Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"تاح تاح تاح" تحسم بالسلاح... الأغنية السياسية في الحرب

المعارك لا تخاض في ميادين السودان فقط بل تتبارز بالكلمات المشدودة بالموسيقى الممتدة من التاريخ إلى الحاضر

نال الجيش السوداني تاريخيا من أغاني المديح الكثير (أ ف ب)

ملخص

جاء الغناء عن حب الوطن في السودان مدراراً ومن بابين، الأول هو حب مطلق مثل "أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العتيق"، أما الثاني فهو ما نعى فيه المغنيون غربتهم عن الوطن في المهاجر وذاع ذيوعاً كبيراً خلال أيامنا في واقع النزوح الاستثنائي المأسوي بعد الحرب.

سأل صحافي خلال تسعينيات القرن الـ20 عدداً من الشباب في مناسبة ذكرى ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964 ضد ديكتاتورية الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، عما يعرفونها عنها. فقال أحدهم "ليس كثير شيء. ولكنها تبدو حدثاً مميزاً مما سمعته من الأغاني عنها".

واحدة من جبهات الحرب الناشبة الغائبة عن غير السودانيين هي الأغنية السياسية على عظم دورها فيها. وللسودانيين باع طويل في هذه الأغنية التقليدية منها والحديثة، حتى قال أحدهم إنهم يعيشون في خفض منها. وتفسير ذلك بسيط متى وقفنا على مناشئها في سياسة البلد ومجتمعها. ومن تلك المنابع أغنية الفروسية التقليدية التي تستدعى حالياً في هذه الحرب، وهي أغان في مأثرة الفارس في القبيلة تنظمها شاعرة من دائرة قريباته. وتقوم الأغنية منها على ثلاث شعب هي صمامة الرأي والكرم والجلد في الحرب، فاشتهرت أغنية نسبت الفارس إلى آباء "بحلو للعوجات" (من عوج أي الأمر المشكل)، وأن مطامير عيشه "للخالة والعمات"، وقلبه حديد في النزال. بل تمنت أخرى لفارسها ألا يموت على فراشه تذرف النساء الرماد حزناً على فراقه، بل تريده موتاً في ساحة الوغى بعجاجها الكاتح موشحاً بدمه.

وشكلت الأغنية السياسية عصب الحركة الوطنية ضد الاستعمار الإنجليزي (1898-1956)، وأجاد فيها الشاعر الفنان خليل فرح (1894-1932)، ولأغنيته "نحن ونحن الشرف الباذخ" حكاية طريفة مع استخبارات الاستعمار الإنجليزي التي كان صمويل عطية اللبناني موظفاً فيها، فكانت الأغنية ألهبت الشعور الوطني في وحدة مصر والسودان فأرادت أن تعرف عنها وعن المغني أكثر، فدعا صمويل عطية خليل إلى مكتبه ليسمعها منه ولكنه قال إنه يفضل أن يسمعها منه إن أراد في بيته، فقبل صمويل واستقبله في بيته وسط لفيف من الشوام داخل السودان. وتحول المجلس من تحقيق استخباراتي إلى حفل طرب الحضور فيه للأغنية وردودها مع خليل، بل غنى لهم "أعبدة ما ينسى مودتك القلب" لعمر بن أبي ربيعة، فاكتمل المجلس العربي الطربي. وقال مرافق لخليل ليلتها إن صمويل شد على يدي الخليل معجباً، ومات التحقيق عن الأغنية.

وليس أدل من عيش السودانيين في خفض من الأغنية السياسية من قيامهم بثورات ثلاث لكل منها على حدة ملف كامل من تلك الأغاني، وتحولت أغنيات بعد ثورة أكتوبر 1964 مثل "أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقي" و"أكتوبر 21" و"أكتوبر الأخضر" للفنانين محمد وردي ومحمد الأمين إلى ما هو قريب من النشيد الوطني. واستولى وردي مرة أخرى على ألباب السودانيين بعد ثورة أبريل (نيسان) 1985 بـ"بلاء وانجلى":

بلاء وانجلى

حمد لله ألف على السلامة

انهد كتف المقصلة

وبـ"حنبنبهو" و"وطن شامخ وطن عاتي وطن خير ديمقراطي".

