ملخص
"ما يجري في قرية النعمان هو دليل قاطع على أن الضفة الغربية بكل تقسيماتها مستهدفة بالضم والتوسع تنفيذاً لبنود خطة الحسم التي رسمها وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش".
بعد أن باع محمد الدرعاوي (40 سنة) معظم أثاث منزله ومصوغات زوجته لتأمين مبلغ ضريبة الأملاك (الأرنونا) التي أقرتها المحكمة العسكرية الإسرائيلية عليه قبل عام ونصف العام، والبالغ 60 ألف شيكل (16800 دولار)، تفاجأ صباح الـ26 من يناير (كانون الثاني) الجاري ببلاغ عسكري ألصق على باب منزله في قرية النعمان شرق مدينة بيت لحم جنوب الضفة الغربية، يتضمن هدم المنزل بحجة عدم الترخيص. وما إن همَّ فَزعاً إلى المجلس القروي ليستطلع عن الأمر، صُدم بأن كل منازل القرية البالغ عددها 45 منزلاً أخطرت بالهدم في بلاغات عسكرية مماثلة وزعت على سكانها بحجة عدم الترخيص، على رغم أن كل منازل القرية بنيت قبل عام 1948، وآخر منزل بني فيها كان عام 1993. ومنذ أن ضمت إسرائيل قرية النعمان إلى أراضيها عام 1967 من دون الاعتراف بسكانها لكونهم من سكان الضفة الغربية، يعيش سكان القرية التي تبلغ مساحتها 1.5 مليون متر مربع في عزلة شبه تامة وهم مفصولون عن القدس من ناحية وعن الضفة الغربية من الناحية الأخرى، خصوصاً بعد أن فرضت إسرائيل عام 2003 جدار الضم والتوسع من الناحية الشرقية والجنوبية للقرية، وعلى رغم أن بلدية القدس لا توفر للقرية خدمات بلدية ولا تصادق على خرائط البناء فيها، فإنها فرضت على جميع المنازل في القرية ضريبة الأملاك (الأرنونا) عن ستة أعوام سابقة، إذ دُفع ما بين 30 و60 ألف شيكل (نحو 8400-16800 دولار)، عن كل منزل، فيما يُمنع على السلطة الفلسطينية تقديم الخدمات للقرية لأنها خلف الجدار.
ووفقاً لمعطيات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا) فإن السلطات الإسرائيلية هدمت بين السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 والـ15 من أكتوبر 2024 أكثر من 1787 منشأة فلسطينية، منها 800 مسكن مأهول، أدت إلى نزوح نحو 4500 شخص، فضلاً عن تضرر نحو 532 ألفاً آخرين جراء هدم منازلهم أو منشآتهم التجارية والصناعية والزراعية.
وتتصدر مدينتا جنين وطولكرم محافظات الضفة من عدد النازحين نتيجة الاقتحامات المستمرة وعمليات الهدم والتجريف، وبينت "أوتشا" أن 1191 منشأة هدمت بذريعة البناء "من دون تراخيص" و537 منشأة هدمت خلال العمليات العسكرية، و43 منزلاً ومنشأة ضمن سياسة العقاب الجماعي، التي طاولت منازل ذوي منفذي العمليات الفلسطينية ضد إسرائيليين. وبحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية، فقد أصدرت السلطات الإسرائيلية العام الماضي 903 إخطارات بهدم منشآت فلسطينية بحجة عدم الترخيص، تركز توزيعها في محافظات الخليل بنحو 180 إخطاراً، ومحافظة أريحا والأغوار بـ140 إخطاراً، ثم محافظة بيت لحم بـ126 إخطاراً، تخللها إصدار 20 إخطاراً تستهدف برية بيت لحم الشرقية.
قيود صارمة
في بداية عام 2006 وضع الجيش الإسرائيلي عند المدخل الجنوبي الشرقي لقرية النعمان بوابة عسكرية ونصب على مقربة منها حاجز "مزموريا" المعزز طوال ساعات اليوم من قبل عناصر حرس الحدود، الذي أصبح في ما بعد المدخل الوحيد الموصل إلى القرية، المزود بكشوفات أرقام المنازل وأسماء المواطنين فيها، إذ يُحرم القادمون من الزوار أو الأقارب من الدخول إلى القرية، باستثناء من له رقم مسجل ضمن الكشوفات الموجودة عند الحاجز العسكري، بل الأخطر من ذلك، أنه بعد السابع من أكتوبر 2023 لا يُسمح لسكانها بعبور الحاجز مشياً على الأقدام.
