Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عودة ترمب... كيف ستؤثر في أدوات القوة الاقتصادية الأميركية؟

التخبط يعوق عمل أقوى أسلحة واشنطن

بورصة نيويورك، نوفمبر 2024 (ستيفاني سبيندل/ رويترز)

ملخص

عودة ترمب للبيت الأبيض تهدد استقرار القوة الاقتصادية الأميركية، مثل العقوبات وضوابط التصدير، بسبب توجهاته الفوضوية وتضارب آراء فريقه. والخلافات الداخلية قد تعوّق الأمن الاقتصادي وتضعف الهيمنة المالية الأميركية وتفتح المجال لمنافسين عالميين.

مع عودة دونالد ترمب للبيت الأبيض أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، بات يمسك بمقاليد القوة الاقتصادية الأميركية، ذلك أن انتشار الدولار كعملة مرجعية، إلى جانب مركزية المؤسسات والشبكات المالية الأميركية، يمنح واشنطن قدرة فريدة على عرقلة قيام الخصوم بأنشطة اقتصادية. ومنذ الـ11 من سبتمبر (أيلول) عام 2001، تفرض الولايات المتحدة عقوبات مالية على نطاق متزايد، مستهدفة أفراداً وحكومات وجماعات خارجة عن سيطرة الدولة، بل إنها حولت ضوابط تصدير التكنولوجيات إلى بديل مرتجل للعقوبات. والآن يكمن مستقبل هذه الأدوات – هي بعض من أكثر الأدوات التي تمتلكها الولايات المتحدة أهمية – في يد رئيس متقلب المزاج.

وأصر ترمب خلال حملته الانتخابية على وصف العقوبات بالأداة السيئة مقارنة بالرسوم الجمركية: تعهد باستخدامها "بأقل قدر ممكن" خوفاً من أن تقضي على الدولار كعملة عالمية – زاعماً أنها نتيجة سيئة تشبه خسارة حرب. وتناقض شكه المعلن بها مع سجله في المنصب. فخلال ولايته الأولى، أسعده فرض عقوبات على كوريا الشمالية وتوسيع نطاقها في محاولة لممارسة "أقصى قدر من الضغط" على إيران. ومن المرجح أن يثير تخبط ترمب في خصوص العقوبات خلافات في ولايته الحالية، ذلك أن عدداً كبيراً من الشخصيات التي يأتي بها إلى إدارته، مثل عضو مجلس الشيوخ ماركو روبيو الذي اختاره لمنصب وزير الخارجية، من أنصار العقوبات. وسيرغبون بالتأكيد في أن يوجهوا إلى أعدائهم هذا السلاح المهم للقوة الاقتصادية الخاصة بالإدارة السياسية الأميركية. ومن الممكن أن يشعر آخرون بقلق من الإفراط في استخدام العقوبات، كما فعل ستيفن منوشين، وزير الخزانة في إدارة ترمب الأولى. وربما يكون بعضهم معادياً تماماً لقوة الدولار الأميركي.

ويرجح أن تسود خلافات. يمكن أن يعرقل نزاع داخلي وميل ترمب إلى تغيير رأيه لمجرد نزوة قدرة واشنطن على مراقبة مجموعات ضخمة من البيانات المالية وعلى حرمان منافسيها من أموال وتكنولوجيات. وربما تصبح السياسات الأميركية الخاصة بالأمن الاقتصادي ساحة معركة يتنافس فيها المتشددون في شأن الصين ومناصرو الرسوم الجمركية وأقطاب "وول ستريت" وأرباب "بيتكوين" للتأثير في رئيس يضع السياسات بناء على النصيحة الصادرة عن آخر شخص يتحدث إليه.

