ملخص
قدم الكاتب والمخرج المصري محمود جمال الحديني عرضه المسرحي "روح الصورة" وفيه تناول حياة المجاميع العاملة في المجال السينمائي أو من يُطلق عليهم لقب "كومبارس"، مسلطاً الضوء على ما يتعرضون له من ظلم على رغم أن الصورة لا تكتمل من دونهم.
دائماً وأبداً يظل كومبارس السينما في خلفية الصورة، لا أحد يعرف أسماءهم ولا ينصفهم، على رغم أن الصورة لا تكتمل إلا بوجودهم، وبعضهم يظل قانعاً بهذه المهمة التي يتقاضى عنها أجراً ضئيلاً وربما تعرض لأخطار أقعدته عن العمل وحينها لا يجد جهة ترعاه، وبعضهم الآخر ربما انتظر أعواماً ليحظى بدور يقول فيه كلمة أو كلمتين، وربما، وإن كان ذلك نادر الحدوث، حظي بدور البطولة أو قريبا من ذلك.
وإذا كان فيلم" كومبارس" الذي أخرجه الفنان السوري الراحل نبيل المالح عام 1993 ولعب بطولته بسام كوسا وسمر سامي قد تميز برسالته السياسية الواضحة، فإن مسرحية "روح الصورة" للكاتب والمخرج المصري محمود جمال الحديني مالت أكثر إلى الجانب الإنساني في حياة هؤلاء، وإن كان الباحث عن ملمح سياسي لن يعدم وجوده، فالعرض الذي قدمه مخرجه على مسرح الهوسابير وسط القاهرة يمكن أخذهوبخاصة في طبقاته التحتية، على أكثر من محمل.
منظر واحد
في منظر واحد ثابت من تصميم محمود صلاح تدور أحداث العرض، فقد اختار المصمم ديكوراً واقعياً، مجرد قطاع من شارع الفن الأشهر (عماد الدين) وفي العمق واجهة لإحدى دور السينما، تتغير أفيشات الأفلام بمرور الزمن فنرى واحداً لفيلم "قلبي دليلي" لأنور وجدي وليلي مراد وآخر لنجيب الريحاني، وتتغير الأفيشات من آن لآخر إلى أن نصل إلى أحدثها، وبالنسبة إلى الفترة التي تدور فيها الأحداث، وهو " أبي فوق الشجرة" لعبدالحليم حافظ ونادية لطفي وعماد حمدي، وعلى اليسار مقهى النجوم الذي يرتاده الكومبارس، وعلى اليمين بيت راقصة شعبية وإلى جواره ممر يمثل شارعاً يدخل ويخرج من خلاله الممثلون.
قبل العرض حرص المخرج على بث أغان من الأربعينيات والخمسينيات ربما لتهيئة الجمهور لمشاهدة عرض يتناول تلك الفترة المزدهرة في تاريخ الفن المصري، أي أن هذه الأغاني كانت فاتحة للعرض وجزءاً من نسيجه ولم يكن اختيارها عشوائياً أو مصادفة، ويبدأ العرض بالأحلام، مجموعة من الكومبارس وقد انتهوا من تصوير مشاهدهم وعادوا لإكمال السهرة على مقهى صغير يقرر صاحبه إطلاق اسم " مقهى النجوم" عليه، مسايرة لأحلام هؤلاء في تحقيق النجومية التي لم تتحقق أبداً على رغم تمتع بعضهم بالموهبة.
في انتظار الفرج
حكايات إنسانية كثيرة تناولها العرض، قصص حب وغرام، محبطة دائماً وغير مكتملة، وتحكمات من "الريجيسير" الذي بيده تشغيلهم أو إبقاؤهم على المقهى ينتظرون الفرج الذي نادراً ما يأتي.
غاص العرض في حياة هؤلاء منتصراً لهم باعتبارهم "روح الصورة"، فمن دونهم لا تكتمل الصورة وحسب بل تفقد روحها أيضاً، فهم من يمنحنون الصورة حياتها ومعناها، وهم من يتلقون الضرب نيابة عن البطل أو يقومون به نيابة عنه أيضاً من خلال" الدوبلير" الذي يخوض المعارك ضارباً ومضروباً وملقياً بنفسه في التهلكة من دون أن تمر الكاميرا على وجهه، وذلك كله نظير أجر قليل ومعاملة غير إنسانية من المنتج والمخرج وصناع العمل كافة.
