكرة تاريخية إنسانية لا يمكن محوها وأسهموا حتى في إنقاذ اللغة الفرنسية نفسها من الشيخوخة، كتاب وأدباء تعلموا اللغة الفرنسية وأتقنوها في زمن استعماري عصيب وعنصري، بل افتكوها من هذا الاستعمار الذي لم يكن يرغب في تعليم الجزائري لا الفرنسية ولا العربية ولا الأمازيغية، كان يريده كائناً جاهلاً أمياً تحت الطلب، كتبوا بهذه اللغة من دون أن يغيروا جلدهم أو يخونوا هويتهم الوطنية أو يتنكروا لبلدهم.
وبجهد كبير اطلع الكتاب الجزائريون بالفرنسية، وهم يخوضون معركة التحرير الشريفة، على كتب المفكرين والفلاسفة الفرنسيين والأوروبيين التحرريين والتنويريين، واستعملوا الأفكار الواردة فيها في المقاومة والتحرير، تحرير العقول وتحرير الأرض على حد سواء، لم يتخلفوا عن ساعة موعد الانضمام إلى قافلة التاريخ المناهضة للاستعمار، وكانت كتبهم، روايات وأشعار ومسرح ونقد، تقرأ في باريس وفي الجزائر على حد سواء كصوت للحرية والمقاومة والاستقلال، وقد جرت عليهم كتاباتهم كثيراً من الأعداء من الكولونياليين العنصريين ومع ذلك لم يتراجعوا ولم يتنازلوا عن نهجهم الوطني، ولم يبيعوا ذممهم للشيطان ولا للمال ولا للمناصب، وكان لهم أيضاً وفي الوقت نفسه أصدقاء كثر من المدافعين عن العدالة والاستقلال من الفرنسيين أنفسهم، وبين الصوت العدو والصوت الصديق لم يساوم أحدهم يوماً عن فكرة استقلال البلد أو عن وحدة التراب الوطني.
اليوم على المصابين بفيروس "الجزائرفوبيا" من مثقفي السرفيس أن يتأملوا المسار التاريخي لهؤلاء العمداء، الأجداد والآباء من الكتاب وأن يقرؤوا أو يعيدوا قراءة إنتاجهم الروائي والشعري كي يفهموا الدرس جيداً ويفكوا دلالات معنى الموقف النظيف في التاريخ، وكيف أن الكتابة الخالدة تكون قوية حين تلتزم جانب الحق والعدل والصدق والجمال، ومن بين هؤلاء كاتب ياسين ومحمد ديب ومفدي زكريا وآسيا جبار ورضا حوحو ومولود معمري ونور الدين عبة وعبدالكريم العقون ومولود فرعون ومالك حداد وطاووس عمروش ومالك واري وبشير حاج علي وجان عمروش وجان سيناك ونبيل فارس وجمال عمراني وقدور محمصاجي وغيرهم.
وجاءت مرحلة الاستقلال وأصيب بعض هؤلاء الكتاب العمداء بالخيبة في الطريقة التي أدارت بها الأنظمة السياسية المتلاحقة مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية المعاصرة، فانتقل النضال من مقاومة الاستعمار الذي هزم في حرب تحريرية عظيمة إلى مقاومة النظام السياسي بأسلوب نقدي شفاف وواضح مستنكرين الأمراض التي أصابت مفاصل الدولة الوطنية الجديدة، كل ذلك في رؤية تفصل بوضوح ما بين الجزائر البلد بمؤسسات الدولة والنظام السياسي في الجزائر، لم يكن هناك أي لبس لديهم في التفريق بين البلد ومؤسساته الدائمة ونظام سياسي موسمي يدير البلد، كما هو واقع الحال اليوم في أذهان النخب المصابة بفيروس الجزائرفوبيا، إذ يتم الخلط قصداً ما بين نقد النظام السياسي، وهذا من واجب بل من شروط المثقف التنويري الذي يريد التغيير لا الهدم، وبين كراهية البلد ومؤسسات الدولة المستقلة.
في زمن الاستقلال عانى كاتب ياسين كثيراً من الحصار والنفي الداخلي، وعاش الشاعر بشير حاج علي السجن والإقامة الجبرية، وعاش جان سيناك التهميش، وعاش محمد ديب المنفى الاختياري، وعاش مالك حداد حالاً من الصمت، وعاش جان عمروش نوعاً من الجحود، وعانى مولود معمري الأمرين في الدفاع عن الهوية والثقافة الأمازيغية، ومات مفدي زكريا شاعر الثورة وشاعر النشيد الوطني قسماً في المنفى، وغيرهم ولكن لا أحد من هؤلاء تجرأ على شتم أو سب الجزائر ومؤسسات الدولة والتي هي المستقبل ورمز القبر وهي الأم وهي الخبزة وهي الشرف.