وأوضح العواقب المحتملة لهذا الخلاف كتابان جديدان يرويان قصة كيف باتت واشنطن تتقن فن الإكراه الاقتصادي، وينظران في مستقبل هذا الإتقان. ففي كتاب "الدولارات والسيادة" Dollars and Dominion، تعرض ماري بريدجز، وهي صحافية متخصصة في قطاع الأعمال تحولت إلى مؤرخة، بدايات الإمبراطورية المالية الأميركية قبل قرن من الزمن. وفي كتاب "نقاط الاختناق" Chokepoints، يحتفي إدوارد فيشمان الذي عمل في وزارتي الخزانة والخارجية، بـ"التكنوقراطيين المتخصصين في العقوبات" الذين بنوا هذا الإتقان على مدى العقدين الماضيين من الزمن. ولأن ترمب يعتبر الخبرات التكنوقراطية بمثابة قيد تمارسه "الدولة العميقة"، قد تكون رواية بريدجز أكثر أهمية في المستقبل القريب، مع عودة ترمب لاعتناق نهج سابق وأكثر بدائية لإدارة القوة الاقتصادية الأميركية.

اليوم، كما في أوائل القرن الـ20، تنبع هذه القوة من مصادر كثيرة. فعلى مدى العقدين الماضيين من الزمن، عززت الولايات المتحدة قدرتها على فرض العقوبات الاقتصادية لكنها أهملت معرفة أفضل السبل لاستخدام هذه القوة. وتعاني أحياناً الأجزاء المختلفة ما يمكن تسميته "دولة الأمن الاقتصادي"، مثل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة ومكتب الصناعة والأمن التابع لوزارة التجارة، في تنسيق عملها وتواجه صعوبة صادمة في جمع المعلومات أو صياغة استراتيجية بعيدة الأجل. وحتى الآن لا يتوافر مخطط مرجعي لكيفية التوفيق بين المكونات كلها.

لن تؤدي عودة ترمب للبيت الأبيض إلا إلى تفاقم هذه المشكلات. وتحتاج دولة الأمن الاقتصادي إلى مقدار أكبر من التماسك والتخطيط، وليس إلى مقدار أقل منهما. وتُعدّ العقوبات وضوابط التصدير من أقوى الأسلحة في الترسانة الأميركية، لكنها تُدَار من قبل آلة بيروقراطية ضعيفة التماسك. لا يتوافر مرجع معادل للبنتاغون الذي يجمع جهود الحكومة الأميركية الدفاعية تحت سقف واحد – متخصص في الأمن الاقتصادي.

وإذا نفذ ترمب وعده بتهميش موظفي الخدمة المدنية، لن يكون هناك ما يكبح شهيته إلى الفوضى. مهما يكُن من أمر، ستتأرجح الإدارة الجديدة على نحو لا يمكن توقع تداعياته بين سياسات غير متوافقة إلى حد كبير: إحلال رسوم جمركية محل العقوبات وضوابط التصدير وتطبيق عقوبات على نطاق واسع (بل ربما على دول حليفة) وحماية المؤسسات المالية والعملات المشفرة من السلطة التنظيمية الأميركية. وسيسبب ذلك فوضى في الأجل القريب وسيضعف نفوذ الولايات المتحدة في الأجل البعيد، مع عزل بلدان أخرى نفسها عن الفوضى من خلال تجنب النظام الاقتصادي الأميركي قدر المستطاع.

تحديات متزايدة

منذ هجمات الـ11 من سبتمبر، تبني الإدارات الديمقراطية والجمهورية على انتشار الدولار الأميركي لتحويل العقوبات المالية إلى سلاح متعدد الأغراض. وتحتاج المصارف الدولية إلى الوصول إلى نظام المقاصة الدولارية الذي تسيطر عليه الهيئات التنظيمية الأميركية، لتحويل الأموال إلى بعضها بعضاً. وهذا يلزم المصارف، حتى تلك الموجودة في الخارج، الامتثال للعقوبات المالية الأميركية ومتطلبات الإبلاغ عن التحويلات المشبوهة.

