أحدث إطلاق الصين لروبوت الدردشة "ديب سيك" موجة من الصدمة في سوق الأسهم الأميركية وخارجها، ويزعم صناع الروبوت أن نموذج "ديب سيك في 3" الأساس دُرِّب بنحو 6 ملايين دولار، وهو جزء ضئيل من كلفة الأنظمة الأميركية المنافسة، وبجزء ضئيل من قوة الحوسبة.
ووصف الإعلان عن "ديب سيك" بأنه شبيه بلحظة "سبوتنيك" عام 1957 عندما صدم الاتحاد السوفياتي العالم بأخذ زمام المبادرة في سباق الفضاء ووضع أول قمر اصطناعي في المدار. ويبدو بعد هذا الإعلان المدوي أن الصين لن تستفيد من نماذج اللغة الكبيرة كميزة اقتصادية بحتة فحسب، بل سينتقل هذا الأمر إلى الجيل الجديد من الطائرات من دون طيار كون نماذج اللغة الكبيرة تعمل كعقل مدبر وراء العمليات السلسة، فهي تزود الطائرات من دون طيار بالقدرة على التنقل في بيئات معقدة واتخاذ قرارات في جزء من الثانية والتواصل بصورة فعالة مع الأجهزة الأخرى.
من العالم الافتراضي إلى ساحة المعركة
تسبب تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني الجديد "ديب سيك" في هبوط أسهم التكنولوجيا الأميركية، وسط صعوده السريع إلى المرتبة الأولى في متجر تطبيقات "أبل ستور"، وهو يعتمد على نموذج لغة كبير (LLMs)، الذي يشير إلى نوع معين من الذكاء الاصطناعي المدرب على كميات كبيرة من النصوص ويتفوق في إجراء محادثات باللغة الطبيعية.
وبينما قد يبدو للبعض أن ما نتحدث عنه هنا بعيد كل البعد من تحدي التحليق بطائرة من دون طيار، وضع الباحثون الصينيون في بحوثهم فعلاً تصوراً لقدرة نماذج اللغة الكبيرة في تعزيز عمليات الطائرات من دون طيار.
وفي هذا الإطار، تقدم ورقة بحثية كتبها باحثون مقيمون في شنغهاي عام 2024 حملت عنوان "نماذج اللغة الكبيرة للطائرات من دون طيار، الحالة الحالية والمسارات نحو المستقبل" نظرة عامة جيدة على هذا المجال، ويصفون فيها كيف يمكن لدمج نماذج اللغة الكبيرة مع الطائرات من دون طيار تحسين معالجة البيانات المستقلة واتخاذ القرار السريع.
ويضيف المؤلفون أن الطائرات من دون طيار المعتمدة على نماذج اللغة الكبيرة لديها قدرات استثنائية على تحديد أجسام أو أفراد أو مركبات أو أنشطة محددة في تدفقات الفيديو أو الصور، مما يوفر رؤى تفصيلية حاسمة لعمليات المراقبة العسكرية والمدنية. ويترجم هذا الأمر إلى القدرة على تنفيذ أوامر معقدة مثل مراقبة المركبات بدقة أو الطيران على ارتفاع منخفض باتجاه مواقع العدو.
قدرات كبيرة
وإضافة إلى التواصل مع البشر، تمكن نماذج اللغة الكبيرة الطائرات من دون طيار من التواصل مع بعضها بعضاً باللغة الطبيعية، وتالياً يمكن لمجموعة من الطائرات من دون طيار مشاركة النتائج وتنسيق أفعالها بناء على مهمتها، وتوزيع المهام من دون تدخل بشري. وقد تقوم طائرة استطلاع من دون طيار بإرشاد طائرات هجومية لتدمير أهداف محددة، ومن ثم إرسال متابعات على تلك التي لم تُدمر.
وتذهب ورقة صينية أخرى صدرت عام 2024 إلى أبعد من ذلك، فتصور إطار العمل القتالي التعاوني للمركبات الجوية المأهولة وغير المأهولة، المستند إلى نماذج لغوية كبيرة والتي تنفذ المهام عبر طائرات قتالية جوية من دون طيار ذاتية التشغيل كحقيقة واقعة. ويتخيل الباحثون الصينيون فيها طياراً مقاتلاً بشرياً واحداً مع مجموعة من الأجنحة الآلية التي تتفاعل بسرعة الآلة وتتواصل باللغة البشرية.
