Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إرث التمزق... من يرتب أوراق سوريا؟

الإدارة الجديدة تواجه مزيجاً من الملفات المعقدة والشارع قلق من استئثارها بالسلطة وقراراتها المرتجلة

في مقهى بوسط دمشق بينما يبث التلفزيون المحلي صوراً للزعيم السوري الجديد أحمد الشرع (أ ف ب)

ملخص

من نافلة القول، أن حكومة تصريف الأعمال تجاوزت دورها المنوط بها دستورياً وسيادياً بحفظ الأمن والأمان وتسيير الأعمال المنصوص عليها في المواثيق الدولية، لتذهب أبعد من ذلك بكثير نحو البت بقضايا سيادية لا يمكن غض الطرف عنها.

"من يحرر يقرر"، جملة تجتاح الشارع السوري إلى أن باتت الأكثر تداولاً بين الناس وعلى منصات التواصل الاجتماعي بعد انتصار الثورة السورية. وعلى رغم أنها لم تصدر علانية كقول من مستويات الإدارة الجديدة الرفيعة، فإنها مورست فعلياً على مستويات متعددة من بينها الاستئثار بالسلطة والتعيينات، والسماح لحكومة تصريف الأعمال بتخطي دورها قولاً وفعلاً نحو قرارات لا يمكن البت بها إلا عبر سلطة شرعية، تستمد شرعيتها من الانتخابات ووجود دستور قائم وقوانين ومراسيم من مجلس شعب ومجلس قضاء أعلى وحكومة انتقالية.

كمن سيبقى أبداً

من نافلة القول، أن حكومة تصريف الأعمال تجاوزت دورها المنوط بها دستورياً وسيادياً بحفظ الأمن والأمان وتسيير الأعمال المنصوص عليها في المواثيق الدولية، لتذهب أبعد من ذلك بكثير نحو البت بقضايا سيادية لا يمكن غض الطرف عنها، وعلى رأسها تصريحات وزير خارجية تصريف الأعمال أسعد الشيباني في مؤتمر "دافوس"، حين تحدث عن خصخصة القطاعات ومن ضمنها الموانئ والمرافئ، وما ورد على لسانه من تطلعات تحتاج توافقاً شعبياً قائماً على أساس الاستفتاء على الدستور الموحد للجمهورية، والذي أشار قائد العمليات أحمد الشرع في لقاء سابق إلى أن كتابته قد تتطلب أعواماً.

ممارسات الحكومة الحالية باتت أكبر من أن تُحصى، ليس في إطار عملها واجتهاداتها بل وفي تجاوزها صلاحياتها، ومن بين تلك التجاوزات حل منصب المحامي العام والنائب العام ليحل مكانهما تسمية "رئيس العدلية"، وهي تسمية جديدة رافقها تسريح جملة من القضاة ونقل آخرين وهو ما يحتاج مجلس قضاء أعلى، لا سيما أن وزير العدل نفسه يواجه إشكاليات دولية مذ كان قاضياً شرعياً في إدلب وثبت عليه تلاوة حكم الإعدام على امرأتين بجرم "الدعارة".

وضمن موجة التعسف تلك كانت صرف عشرات آلاف الموظفين من أعمالهم، من ثم إضافة آلاف العائلات الجائعة الجديدة، إلى جانب المجازر التي لا تزال ترتكب في مناطق متعددة من البلاد على أسس مذهبية، وآخرها في قرى ريف حمص الغربي والتي استدعت تدخلاً سريعاً من محافظ المدينة ومسؤوليها لتبيان الأمور، والقول إن جماعات منفلتة وصلت إلى المنطقة بعد خروج الهيئة هي من ارتكبت مجازر انتقامية راح ضحيتها أكثر من 50 شخصاً بين ضابط ومدنيين في قرية "فاحل" على وجه الخصوص.