وكانت النتائج قوية. فعندما فرضت إدارة ترمب عقوبات على كاري لام، رئيسة هونغ كونغ التنفيذية الموالية لبكين، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان عام 2020، رفضت حتى المصارف الصينية التعامل معها. وبات عليها أن تحتفظ بأكوام من النقود في قصرها لدفع فواتيرها. وعندما فرضت إدارة بايدن، عام 2024، عقوبات على مستوطنين إسرائيليين متطرفين لمهاجمتهم فلسطينيين أو تجريدهم إياهم من ممتلكاتهم، لم يكُن أمام المصارف الإسرائيلية خيار سوى قطع التعامل معهم، مما أثار غضب وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف وذعره، ذلك أن قوة العقوبات الأميركية تصل إلى عمق الترتيبات المالية الداخلية للحلفاء والخصوم على حد سواء.

الأدوات الاقتصادية الأميركية تفقد قوتها

واستجمعت واشنطن وسائل أخرى للإكراه الاقتصادي أيضاً. خلال ولاية ترمب الأولى، وسع المسؤولون نطاق وصول الولايات المتحدة إلى سلاسل الإمداد العالمية من خلال تحويل ضوابط التصدير، وهي تدابير صُممت في الأصل لمنع وصول التكنولوجيات الأميركية إلى الجيوش المعادية، إلى عقوبات قديمة الطراز – في طريقة أخرى لإلحاق الضرر باقتصادات الخصوم. واستخدم الرئيس الأميركي جو بايدن الآلية نفسها لتقييد وصول الاقتصادين الصيني والروسي بأكملهما إلى بعض أشباه الموصلات.

كانت ضوابط التصدير أقل فاعلية مما كان يعول عليه المسؤولون الأميركيون لأن سلاسل الإمداد تفتقر إلى الوضوح بالتالي تصعُب السيطرة عليها. ومع ذلك، تعزز هذه الابتكارات وغيرها قيام دولة الأمن الاقتصادي، المتنامية وإن افتقرت إلى التنظيم، داخل الحكومة الفيدرالية الأميركية. ومن خلال إدارة واشنطن وفرضها للعقوبات وضوابط التصدير وفحص الاستثمارات، يمكنها في كثير من الأحيان منع وقوع الأموال وبعض التكنولوجيات في أيدي جهات منافسة لها. وتشكل أجزاء أخرى من الدولة التنظيمية الأميركية أيضاً، حتى عندما لا تربطها علاقات رسمية بالأمن القومي، عوامل مساعدة. مثلاً، دعمت الجهود التي بذلتها لجنة الأوراق المالية والبورصات لتنظيم العملات المشفرة وزارتي الخزانة والعدل في جعل هذا المجال المالي الفوضوي يمتثل للقانون الأميركي. ونتيجة لذلك، يواجه الإرهابيون والدول المارقة الآن صعوبة أكبر في التحايل على الضوابط المالية التقليدية.

لكن النمو السريع لدولة الأمن الاقتصادي الأميركية جاء على حساب التماسك. فلا يملك المسؤولون الأميركيون سوى قليل من المبادئ التوجيهية حول توقيت استخدام أسلحة اقتصادية معينة وقليل من الطرق الضرورية لضمان عدم تداخل صلاحياتهم. وتفقد العقوبات وضوابط التصدير وغيرها من الأدوات الاقتصادية بعضاً من قوتها لأنها تُستخدَم لأغراض إضافية. ليس الوقت الحالي مناسباً تماماً لتدهورها. وتشرع الولايات المتحدة في إعادة توجيه كبيرة لعلاقتها بالاقتصاد العالمي. كانت واشنطن ذات يوم تشجع الاعتماد الاقتصادي المتبادل لكنها الآن تستخدمه علناً كسلاح. وتتشابك التنظيمات المحلية والدولية بصورة متنامية وتتزايد ضرورتها للأمن القومي. وإذا لم تتمكن الولايات المتحدة من تشكيل الأسواق المحلية، فلن تكون في وضع يسمح لها بتشكيل الأسواق الخارجية، بل تبرز مخاوف أكبر. في عالم يتسم بالتغير التكنولوجي السريع، لا يمكن للولايات المتحدة أن تعتبر هيمنتها الاقتصادية أمراً مسلماً به أو أن تعتمد على أسبقيتها. فمن المحتمل ألا تعوض مزاياها في مجال الذكاء الاصطناعي عن خسارة السباق على تكنولوجيات الطاقة النظيفة التي ستعتمد عليها مراكز خوادم الذكاء الاصطناعي والإلكترونيات ذات الاستخدامات اليومية.