وعاشت الجزائر المستقلة العشرية الدموية ولم يركع كاتب حقيقي للإرهاب، بل اغتيل كثير منهم من قبل الجماعات الإسلامية الإرهابية، اغتيلوا لا دفاعاً عن النظام ولكن من أجل أن تبقى الجزائر واقفة، ألا تنهار الدولة فيصبح البلد مفككاً مثل أفغانستان أو ليبيا أو السودان أو اليمن، واليوم هل يتذكر "كتاب السرفيس"، "عرب السرفيس"، شهداء الكلمة الشريفة الذين قدموا أرواحهم من أجل جزائر المؤسسات من أمثال الطاهر جاووت ويوسف سبتي والهادي فليسي ومحفوظ بوسبسي والجيلالي اليابس وامحمد بوخبزة وبختي بنعودة وعبدالقادر علولة وعزالدين مجوبي وسعيد مقبل.
حين يبدع الفنانون التشكيليون من أمثال امحمد اسياخم ومحمد خدة وباية ومحمد راسم وعائشة حداد ورشيد قريشي وعثمان مرسالي وكريم سركوة وغيرهم، يبدعون بحس جمالي عالي، يفعلون ذلك من أجل جزائر دولة المؤسسات المحلومة، دون أن يقتصدوا في نقد الأنظمة السياسية، فأن تكون منتجاً للجمال فأنت بالضرورة منتج للقيم التحررية والإنسانية الكبرى وأنت بالضرورة أيضاً تمثل صوتاً نقدياً لمواجهة الفساد والقبح السياسي والاجتماعي، وأنت أيضاً صوت في الدفاع عن الدولة المعاصرة.
لا أحد شكك يوماً في صدق معركة قادها كاتب ياسين وبشير حاج علي وامحمد اسياخم ومولود معمري وآسيا جبار ومفدي زكريا وغيرهم ضد الاستعمار من جهة وضد كل أشكال القمع والتضييق التي مارستها الأنظمة السياسية المتعاقبة، لكن ظلت الجزائر في الحالين هي البوصلة التي اهتدى بها هؤلاء المبدعون العمداء.
واليوم أيضاً كما بالأمس، فللجزائر أعداء في فرنسا من صفوف اليمين المتطرف ولها أصدقاء كثر من القوى الديمقراطية الحرة، من اليمين التقليدي الليبرالي ومن الوسط ومن اليسار، لذا علينا ألا نسقط في التعميم والعدمية، وأننا كقوى مدافعة عن الخير والسلام علينا أن نعمل على التقريب بين النخب الإبداعية والسياسية الإيجابية في البلدين من أجل مصالح مشتركة في ظل احترام متبادل بين شعبين يجمعهما الكثير.
اليوم ومع اختفاء المثقف الملتزم وظهور المثقف النجم، وشيوع سلطة المؤثرين وقبيلة صناع المحتوى، ومع طغيان ثقافة الاستهلاك في الفن والأدب والإعلام تعددت أسواق النخاسة الإبداعية والإعلامية بكثرة، وكثرت النخب التي تريد السباحة في الماء العكر وتراجع صوت المثقف النقدي الإيجابي.
هل للمصابين بفيروس الجزائرفوبيا أن يتأملوا ولو للحظة هذه الفسيفساء الأدبية المتنوعة والممتدة في التاريخ والتي تشكل المناعة الفلسفية والثقافية ضد كل هواة زرع الفتنة والكراهية بين الشعوب والثقافات، عليهم أن يتأملوا هذه السلسلة من أبوليوس إلى رشيد ميموني ومن يوبا الثاني إلى الأمير عبدالقادر، ومن سانت أوغسطين إلى الشيخ عبدالحميد بن باديس، ومن السي امحمد أو محند إلى عبدالله بن كريو، ومن محمد بن إبراهيم (صاحب رواية حكاية العشاق كتبت العام 1849) إلى الطاهر وطار، ومن مولود معمري إلى بشير مفتي، ومن آسيا جبار إلى ربيعة جلطي، ومن أحلام مستغانمي إلى ليندة كوداش.
البلاد التي أنتجت هؤلاء الكبار، نصوصاً ومثقفين ومواقف، ولا تزال ولادة، لا يمكن للمصابين بفيروس الجزائرفوبيا تشويهها أو تركيعها، لكن مع ذلك يجب القول إن على مؤسسات الدولة جميعها أن تدرك بأن ظاهرة "الجزائرفوبيا" لا يمكن التصدي لها بقوة إلا برص صفوف الأصوات الصادقة على تنوعها واختلافاتها من دون إقصاء، وذلك من خلال القيام بمراجعة شجاعة ذاتية لمكونات البيت الوطني بكل فسيفسائه.