وعبّر رئيس المجلس القروي لقرية النعمان جمال الدرعاوي عن قلقه البالغ إزاء الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة، الهادفة إلى هدم القرية بالكامل، وأكد أنه في حال تنفيذ إخطارات الهدم، فستُفصل محافظة بيت لحم عن القدس بصورة كاملة، بحكم أن قرية النعمان ملاصقة لحدود قرية صور باهر المقدسية، ومع منع السلطات الإسرائيلية إدخال المواشي والطيور إلى القرية، إلى جانب القيود التعسفية على نقل أكياس العلف عبر الحاجز وتفريغها لفحص محتوياتها، يرزح السكان منذ عقود تحت وطأة شلل اقتصادي كبير غير مسبوق، لكون معظمهم يعتاشون بالدرجة الأولى من المزروعات الحقلية وتربية المواشي، خصوصاً مع حظر إسرائيل إدخال المعدات الزراعية من القرى المجاورة لغرض تفليح المساحات الزراعية، إضافة إلى ذلك فقد فرضت إسرائيل القيود على إدخال المؤن الاستهلاكية الأساس إلى القرية مثل اللحم والطحين، وفي كثير من الحالات يطلب من السكان تفريغ أكياس الطحين التي يصل وزنها إلى 50 كلغ ونقل المحتويات إلى أكياس أصغر بغرض التفتيش، وفي حالات أخرى يُقيّد عناصر حرس الحدود كمية اللحم التي يحق لكل مواطن إدخالها إلى القرية. علاوة على ذلك، نظراً إلى أن عدداً محدوداً من السكان يُسمح لهم بالمرور إلى القرية بواسطة السيارة، فإن معظم سكان القرية يُضطرون إلى نقل حاجياتهم من الحاجز إلى القرية سيراً على الأقدام لمسافة نحو كيلومتر ونصف الكيلومتر. ويصبح الأمر أكثر تعقيداً عندما يتعلق الأمر بأحمال ثقيلة، كذلك فإن القيود الصارمة المفروضة على السكان تؤثر أيضاً في قدرتهم على الاستفادة من الخدمات الطبية الأساس، إذ لا تتوفر هذه الخدمات في القرية، إذ يُضطر المرضى من سكان القرية للوصول إلى الحاجز الذي يبعد نحو كيلومتر ونصف الكيلومتر عن بيوتهم مشياً ومن ثم الانتقال من هناك بواسطة سيارة أجرة إلى عيادة في قرية مجاورة أو إلى المستشفى في بيت لحم.
طريق جبلية
ولأن القرية خارج الجدار جهة بيت لحم، ويحمل سكانها الهوية الفلسطينية، فلا يستطيعون الابتعاد عن منازلهم مسافة أكثر من 150 متراً وفقاً لما فرض عليهم من أوامر عسكرية، وإلا فسيكونون عرضة للاعتقال، ويمنع على طلبتها استكمال دراستهم في مدارس ومعاهد مدينة القدس، باستثناء عدد قليل منهم يملك أحد والديهم هوية إسرائيلية ويدرسون في مدارس قرية أم طوبا المقدسية المجاورة، التي يسيرون إليها كل يوم في طريق جبلية وعرة تبعد كيلومترين تقريباً، فيما يدرس بقية تلاميذ القرية في قريتي الخاص والعبيدية التي يصلون إليهما بواسطة مركبات تنتظرهم خارج الحاجز، وفي كثير من الحالات يؤخر عناصر الشرطة الموجودون عند الحاجز التلاميذ ويفتشونهم ويفحصون حقائبهم، وقد حدا الحظر الشديد الذي تفرضه إسرائيل على دخول سكان الضفة الغربية على القرية بمنع السكان من ممارسة الحياة العائلية والاجتماعية الأساس والتمتع بزيارات الأصدقاء والأقارب في أيام الأعياد وفي المناسبات العائلية المختلفة، حتى وإن كانوا من الدرجة الأولى، وهم الذين اضطروا إلى ترك القرية بحكم الزواج أو لأي سبب آخر، وأمام منع التوسع العمراني فيها منذ عام 1993 اضطر شباب القرية إلى البحث عن مكان للسكن وبداية حياة جديدة خارجها. الباحث في مجال الاستيطان والجدار حسن بريجية يرى أن "إحكام الحصار والسيطرة الإسرائيلية على قرية النعمان منذ عقدين بصورة صارمة وإثقال كاهل قاطنيها بالديون والفقر ومنعهم من التوسع والبناء" مكن إسرائيل من الإمعان أكثر في انتهاكاتها لدرجة التفكير بهدمها كلياً ومحوها عن الخريطة الفلسطينية".