وستتطلب معالجة هذه المشكلات زيادة ضخمة في قدرة الدولة. تحتاج الولايات المتحدة إلى أن تصبح أكثر تكيفاً من خلال تحسين جمعها للمعلومات وتحمّل أخطار كبيرة في مضمار تطبيق السياسات وتعديل السياسات اعتماداً على الرهانات التي تؤتي ثمارها – وهذا أمر صعب على أي إدارة. سيكون الأمر صعباً للغاية على ترمب، نظراً إلى سهولة تفريطه بأي أهداف بعيدة الأجل وعدائه للخبراء وما يسمى "الدولة العميقة".

نفوذ البيروقراطيين

يدور كتاب فيشمان الشامل حول الخبرة، فيمجد الفضائل البيروقراطية التي تكرهها الإدارة الجديدة. إنه احتفاء يتألف من 500 صفحة بالتكنوقراطيين المتخصصين في العقوبات، والمسؤولين المنسيين في الغالب الذين يبنون قوة القسر الخاصة بواشنطن. بعد هجمات الـ11 من سبتمبر، اكتشفت الولايات المتحدة أن العولمة الاقتصادية أنشأت نقاط ضعف أمنية. فيمكن للإرهابيين وغيرهم من الجماعات الخبيثة الانتظام عبر الإنترنت وإرسال الأموال وتلقيها عبر الحدود من دون أن يتعقبهم أحد.

وعلى مدى العقدين التاليين من الزمن، أعادت الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة تأكيد نفوذها على العالم من خلال السيطرة على نقاط الاختناق في الشبكات التي تشكل النظام المالي العالمي. مثلاً، من خلال شبكة جمعية الاتصالات المالية العالمية بين المصارف (سويفت)، وهي منصة تواصل مخصصة للمصارف، يمكن للمسؤولين الأميركيين معرفة مرسلي الأموال ومتلقيها. ووسّعت إدارة ترمب الأولى نطاق ضوابط التصدير من خلال تطبيق قاعدة المنتجات الأجنبية المباشرة التي يمكن للحكومة الأميركية بموجبها أن توقف بيع ليس فقط المنتجات الأميركية، بل أيضاً منتجات عدة مصنوعة بمعدات وتكنولوجيات وخبرات أميركية، بما في ذلك أشباه الموصلات المتطورة. واستخدمت هذه القاعدة للمرة الأولى لاستهداف "هواوي"، وهي شركة اتصالات صينية، ثم لتنظيم بيع مجموعة متنوعة من المنتجات إلى روسيا. وفي نهاية المطاف، طُبقت لمنع تصدير بعض أشباه الموصلات المتطورة إلى الصين.

ويضيف فيشمان تفاصيل لم تكُن معروفة من قبل إلى هذه القصة، من تفاصيل سطحية (كيف ملأ مسؤول في الاتحاد الأوروبي مكتبه بطائرات وقطارات لُعَب) إلى تفاصيل جوهرية (كيف جرى إقناع وزيرة الخزانة جانيت يلين بتبني تدابير تمنع المصرف المركزي الروسي من الوصول إلى احتياطاته الأجنبية). ويملك الكاتب موهبة التحدث إلى أشخاص غامضين أحياناً يتولون مسؤولية "كتابة المذكرات"، وهي ممارسة يتشاركها مع أحد أبطال كتابه من البيروقراطيين.

ويزعم كتاب "نقاط الاختناق" أن حكمة التكنوقراطيين المتخصصين في هذه العقوبات وبعد نظرهم ولّدا "مخططات مرجعية" لنوع جديد من النظام العالمي تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها. ويكتب فيشمان أن إدارة ترمب الأولى تعرض "قصة تحذيرية" حول كيف يمكن للقرارات المتخذة من طرف واحد أن تصل إلى أبعد مما ينبغي ومثالاً على كيفية أخذ تهديد الصين على محمل الجد. ويبين أن التفوق المالي والتكنولوجي الأميركي مكّن "بيروقراطيين أميركيين وأوروبيين غير معروفين" من إعادة هيكلة "العلاقات بين القوى العالمية". ويتمثل التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة وحلفاءها في إدارة نقاط الاختناق هذه بحكمة، في استخدام الحرب الاقتصادية حفاظاً على هذا النظام وتجنب الحروب الفعلية لأطول فترة ممكنة.

