ملخص
وجدت السلطات الجديدة أن ثمة ما يقارب مليون و300 ألف موظف عامل لديها، أكثر من 400 ألف منهم يشكلون ظلاً، أي إنهم يخضعون للبطالة المقنعة فلا وجود لهم أو دوام أو خدمات يقدمونها، فقررت فصلهم.
خلال التاسع من فبراير (شباط) الجاري نظم مئات الأهالي من محافظة طرطوس وقفة احتجاجية سلمية بتنظيم من "الحركة المدنية الديمقراطية" و"تجمع سوريا الديمقراطي" و"الحزب الدستوري السوري" وجمعية "سنديان".
وكانت مطالب المحتجين التي حملتها لافتاتهم تتعلق بوقف التسريح التعسفي للموظفين وصرف المعاشات، ورفض الانتهاكات الجسدية وحماية المواقع الأثرية وتأمين موارد لقمة العيش، وتأكيد السلم الأهلي، وبناء سوريا حرة ديمقراطية مدنية تعددية.
قوبلت تلك الوقفة بمحتجين من مجموعة مضادة متشددة الولاء للقيادة الجديدة بزعامة شاب يدعى (ه. ط) قامت بمهاجمتهم وإلحاق الأذى بالمحتجين، بعد عراك أفضى إلى إصابات وتمزيق اللافتات المرفوعة من قبل المحتجين، وكان من بين ضحايا الهجوم أحد الصحافيين والمعتقلين السابقين وآخرون غيره.
الحلم التاريخي
تاريخياً يعتمد السوري على الوظيفة الحكومية، وعلى رغم تهاوي قيمة أجورها خلال أعوام الحرب فإنها ظلت تشكل ملاذاً مستديماً شبه آمن، إذ بلغ متوسط الرواتب قبل الحرب مئات الدولارات، لينحدر إلى 20 دولاراً في أفضل أحواله خلال الأعوام الأخيرة.
كان الطبيب والمهندس والمعلم وكل التخصصات الجامعية تحلم بالوظيفة، وكان الناس يتجهون نحو الكليات الجامعية التي تلتزم الدولة التوظيف فيها ككلية معلم الصف وكلية التمريض. واليوم وجدت السلطات الجديدة أن ثمة نحو مليون و300 ألف موظف عامل لديها، أكثر من 400 ألف منهم يشكلون ظلاً أي إنهم يخضعون للبطالة المقنعة، فلا وجود لهم أو دوام أو خدمات يقدمونها فقررت فصلهم.
ورقم 400 ألف هو رقم هائل لمجتمع منكوب، فالأمر يعني أن 400 ألف عائلة جديدة باتت بلا دخل لتنضم إلى قافلة من هم في قاع المجتمع فقراً وحاجة. يضاف إليهم بحسب مصادر مستقلة نحو 500 ألف أو أكثر من العسكريين المتقاعدين قبل الحرب، الذين يجري النظر في كيفية وأحقية صرف رواتبهم، بحسب وزير المالية السوري في حكومة تصريف الأعمال محمد أبا زيد.
مأسسة الفساد
أصبح نحو مليون عائلة بلا دخل، وإذا اعتبر بمتوسط حسابي أن عدد أفراد الأسرة خمسة أشخاص فقط فهذا معناه حرمان خمسة ملايين مواطن من الدخل الحكومي، وما زاد الطين بلة هو مئات آلاف الجنود والضباط الذين قاتلوا في الحرب، وستشكل لجان للنظر في أمرهم وفي استحقاق صرف رواتبهم من عدمه بعد عرض أسمائهم على لجان قانونية وحقوقية لتقديم التوصيات حيال التعامل معهم، ومستقبلهم المادي.
كان الأسد، الأب والابن، يعلمان ذلك جيداً فيقومان بتدوير الفساد عبر توظيف أكبر عدد ممكن للاستفادة من ولائهم، من ثم إسكاتهم حتى لو لم يكن لهم شواغر أو دور وظيفي، وكان ذلك يحصل من خلال آلية ممنهجة للفساد بمنحهم جزءاً بسيطاً مما يستحقونه من رواتب، بعد إخراج النفط وعائداته من الموازنة.
وإذ كان الموظف يتقاضى أجراً يعينه بضعة أيام من شهره، فإنه يستفيد من الرشى الموجودة في كل مكان فيدور المواطنون بين بعضهم بعضاً القطع المالية المحلية عبر الدفع لقاء إنجاز أبسط المعاملات، التي هي من حقهم أساساً.