مصائر إنسانية فاجعة تناولها العرض، فهناك أنيس الممثل الموهوب الذي علّم فتاة صغيرة التمثيل حتى صارت نجمة، وعلى رغم الحب الذي جمع بينهما فقد رفض الزواج منها إلا بعد أن يصبح نجماً مثلها، وعندما لم يصبح انتحر بإلقاء نفسه في نهر النيل، وهناك الوحش الذي كان يخوض المعارك بدلاً من البطل إلى أن أصيب بالشلل وتقاعد، وعاملة شباك التذاكر التي ترث الجنون عن والدتها عند سن الـ 40، وغيرها من المصائر الفاجعة وإن ظل الحلم حاضراً على رغم كل شيء.
الاهتمام بالصورة
حرص المخرج على الاهتمام بعنصر الصورة فهو يدرك أنه بصدد تقديم عرض عن كواليس العمل السينمائي وما يستدعيه ذلك من الاهتمام بهذا العنصر، وقد بدا ذلك باكراً، ففضلاً عن الديكور الذي لعب دوراً جمالياً إضافة إلى دوره الوظيفي في تحديد الأماكن التي تدور فيها الأحداث، مثلت الإضاءة وهي من تصميم محمود الحسيني واحداً من العناصر المهمة في صناعة الصورة، فمنذ البداية وخلال الفترة التي تسبق بزوغ الشمس وحتى طلوع النهار كان واضحاً حساسية المصمم وقدرته على ضبط الإضاءة بما يناسب المكان والزمان وطبيعة الحدث، حتى وإن لجأ إلى الإنارة في كثير من المشاهد، فقد كان ذلك كله مُوظفاً في خدمة الصورة وطبيعة الحدث.
والملابس كذلك، وهي من تصميم شروق العيسوي، أسهمت في تشكيل الصورة مراعية طبيعة الأنماط التي تتعامل معها سواء في حياتها العادية أو خلال عملها في التصوير، فضلاً عن الموسيقى لرفيق يوسف التي راوحت بين الشجن والمرح، وبرز دورها أكثر في المشاهد التي تمثل بدايات المشاهد وذروتها.
تنوع الأنماط
أكثر من 20 ممثلاً وممثلة اختارهم المخرج الذي حرص على فكرة التنوع، فهناك "الجان" الذي يحلم بالنجومية وهناك صاحب العضلات المفتولة والمرأة الشعبية، وهناك الكاركتر وغيرها من النوعيات التي يتطلبها العمل السينمائي، وهي اختيارات موفقة ومدروسة بعناية مما أضفى بعداً واقعياً على العمل، ولم يكن هناك بطل مطلق فالبطولة شبه جماعية وإن حظي بعض الممثلين بمساحات أكبر، لكن الملاحظ هو ذلك التجانس بين هذه المجموعة من الممثلين وأغلبهم هواة، فهناك فهم لدى كل منهم لطبيعة النمط الذي يؤديه، فلا شخصيات في العرض بقدر ماهي أنماط نعرفها في حياة هذه الفئة من العاملين بالفن، فهم مجموعة من الممثلين الموهوبين الذين أدوا مشاهد تراجيدية وكوميدية باحترافية في تعاون لافت من دون محاولة أحدهم سرقة الكاميرا من الآخرين، مما يشير إلى قدرة المخرج على السيطرة على فريق عمله، وتوظيف كل منهم في مكانه المناسب.
العرض جماهيري بامتياز، أي أنه موجه في الأساس لجمهور عام يدخل المسرح للمتعة وحسب، يشاهد قصة لطيفة ويستمتع بأداء الممثلين ويخرج في النهاية راضياً ومجبور الخاطر، ولذلك جاء التناول بسيطاً وشعبياً إذا جازت التسمية، على رغم أن المخرج له أعمال كثيرة نوعية تحتاج إلى جمهور مدرب على تلقيها، لكن ذلك كله جاء في صياغة فنية محكمة وراقية بعيداً من الابتذال أو محاولات الاستظراف التي تسم مثل هذه النوعية من العروض.
ولم يحل ذلك دون وجود طبقات تحتية يمكن للمدقق أن يستشفها، فأوضاع هؤلاء الكومبارس تنسحب على كل المهمشين من أصحاب الموهبة، فلا الموهبة وحدها ولا الإمكانات وحدها هي الوسيلة الوحيدة للترقي، فالاختيارات في المجالات كافة غالباً ماتذهب إلى أصحاب الحظوة والمكانة بغض النظر عن قدراتهم، ليظل هؤلاء المهمشون هم ملح الأرض الذين يعملون في الصمت أو في الظل، ويحظى المرفهون بكل الضوء وكل الكسب وكأن العرض هنا، سواء بقصد أو من دون قصد، قد انسحب على شرائح المجتمع كافة وسلط الضوء على أوضاع بائسة يحياها المجتمع المصري الذي صار التفاوت بين طبقاته متجاوزاً المسافة بين السماء والأرض.