يبدو أن كتاب "نقاط الاختناق" احتفاء بالماضي أكثر من كونه وصفة للمستقبل. فتبين أن إدارة ترمب الأولى لم تكُن قصة تحذيرية، بل نموذجاً أولياً للعالم المقبل. لن يكون هناك نظام تكنوقراطي جديد. بدلاً من العمل في عالم يمكن توقع تطوراته، ستُعاد صياغة السياسة العالمية بفعل الفوضى الداخلية لإدارة ترمب الجديدة التي ستغذي بدورها الفوضى في العالم الخارجي، إذ تحاول الشركات والحكومات على حد سواء الاستجابة لقوة عظمى لا يمكن توقع قراراتها.

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

وإذ يشيد فيشمان بالتكنوقراطيين التابعين للإمبراطورية الأميركية، تشرح بريدجز حدود رؤيتهم. وتجادل روايتها المهمة التي تتناول المرحلة الممهدة لدولة الأمن الاقتصادي الأميركية بأن استراتيجيات الهيمنة لدى النخبة ليست سوى نصف القصة، أو أقل. ووفق الكاتبة، فإن أنظمة القوة العالمية "نادراً ما تتوافق مع المخططات المرجعية التي يضعها مصممو السياسات البعيدين من الواقع". فمن المستحيل فهم الأنظمة الاقتصادية غير العملية من خلال التركيز على المسؤولين الذين خططوا لها. بدلاً من ذلك، يجب على المرء أيضاً التنبه إلى استراتيجيات الشركات الخاضعة للخطط  وإلى الأشخاص الأجانب الخاضعين للخطط أيضاً.

ترسم بريدجز العملية العشوائية التي تمظهرت من خلالها هيمنة الدولار الأميركي. في أوائل القرن الـ20، انتاب الولايات المتحدة قلق في شأن استخدام شركاتها للنظام المالي القائم وقتذاك والذي كانت المملكة المتحدة تهيمن عليه. خشي السياسيون والشركات من أن تشارك المصارف الأجنبية منافسيها معلومات حساسة، وأدى هذا القلق إلى إنشاء أول مصرف متعدد الجنسيات على نطاق واسع في الولايات المتحدة، هو "المؤسسة المصرفية الدولية" International Banking Corporation.

وتبيّن الكاتبة أن الجهود التي بذلت لتأسيس "المؤسسة المصرفية الدولية" لم تنتج من استراتيجية متماسكة بقدر ما كانت تركيبة عشوائية. لقد أقام قادة أعمال ومصرفيون بنية تحتية فضفاضة للسماح لمستعمرات الولايات المتحدة وتوابعها باستخدام الدولار الأميركي في معاملاتها، بدلاً من الجنيه الاسترليني. ومُولت "المؤسسة المصرفية الدولية" نفسها من طرف شركات خاصة لها مصلحة في هيمنة الولايات المتحدة. وكانت المؤسسة متخبطة وفوضوية وخادمة لمصلحتها؛ لقد اهتمت بمساعدة نفسها أكثر من اهتمامها بمساعدة بلاد "العم سام". وفي تطور طرأ بالمصادفة بمقدار ما حصل عمداً، ساعدت هذه "المجموعة من المصرفيين الأميركيين المرتبكين"، على حد تعبير بريدجز، في ترسيخ قوة الولايات المتحدة المالية العالمية، وفي تحويل أدوات مالية غامضة إلى بنية تحتية للدولار كعملة مرجعية.