إلى ذلك، يعزز دمج أنظمة نماذج اللغة الكبيرة في اتصالات الطائرات من دون طيار قدرتها على فهم ظروف الشبكة وتوليد رؤى تستند إلى خصائص الشبكات، من ثم يزيد من قدرتها على التكيف والاستجابة بسرعة للظروف البيئية المتغيرة والمتطلبات التشغيلية، وتساعد أنظمتها الطائرات من دون طيار على فهم أنماط حركة المرور على الشبكة للتوصية ببروتوكولات التكيف، التي تقلل من زمن الوصول وتزيد من الإنتاجية.
واستجابة لفشل الطائرات من دون طيار أو وجود عوائق طبيعية، يمكن لنماذج اللغة الكبيرة حساب طرق بديلة بسرعة أو إعادة تكوين الشبكة للحفاظ على الاتصال والأداء. وتعمل أنظمتها على تعزيز مستويات أعلى من الاستقلالية في الطائرات من دون طيار من خلال تزويدها بقدرات معرفية متقدمة، مما يسمح لها بفهم وتنفيذ الأوامر المعقدة والتفاعل بصورة أكثر طبيعية مع المشغلين البشريين أو الأنظمة المستقلة الأخرى.
وهذا ليس كل شيء، إذ يمكن لنماذج اللغة الكبيرة تحليل البيانات من الطائرات من دون طيار مثل سجلات التشغيل وبيانات القياس من بعد، للتنبؤ بالأعطال المحتملة أو حاجات الصيانة قبل حدوثها. وهذه القدرة التنبؤية تزيد بصورة كبيرة من موثوقية وعمر الطائرات من دون طيار، مما يقلل من وقت التوقف عن العمل وكلف الصيانة.
ولأن الأمان يعد أيضاً مصدر قلق بالغ الأهمية في الشبكات اللا مركزية المخصصة، يمكن لنماذج اللغة الكبيرة تحسين بروتوكولات الأمان من خلال تحديد التهديدات المحتملة والتعرف على الأنماط واكتشاف الشذوذ، ومحاكاة سيناريوهات الهجوم لتطوير تدابير أمنية أكثر قوة. وباستطاعتها أيضاً تحسين تخصيص الموارد الحرجة مثل النطاق الترددي والطاقة داخل شبكة الطائرات من دون طيار، مما يوفر أنظمة تحكم وردود فعل أكثر بديهية، بما في ذلك إنشاء تقارير باللغة الطبيعية حول حال الشبكة أو ترجمة بيانات الشبكة المعقدة إلى رؤى قابلة للتنفيذ لصناع القرار.
الاستفادة من ميزة "ديب سيك"
يزعم الصينيون أن "ديب سيك" يتمتع بمزايا محددة مقارنة بنماذج اللغة الأخرى، خصوصاً أنه موفر للموارد، مما يعني أنه يحتاج إلى طاقة حوسبة أقل من النماذج الأخرى ومناسب للتطبيقات الطرفية مثل الطائرات من دون طيار بدلاً من مراكز البيانات، وإضافة إلى ذلك يزعم المطورون أنهم حققوا نتائج بسرعة مع بيانات تدريب أقل من النماذج المماثلة.
وحتى نحلل الأمور بواقعية، ما زلنا لا نعرف حقاً حتى تاريخه مدى قدرة "ديب سيك" الكاملة، لكن ما يمكننا ملاحظته أن نشر هذا النظام منخفض الكلفة على الطائرات من دون طيار سيكون أصلاً مفيداً للصين خلال هذه المرحلة، لا سيما أنها تمتلك أكبر قاعدة تصنيع للطائرات من دون طيار في العالم، ولديها ثروة من المعلومات حول استخدام هذه الطائرات في القتال بعد أن راقبت من كثب التكتيكات والتقنيات التي طورتها أوكرانيا وروسيا في الحرب التي لا تزال مشتعلة بينهما. وبدأت بكين أخيراً تطوير وحدات قتالية مجهزة بما يبدو أنه طائرات من دون طيار تجارية منخفضة الكلف.
وإذا ما أضفنا قدرة نماذج اللغة الكبيرة إلى المزيج المذكور آنفاً، نستنتج أن الصين تمتلك جميع الأوراق لبناء قوة طائرات من دون طيار لا تقبل الهزيمة، وهذا عنصر حاسم مع التقارير العسكرية العالمية التي تتحدث صراحة أن النصر في الحروب المستقبلية سيكون حليف الجانب الذي يتمتع بأذكى الطائرات من دون طيار.