دولة عدل لا ثأر

في الإطار تبدو الهيئة واعية لما تفعله، وهي التي تسعى قدر المستطاع إلى الابتعاد من الجريمة المنظمة وتنظيم صفوفها للابتعاد من شبح الإرهاب، والانخراط في سياق بناء دولة قال الشرع نفسه عنها إنها "دولة عدل وليست دولة ثأر"، وإن "الثورة انتهت مع تحقيق أهدافها".

وعلى رغم ذلك فإن واقع الحال يقود إلى سؤال مركب، ماذا عن آلاف الجنود الأجانب الذين تمت ترقية نحو ثمانية منهم إلى رتب عقيد وعميد ولواء في الجيش السوري الجديد؟ وماذا عن رفاق الأمس وكيف سيكون سبيل التخلص منهم وهم الذين قامت قيامة أهل الساحل الأسبوع الماضي عليهم لوجود قطعة عسكرية لهم قرب مدينة جبلة؟ وهذه القطعة الأجنبية ارتكبت مجازر عشوائية عدة قبل أن يأتي أمر انسحاب الأجانب من الساحل، لذا وفي هذا الموضع بالضبط يبدو الشرع في مأزق خطر وهو الذي يسعى بكل ما استطاع إلى محو صفة الإرهاب الملصقة بتنظيمه وشخصيات الصف الأول منه.

ولأن "من يحرر يقرر" فإن تلك الأمور تحمل قلقاً كبيراً لمكونات متعددة من بينها المكون السني المعتدل الذي بات يصحو على جهاديين يدعون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشوارع، ويلصقون على الجدران منشورات حول ضرورة لباس المرأة الشرعي "النقاب". وفيما يبدو الشرع ذاته معتدلاً في خطاباته وبياناته فإن الأمر على الأرض أكثر تعقيداً بكثير، فالرجل وجد نفسه فجأة يحكم بلداً فيه من التعقيدات ما يفيض على قدرة أنظمة قائمة بحد ذاتها.

ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فلابد في كل لحظة ومنعطف من النظر إلى الحقيقة الكامنة وراء كل ما جرى، ووراء سقوط النظام نفسه، فالأمر لم يكن معركة بالمعنى التقليدي، إذ لا يختلف سياسيان ومعهما التقارير الدولية على أن ما حصل كان عملية تسليم وتسلم، لم يقاتل جيش النظام المعارضة التي سيطرت على سوريا خلال 10 أيام من دون دماء تُذكر. وفي هذا السياق اطلعت "اندبندنت عربية" على وثيقة سرية مصدرها قناة "العالم" الإيرانية، وتوجه فيها فريقها ومكتبها الإقليمي في دمشق بعدم وصف المعارضة بـ"الإرهاب" مع عدم التركيز على أي تقدم للجيش إن حصل، وكان ذلك في السادس من ديسمبر (كانون الأول) 2024، أي قبل سقوط النظام السوري بيومين.

"سفر برلك" جديد

يقول الأكاديمي في القانون الدولي معاذ فطرة لـ"اندبندنت عربية" إن "السلفية الجهادية هي منهج بارز لدى معظم مقاتلي الفصائل، وهم الذين انطلقوا من إدلب ذات اللون الواحد حيث تقام فيها حدود الشريعة، نحو حكم مدن تمتلئ بالحريات الاجتماعية.

ويضيف "أولئك يحاولون فرض نمط تفكيرهم وحياتهم على المواطنين الآخرين، فإلى أي حد سيتحمل المجتمع السوري حال الخناق تلك وما يرتبط بها من تداعيات تحت مسمى حالات فردية متمثلة بالقتل والخطف والتنكيل ومصادرة الأملاك. إن أي حاكم يخشى من ثورة الجوعى ولكن ماذا عن ثورة تتعلق بالأمان؟ هنا تحديداً نتحدث عن مكون لا مرجعية له عكس بقية الأقليات المدعومة من طرف أو آخر، داخلي أو خارجي، بقوة ذراعه أو استقوائه بغيره، فأفضل ما تفعله القيادة الجديدة هو احتضان كل المكونات لمنع التلاعب بها وانقلابها وتجنيبها الإغراءات، ولا يظن الشرع أن السُّنة راضون عما يحصل، فالإسلام الشامي صوفي معتدل، والعالم اليوم أكثر انفتاحاً وتحرراً، ولا أعتقد أنه يريد (سفر برلك) جديداً يهدد البلاد كل لحظة في ظل التخبط ونقص الخبرات".