ومن وجهة نظر بريدجز، يتميز العصر الحالي أيضاً بتحولات، إذ تنحسر إمبراطورية وتتطلع أخرى إلى التوسع. فمثلما استاءت الولايات المتحدة من قبضة المملكة المتحدة على مالية العالم في أوائل القرن الـ20، تستاء الصين من قوة الولايات المتحدة اليوم وتحاول بناء أنظمتها البديلة. وتتغير طبيعة التمويل، إذ تظهر تكنولوجيات جديدة مثل العملات المشفرة وعملات المصارف المركزية الرقمية. ومن الممكن أن تفقد الولايات المتحدة تفوقها التكنولوجي، ربما من خلال خسارة السباق على الطاقة النظيفة. ويعزز الزعيم الصيني شي جينبينغ تطوير التكنولوجيات المادية مثل البطاريات المتقدمة، ويراهن على أن القدرة على توليد طاقة وفيرة وآمنة قاب قوسين أو أدنى.

قد يحظى نهج شي بدعم حكومات أجنبية. وفي حين تستخدم الولايات المتحدة نقاط الاختناق لإبطاء تقدم خصومها، تتقدم الصين في تكنولوجيات الطاقة النظيفة التي يمكنها بيعها بثمن بخس إلى بلدان أخرى. ومع ذلك، تتعثر في بعض الأحيان محاولتها إعادة توجيه الاقتصاد العالمي ليدور حولها كما تعثرت الولايات المتحدة قبل قرن من الزمن. ليست "مبادرة الحزام والطريق" الصينية خطة منظمة للهيمنة على العالم بمقدار ما هي آلية لتوجيه العقود إلى شركات بناء تتمتع بعلاقات جيدة. وإذا ساعد ذلك في بناء اقتصاد عالمي ذي خصائص صينية، ستكون تلك الصيرورة ناجمة عن المصادفة بنسبة 50 في المئة.

ويكشف كتاب بريدجز عن عالم فوضوي لا يمكن توقع تطوراته، حيث يمكن لبلدان أخرى وأطراف فاعلة تبدو صغيرة تقويض التصاميم الكبرى التي يضعها مخططون تابعون للإمبراطورية. ولا يعتمد الإكراه الاقتصادي الأميركي على أولوية الدولار أو السيطرة على أشباه الموصلات فحسب، بل يعتمد أيضاً على نظام واسع مترابط من المصارف والأعمال والقوانين، وهو نظام أصبح أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. أصبحت الأدوات التي يفضلها التكنوقراطيون المتخصصون في العقوبات أقل فائدة، إذ تجد الشركات والخصوم طرقاً للتحايل على نقاط الاختناق التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وتنشئ جهات مناوئة، مثل الصين، أدواتها الخاصة. ويتهرب الأوليغارشيون وتجار الأسلحة والإرهابيون من العقوبات باستخدام العملات المشفرة. عام 2023، تدفق عبر "تيثر" Tether، وهي عملة مشفرة مستقرة مرتبطة بالدولار الأميركي، ما يقارب المقدار نفسه من الأموال التي مرت عبر بطاقات "فيزا"، مما يعزز اقتصاد ظل يكون في الغالب بعيداً من متناول الحكومة الأميركية.

بدأت واشنطن تشعر بتعثر قوتها. وأصبحت ضوابط التصدير، حتى عندما تعززها قاعدة المنتجات الأجنبية المباشرة، أقل وضوحاً بكثير مما كانت تأمل إدارة بايدن. لا معادل لنظام "سويفت" يمكنه تزويد المسؤولين الأميركيين ببيانات عن سلاسل الإمداد، وتكون شركات أشباه الموصلات الأميركية على استعداد للاستفادة من أقصى ما هو متاح للحفاظ على الوصول إلى السوق الصينية. ومع اقتراب نهاية ولاية بايدن، بدأ مسؤولون أميركيون بالعودة  لفرض العقوبات المالية، إذ اكتشفوا مدى صعوبة فرض ضوابط التصدير على المنتجات التي تستند إلى سلاسل إمداد معقدة. وسيكون التعامل مع مشكلات كهذه صعباً بما يكفي إذا كان التكنوقراطيون المتخصصون في العقوبات لا يزالون في السلطة. لكن إذا كان ثمة شخص واحد لا يملك أي ميل تكنوقراطي على الإطلاق، فهو ترمب.