وجاء الغناء عن حب الوطن مدراراً ومن بابين، فالباب الأول هو حب مطلق أما الآخر فهو ما نعى فيه المغنيون غربتهم عن الوطن في المهاجر، وذاع هذا الأخير ذيوعاً كبيراً خلال أيامنا في واقع النزوح الاستثنائي المأسوي بعد الحرب. أما الحب المطلق فتجده في مثل "أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العتيق". أما النوع الذي صدر عن أوجاع الغربة فمثل:

يا غربة لا لا لا لا لا ما تطولي

يا دمعة لا لا لا لا لا ما تنزلي

أنا بيك متيم يا بلد

أنا دمعة نازلة

وانت خد

ولا تلاقي فيديو يستعيد في يومنا مشاهد من السودان إلا مصحوباً بـ:

يا صباح الغربة

متين اسمع يقولو خلاص زمان الرجعة للسودان

ألملم حزني في طرفي، أصر الفرحة بالكيمان

ومن مصادر الأغنية السياسية الأناشيد الجهادية لشباب الحركة الإسلامية في حرب جنوب السودان طوال عقد التسعينيات، ولهم فيها ديوان كامل تستذكره كتائب البراء في هذه الحرب التي تخوضها مع القوات المسلحة مثل:

الجهاد نادانا

يا والده ما تحميني، عاوز أموت في ديني، شفاعة لوالديني، الأهل والأخوانا، الجهاد نادانا

اقرأ المزيد

أما سيدة الأغنية السياسية ليومنا للقوات المسلحة فهي الفنانة ندى القلعة، فلا يمر يوم إلا ولها عبارة عن طبيعة الجيش من جهة خوضه الحرب العادلة ومؤسسيته مقارنة بـ"الدعم السريع"، أو جغرافيا المعارك وانتصارات الجيش. فميزت القوات المسلحة بميلادها في شرعية الدولة وتخرج ضباطها في الكلية الحربية "مصنع الرجال" في قولهم، واستحقوا صفة "جنابو" بخلاف ضباط "الدعم السريع" الذين نالوا رتبهم كفاحاً بما عرف بـ"رتب الخلاء":

حبابو

القالو ليهو جنابو

حباب القوة الجايا بالشرعية

حباب الكاكي الدخلو ليه الكلية

وتطرق الفنانة ندى باب التاريخ الوطني لتضع انتصارات القوات المسلحة في سياقها، بل لترد على مزاعم "الدعم السريع" مثل أنه خرج ليقضي على دولة 56 التي ظلمت هامش السودان ظلماً كثيراً، فقالت:

ستة وخمسين دحرنا ظلم وحقب

العلم رفرف وأزهرينا خطب

و"أزهرينا" هو الزعيم إسماعيل الأزهري أول رئيس لوزراء السودان خلال الفترة الانتقالية 1954-1956، والذي اشتهر بأنه رافع علم استقلال السودان. ثم جاءت بواقعتين من نضال السودانيين ضد القوى الأجنبية، فكانت الأولى هي اغتيال المك نمر زعيم شعب الجعليين على النيل الأوسط، لإسماعيل باشا نجل الخديوي محمد علي باشا في 1822. فكان إسماعيل بعد غزو السودان التقى بالمك وطالبه بضرائب أثقلت عليه، ولما احتج رمى إسماعيل بغليونه على وجه المك فأضمرها المك وقبل بدفع ما عليه. وليرضى عنه إسماعيل دعاه لتناول العشاء بداره، وأحسن الطعام لهم والشراب، وكان قومه يزربون ديوانه بالحطب في هذا الأثناء، وبإشارة منه أشعلوا النار فيها لتحرق إسماعيل ومن معه. فقالت ندى "حرقناه فحم".

أما إشارتها الثانية فكانت إلى مستر هارولد ماكمايكل مفتش شمال مديرية كردفان خلال العشرينيات والسكرتير الإداري للحاكم العام الإنجليزي لاحقاً، الذي أمضى أمراً أغضب الناظر عبدالله وجاد الله، زعيم شعب الكواهلة والمقاتل تحت راية مهدي السودان، فنزع قلم المفتش من يده وكسره. وصار الناظر يعرف بـ"كسار قلم مكميك" (ماكمايكل). وفي فروسيته نظمت مستورة بت كوكو أغنية لا تزال موضع إعجاب كثر. وقالت ندى القلعة عنه "رايو مكملو كسار قلم مكميك". وللأغنية مطلع:

احترامو وجب

دا شعب صعب

رغم أنو عظيم إلا غضبو كعب (كأب، قبيح).