تناقض الإصلاح
وتحاول السلطات الجديدة مكافحة الفساد وبناء دولة تقوم على التوازن، لكن ذلك من المستحيل إتمامه خلال شهرين، لا سيما مع الحديث عن عقود من الفساد المنظم، فصرف عشرات آلاف العاملين سيخلق فجوة كبرى تنعكس جوعاً وآفة وحاجة وربما جريمة.
تقول العلوم الاقتصادية والسياسية إن الشعب حين يجوع فإن أول ما يلتهمه هو حكومته، فكيف إذا كانت تلك الحكومة بلا موارد وترتبط بصورة وثيقة في تصرفاتها بضعف التخطيط والحنكة والتمسك بأن من حكم إدلب يمكنه حكم سوريا ومؤسساتها بسهولة.
صبر الناس طويلاً على حكم الأسد وعنجهيته وفشله الإداري لأنه لم يستنزف جيوبهم إلى الحد الأقصى، فكيف سيتصرف 5 ملايين جائع جديد في بلد أكثر من 90 في المئة منه يعيش تحت خط الفقر، لذا لا بد من عقول اقتصادية تنبه حكام سوريا إلى أن الثورات التي تحمل مطالب اعتيادية يمكن التعامل معها بهدوء، وعلى حدة. أما ثورة الجوعى فلا تعرف فرقاً بين مكون وآخر، سني وعلوي، مسلم ومسيحي، هي ثورة على الجوع الذي قد يتحمله الناس شهراً واثنين وثلاثة، لا إلى الأبد.
وإذا كان المهندس والمعلم والممرض والجامعي، قد افتتحوا بسطات لبيع الدخان والسكر والأرز، فإن تلك البسطات لا تبني اقتصاداً، وكل ذلك لا يعني أن الأسد كان أفضل من الحكم الجديد، لكن الأخير ورث مؤسسات قائمة ومؤدلجة ومتمرسة على نظام معين لا يمكن تفكيكه خلال شهرين من دون الاستعانة بخبراء اقتصاديين من خارج الصندوق، بل ومن خارج إدلب نفسها.
الحل في الاستقرار
اليوم، تواجه سوريا تحديات اقتصادية ومعيشية واجتماعية لا مثيل لها منذ عقود، أبرزها القرارات المتخبطة التي لا تزال تسهم في انعدام الأمن الغذائي، من صرف عاملين وإيقاف معاشات وتحرير سعر الخبز وانعدام الفيول والوقود بالسعر المعقول.
وعلى رغم الجهود المبذولة في إعادة هيكلة الجيش والحكم وصياغة دستور ومعالجة مكامن الفساد المبطن والمعلن منه، فإن ذلك لا يمنع قيام "ثورة جوعى" من قبل أناس لن يستطيعوا الاحتمال أكثر، مما يُنذر باحتجاجات شعبية أكثر امتداداً وعلى رقع جغرافية أوسع، وظهرت أولى بوادرها بدعوات لاعتصام جديد في طرطوس أيضاً.
هذا الأمر لا يمكنه علاجه إلا بتعديلات وإصلاحات اقتصادية تسابق الوقت وتقطع الطريق على الجوعى في التذمر والحاجة، من ثم توفير الدعم الأساس للمواطنين من معاشات وطبابة وتعليم، مع العمل على استقرار الأسعار وتعديل الهوة بين المصرف المركزي والسوق السوداء في سعر صرف الليرة السورية، والتخلي عن سياسة حبس السيولة وامتصاص الدولار من السوق.
ومن بين أبرز التحديات التي تواجهها الإدارة الجديدة وصول نسبة التضخم لما فوق 93 في المئة خلال عام 2024 بحسب متخصصين اقتصاديين، مع سقوط غالبية الشعب تحت خط الفقر إضافة إلى الدمار الواسع وغير المسبوق في البنية التحتية مما يستدعي بيئة آمنة ومشجعة لاستثمارات خارجية تعيد إعمار سوريا من جديد وعلى مدار أعوام قد تكون طويلة، والأهم من ذلك هو رفع العقوبات الدولية عن دمشق، ومعها رفع تصنيف القيادة الجديدة من لائحة الإرهاب.