الفوضى المقبلة

كانت سياسات الأمن الاقتصادي الأولى التي اعتمدتها إدارة ترمب أشبه برحلة مجنونة، إذ تقاتل أشخاص مرتبطون بالتمويل وبـ"وول ستريت"، مثل منوشين، مع متشددين في شأن الصين، مثل مستشار الأمن القومي جون بولتون، ومتحمسين لفرض الرسوم الجمركية، مثل الممثل التجاري الأميركي روبرت لايتهايزر. وحصلت تطورات – فيما لم تحصل أخرى – اعتماداً على من أصغى الرئيس إليهم أكثر من غيرهم في اللحظات المناسبة ومن أتقنوا الفنون المظلمة للحروب البيروقراطية.

لكن في بحر الفوضى هذا، حافظت بعض جزر الاستقرار على وجودها. فعملت طبقات الإدارة الحكومية الأعمق بصورة مشابهة تقريباً لعملها في ظل الإدارات الجمهورية السابقة. وقام المسؤولون من المستويات المتوسطة في الأمن الاقتصادي بعملهم بأفضل ما في وسعهم. وعاشوا في خوف من أن تؤدي تغريدة رئاسية غير متوقعة إلى إعادة صياغة تامة للسياسات التي كان من المفترض أن يديروها، لكن كثيراً من مجالات السياسات كانت مملة وتقنية أكثر مما ينبغي في نظر ترمب فلم يهتم بها.

ستكون ولاية ترمب الثانية مختلفة. ثمة أطراف جديدة تشارك فيها، ومن المحتمل أن تخترق الفوضى حتى مستويات الإدارة الحكومية تلك التي سلمت نسبياً من ولاية ترمب الأولى. يريد المستثمرون ورجال الأعمال العاملون في مجال العملات المشفرة الذين دعموا ترمب الآن تحصيل مكافآتهم. ويملك بعضهم معتقدات سياسية مذهلة. بالاجي سرينيفاسان، مثلاً الذي طُرِح كرئيس محتمل لإدارة الغذاء والدواء في عهد ترمب الثاني، هو مؤلف كتاب نشره بنفسه يهاجم العلاقة المفترضة بين قوة الدولار الأميركي وتيار "اليقظة" الذي تروج له صحيفة "نيويورك تايمز"، ويعتبره نتاج نخبة فكرية منحطة. ويريد سرينيفاسان الإطاحة بالنظام العالمي الذي تقوده أميركا  والذي يراه "في حال تراجع" – واستبداله بـ"سلام بيتكوين".

[في إشارة إلى "السلام الروماني" "Pax Romana" وهي فترة من الاستقرار والسلام فرضتها الإمبراطورية الرومانية على أراضيها. وفي هذا السياق، تشير عبارة "سلام بيتكوين" إلى رؤية لعالم تكون فيه بيتكوين والعملات الرقمية هي القوة الاقتصادية المهيمنة].

المستثمرون في العملات المشفرة الذين دعموا ترمب يريدون الآن تحصيل مكافآتهم

أما المتحمسون للعملات المشفرة، الأقل ميلاً إلى الفلسفة، فيرغبون فقط في وقف العمل بالتنظيمات الحكومية التي من شأنها أن تمنعهم من جني الأموال. وشعر كل من المؤمنين الحقيقيين بهذه العملات والانتهازيين بغضب عندما استخدم مسؤولو وزارة الخزانة في عهد بايدن العقوبات لعزل خدمة "مزج العملات المشفرة" – وهي جهة تجعل من الصعب معرفة مرسل الأموال والمرسل إليه – لأنها غسلت مليارات الدولارات لمصلحة كوريا الشمالية وغيرها من الجهات الشريرة. والآن، أوقف قضاة محافظون العمل بهذه العقوبات، ويخطط ترمب لتعيين مسؤولين مناصرين للعملات المشفرة سيحاولون بالتأكيد إلغاء القيود المفروضة على التمويل بالعملات المشفرة. وإذا نجحوا، فسيتدهور الأمن الاقتصادي الأميركي، إذ سيصبح من الأسهل على الناس الالتفاف على الدولار.