مين بيقدرنا، "أفارقة زنج عرب"

وتعقد ندى القلعة فتوح القوات المسلحة عقداً في غنائها. فلها أغنية تبدأ بـ"العصا" (أي المطلع) التقليدي لأغنية الفروسية:

أنا يا ليل هوي الليلة

وهي التي يرقص الرجال "العرضة" على وحي حماستها رقصة يبدون فيها على مشية الصقر الفخور.

وتحصي في أغنياتها المدن التي استردها الجيش من "الدعم السريع" كل بصفتها، فأم درمان مثلاً "بناسها مركز الفراسة". وقالت عن مدينة مدني، خشو (أي "الدعم السريع") مدني غلطة وكانت أكبر ورطة.

وتعود في أخرى لتطلع فيها بـ"عزة تفخر بأولادها"، و"عزة" هذه عائدة إلى شاعر الحركة الوطنية خليل فرح الذي تقدم ذكره، فـ"عزة" عنده هي الوطن. ومضت ندى القلعة تعدد متحركات القوات المسلحة الأخيرة التي فكت الحصار عن معسكرات القوات المسلحة، فتذكر أنه بفضل هذه المتحركات "الإشارة (سلاح) قالدت القيادة". ونوهت بتسلم الجيش لمصفى الجيلي. وتذكر أسلحة الجيش واحداً بعد واحد، المدفعية والعمل الخاص وأمن يا جن (هكذا يصف أفراد جهاز الأمن والاستخبارات مؤسستهم). ووثقت لاندياح الجيش شمال مدينة الخرطوم بحري:

شرق النيل دي بجيها جية (سآتي إليها لا بد)

بخش الشمس حية

دي بحري (الخرطوم) بجيها جية

شمبات دي بجيها جية

وللدعامة (الدعم السريع) غرزة وكية

وتتسرب عبارات القوات المسلحة إلى غنائها، فذاع في أوقات حصول الجيش على تسليح أحدث جاء في وقته عرف بـ"العدة الجديدة"، فقالت ندى:

أديك النجيضة (النضيجة، الحقيقة)

وكلو بالعدة الجديدة

بل وتتوقف عند لحظات درامية في المعركة. فكان الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقف في فيديو راج عند كبري بيكة بمدينة مدني، وقال إنه قال للطيار إن كان بوسعه أن يرسل صاروخاً يدخل في فجوة في الجسر اختفى فيها جماعة من "الدعم السريع"، ففعل. فقالت ندى:

طيارنا سويت البدع

صاروخك بالملي بيقع

سوخوينا (السوخوي) والميج الطلع

الدعامي من صوتو اتخلع

لا أعتقد أن مساعي المجتمع الدولي لإيقاف الحرب في السودان عدت هذه الأغاني السياسية التي تغذي الحرب باستنفار بوسيط الإبداع لقيم الفروسية في المحاربين وغير المحاربين. وليست هذه التعبئة قاصرة على القوات المسلحة، فبين قوات "الدعم السريع" جنس من غناء الفروسية تضطلع بها نساء عرفن بـ"الحكامات" (مفردها حكامة). بل ذاع قبل مدة أن واحدة منهن خلعت لباسها وقالت إنها لن ترتديه إلا حين يأتي لها فرسانها وعليهم غار النصر. بل كان أول الالتفات لدور هؤلاء الحكامات خلال نزاع دارفور في العقد الأول من هذا القرن. فعادة ما حملت مقررات مجالس الصلح التي سعت إلى طي الخلاف توصية بإقناعهن بالتوقف عن تلك الحماسة الضارة للرجال. فالحرب لا تخاض في ميدانها، إنها تخاض غناء كذلك. فلهؤلاء الفنانات قول حتى في أدق دقائق الحرب. فلما حمل المجتمع الدولي على القوات المسلحة لتفاوض خرجت الفنانة ميادة قمر الدين بأغنية "ملوك القل":

تاح تاح تاح تحسم بالسلاح

ما في مفاوضات ودا الكلام الصاح

للحرب القائمة في السودان ثقافة، وهي ثقافة للحماسة واستحقار الموت للقضية. فترى جنود القوات المسلحة والمستنفرين والجمهور "يعرضون" على وقعها متشربين معانيها ريثما يعودون للميدان من جديد. وهي ثقافة محجوبة عن "المبعوث الخاص" الذي يعتقد أنه يعرف كيف يطوي صفحة حربنا بأمر تكليفه العالي.

المزيد من آراء