أروقة المحاكم
في عام 2004 و2007 قدم سكان النعمان التماساً إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية من أجل تفكيك جزء من الجدار الذي يمر على مقربة منهم وتمكينهم من حرية الحركة من القرية وإليها، أو بدلاً من ذلك الاعتراف بهم كمواطنين ثابتين في إسرائيل، إلا أن الأمر باء بالفشل، وقد عاودوا الالتماس مرات عدة إلا أن قضيتهم ظلت لليوم في أروقة المحكمة.
من جهته، اعتبر مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في بيتسليم أن امتناع إسرائيل عن الاعتراف بسكان قرية النعمان كمواطنين في القدس من ناحية، والقيود التي تفرضها على حركتهم وتنقلهم إلى بقية مناطق الضفة الغربية من ناحية أخرى، "سببان يؤديان إلى عزل السكان وفصلهم وإلحاق ضرر بالغ بحقوق الإنسان"، وأضاف "طبيعة الضرر الذي يلحق بالسكان تثير الشكوك بأنها تهدف إلى التسبب في نزوحهم عن القرية إلى قرى تقع في الطرف الفلسطيني من الجدار الفاصل".
منذ عام 1993، منعت السلطات الإسرائيلية السكان من التوسع والبناء بحجة أنها منطقة "خضراء"، وفيما كان عدد سكان القرية يقارب 350 فلسطينياً وأكثر في تسعينيات القرن الماضي، تناقص العدد اليوم إلى أقل من 200 مواطن بسبب سياسة التضييق الإسرائيلية المشددة، على رغم أنها لا تبعد كثيراً من مستوطنة "أبو غنيم" التي كانت عبارة عن غابات من الأشجار قُطعت وأقيمت المستوطنة عليها عام 1997، وهو ما دفع المستوى السياسي الفلسطيني إلى التأكيد أن السلطات الإسرائيلية استغلت انشغال العالم خلال فترة الحرب التي استمرت 15 شهراً وما تبع ذلك من اتفاق لوقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل كفرصة سانحة من أجل تثبيت وقائع على الأرض وبخاصة المناطق المصنفة "ج" و"ب"، وعليه تُعجل اتخاذ قرارات لها علاقة بالهدم.
بدوره، يقول مسؤول العمل الجماهيري في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان عبدالله أبو رحمة إنه "وبسبب اعتداءات المستوطنين هُجر المواطنون الفلسطينيون قسراً من مناطق ‘جيم‘ إلى المنطقة المصنفة ‘ب‘ خلال فترة الحرب، على اعتبار أنها الأوفر حظاً من ناحية الأمان وحرية الحركة". وأضاف "ما يجري في قرية النعمان هو دليل قاطع على أن الضفة الغربية بكل تقسيماتها مستهدفة بالضم والتوسع تنفيذاً لبنود خطة الحسم التي رسمها وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش".
وقال مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إن إسرائيل تسرع وتيرة الخطوات الرامية إلى ترسيخ ضم الضفة الغربية بما يشمل القدس الشرقية، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية واستبدال بالمجتمعات الفلسطينية المستوطنين انتهاكاً للقانون الدولي، وأكد المكتب أن ذلك يتعارض مع الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في يوليو (تموز) 2024 والذي خلص إلى أن الوجود الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية "غير قانوني ويجب أن ينتهي في أسرع وقت ممكن"، ودعا إلى "الإخلاء الفوري لجميع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية". وأعرب المكتب عن القلق إزاء التطورات الأخيرة إذ وقعت عمليات هدم جماعية لمنازل ومبانٍ فلسطينية في القدس الشرقية، إضافة إلى عمليات هدم نفذت للمرة الأولى في محمية طبيعية في المنطقة (ب) التي تقع تحت سلطة السلطات الفلسطينية. وقال المكتب الأممي إنه "يكاد يكون من المستحيل على الفلسطينيين الحصول على تراخيص بناء بسبب قوانين التخطيط وتقسيم المناطق التمييزية".