ولن تقتصر المعارك الداخلية على إلغاء القيود المالية. سيرغب صقور الأمن القومي التقليديون في مضاعفة العقوبات وضوابط الصادرات، من دون أي فهم واضح لحدود الخطوة. وسيطبق المعجبون بالرسوم الجمركية – وهم مجموعة تضم ترمب حالياً – هذه الإجراءات لمعالجة انعدام الأمن الاقتصادي وكل ما يزعج الولايات المتحدة. وسيكتشفون في النهاية حدود الرسوم الجمركية وكلفها، لكن ربما ليس في وقت قريب بما فيه الكفاية. وستدعو الشركات ذات العلاقات الجيدة إلى اتخاذ تدابير أكثر تقليدية وملاءمة للأعمال، إلى جانب صفقات غير منصفة واقتطاعات لأنفسهم وأصدقائهم. وستؤدي التحالفات المشحونة والنزاعات داخل الإدارة والقرارات العشوائية وأهواء ترمب إلى ترنح سياسات الأمن الاقتصادي.

والمجال الوحيد الذي يظهر فيه ترمب تصميماً لا يتزعزع هو عداؤه للخبرات التقنية. فستؤدي جهوده الموعودة لإقالة "الأطراف الفاعلة الفاسدة" فوراً من جهاز الأمن القومي والاستخبارات إلى دعاوى قضائية تستمر لأعوام. ومع ذلك، حتى لو لم تنجح جهوده تماماً، فهي ستعوق قدرة دولة الأمن الاقتصادي على تحقيق نتائج. وسيتساءل مسؤولو الأمن الاقتصادي الذين يتمتعون بعقود من الخبرة عما إذا كانوا يريدون البقاء في مناصب لا يمكن توقع مجريات الأمور الخاصة بها.

في الواقع، سيحاول الجميع – الشركات والحكومات الحليفة والخصوم – معرفة ما يحدث داخل إدارة فوضوية، وسيحاولون التأثير فيها إن أمكن. وسيسعى الحلفاء جاهدين إلى حماية أنفسهم من قوة عظمى لا يمكن توقع قراراتها ولم تعُد قادرة على فرض سيطرتها كما ترغب. وستعيد الشركات الأجنبية والمحلية والمستثمرون في العملات المشفرة تشكيل بنية الاقتصاد العالمي التحتية بغرض كسب مزيد من المال، تماماً كما فعل أسلافهم في الأيام الأولى للإمبراطورية الأميركية، عندما كانت الدولة متخلفة. قد يستولي بعضهم على أجزاء من إدارة ترمب، فيحولون اتجاه القوة الأميركية لمصلحتهم الخاصة. وسيتطلع الخصوم إلى الاستفادة من نقاط ضعف أميركا، مما يؤدي إلى مزيد من الفوضى.

ذات مرة، وقبل وقت ليس بعيداً، كان من الممكن للنخب الأميركية أن تصدق أن التكنوقراطيين يمكنهم ترتيب العالم وفق مصلحتها، مما يجعله آمناً ويجعل مجرياته قابلة للتوقع لمصلحتها. وكانت تأمل في أن تكون ولاية ترمب الأولى انحرافاً موقتاً. الآن، من الواضح أنها لم تكُن شيئاً من هذا القبيل. يأفل نجم التكنوقراطيين المتخصصين في العقوبات، بل نجم التكنوقراطية التقليدية بصورة عامة. ومن المؤكد أن القوة الاقتصادية الأميركية ستعاني بسبب ذلك.

 

هنري فاريل أستاذ في الشؤون الدولية لدى معهد أغورا التابع لمؤسسة ستافروس نياركوس في جامعة جونز هوبكنز.

مترجم عن "فورين أفيرز"، 23 ديسمبر (كانون الأول) 2024

المزيد من آراء