الشرع الآن تحت المجهر المحلي والإقليمي والعالمي، وفي وجهه تعلو أصوات مطالبة بالحماية الدولية والتقسيم أو الفدرلة في أسوأ الحالات، وهو يعد بمؤتمر وطني جامع ومن ثم حكومة انتقالية خلال مارس (آذار) المقبل لا توحي المؤشرات أنه يجري العمل عليه، أو أنها ستنجح فعلياً في ظل انقسام الشارع بصورة هائلة.

يضاف إلى ذلك جملة من المشكلات تواجه الإدارة الجديدة أهمها ملف الجيش السابق، فماذا بعد أن أجريت تسوية لمعظمه، هل سيعاد من لم يثبت تورطه في الدماء للخدمة؟ وفي حال اتخذ قرار بالتسريح الجماعي فماذا عن رواتبهم التقاعدية؟ إنهم إذا حرموا منها سيزداد الجائعون مئات الآلاف من جديد.

وعلى صعيد بناء جيش، فحتى اليوم اجتمع وزير الدفاع في حكومة البشير مرهف أبو قصرة مع 70 فصيلاً وافقوا على الاندماج، ولكن كم فصيل تبقى؟ هذا ما لم تفصح عنه الإدارة الجديدة، وهل سيوافقون بفكرهم، أو في الأقل فكر بعضهم المتطرف الدعوي، وهم الذين قد يكفرون الشرع وحكومته في أية لحظة قادمة لأسباب صارت معلومة؟ والشرع نفسه أعلن انتهاء الثورة، ولكن ثورة الشرع قامت لإسقاط النظام فيما ثورة الجهاديين مستمرة حتى إقامة الخلافة.

علاوة على ذلك رفض الدروز والأكراد مبدأياً الانضمام للجيش حتى تتبلور فكرته وصورته في مرحلة لاحقة، وهو يبدو مطلباً محقاً لا سيما مع إصرار وزير الدفاع على ألا تنخرط أية جماعة في الجيش ضمن كتلة أو جسم واحد، بل إن يجري توزيعها على القطاعات، فيما لا يبدو للأقليات الأخرى دور يذكر أو مفاوضات تجري معهم.

كلمة ترمب النهائية

ويلخص المتخصص في العلوم السياسية حسين الجمل المشهد السوري بأن أكثر ما فيه إقلاقاً هو ملف موازنة الدولة المتهاوية، وملف قوى الأمن الداخلي الذين جرى حل وزارتهم السابقة "الداخلية"، والدولة الآن بأمس الحاجة إليهم لضبط الأمن وحالات الثأر، وغالبيتهم من مكون الأكثرية، وقد كان تعدادهم يبلغ نحو 80 ألف عنصر، مع ملف ضباط الجيش الحر المنشقين، وأين سيكون دورهم ومكانهم، وماذا عن توزيع المناصب في الحكومة المقبلة والتي ستخلق مشكلات جمة، يضاف إليها الضغوط الدولية لتنازع كعكة البلد المتوسطي الذي يرزح تحت رقابة آنية تتناهشها القوى الإقليمية والدولية، من دون رفع كامل للعقوبات الغربية في انتظار كلمة ترمب النهائية، التي يبدو أنها لن تتهاون مع رجال قاتلوا جنوده في العراق يوماً ما.

ويختم الجمل "يعلم الشرع كل ذلك، فإلى أي حد سينجح في إدارة تلك الملفات؟ وما خططه البديلة إن وجدت وهو أكثر العارفين بأنه استلم رقعة فاسدة، قد تتوالى عليها إدارات وإدارات قبل أن ينصلح الحال فيها؟".

المزيد من تقارير