ملخص
يقدم فيلم "أنا ما زلت هنا" سرداً درامياً لتأثير الديكتاتورية العسكرية في البرازيل على عائلة بايفا، من خلال رؤية المخرج والتر ساليس الشخصية التي تمزج بين القصة الحقيقية والتجربة الذاتية، وهو ما يجعله عملاً عاطفياً لكنه ليس محايداً تاريخياً.
"التاريخ يدخل غرفة المعيشة"، هكذا لخص الكاتب فيليب روث جوهر الرواية التاريخية التي تسعى إلى إظهار تأثير الأحداث الكبرى في الحياة اليومية والأشخاص الحقيقيين. كان روث يشير تحديداً إلى رواياته المتأخرة مثل "الرعوية الأميركية" American Pastoral و"تزوجتُ شيوعياً" I Married a Communist، لكن وصفه ينطبق تماماً على فيلم "أنا ما زلت هنا" I’m Still Here الذي يُعد أحد المرشحين غير المتوقعين للفوز بجائزة أفضل فيلم روائي دولي في سباق الأوسكار هذا العام. الفيلم من إخراج البرازيلي المخضرم والتر ساليس الذي يقف خلف أعمال مثل "محطة مركزية" Central Station و"يوميات دراجة نارية" The Motorcycle Diaries. ويروي الفيلم القصة الحقيقية لعائلة بايفا، تلك العائلة البرجوازية السعيدة التي قلبت الديكتاتورية العسكرية في البرازيل حياتها رأساً على عقب. لكن في هذه الحكاية، لا يقتصر التاريخ على اقتحام غرفة المعيشة فحسب، بل يمتد ليصل إلى مدخل المنزل والمطبخ وحتى غرف نوم الأطفال.
يستند فيلم ساليس إلى كتاب ألفه مارسيلو بايفا، الابن الأكبر للعائلة، لكنه أيضاً ينبع من تجربة المخرج الشخصية. فقد عرف ساليس عائلة بايفا منذ طفولته، وكان ضيفاً دائماً في منزلهم، ويعزو إليهم جزءاً كبيراً من وعيه السياسي. لذا، أعاد بناء منزلهم الواقع على شاطئ ريو دي جانيرو تماماً كما يتذكره، ويقترب من قصتهم بحرص وتعاطف يجسدان مكانته كصديق موثوق ومقرب. والنتيجة هي فيلم يروي الأحداث من منظور مطلع على دواخل الأمور، أشبه بصحافة ميدانية متغلغلة في صميم القصة، مما يمنحه قوة وتأثيراً، لكنه في الوقت ذاته يجلب معه بعض التحديات والمآخذ.
ليست المحنة التي مرت بها هذه العائلة سراً مدفوناً، بل حقيقة موثقة في سجلات التاريخ. فكان روبينز بايفا، النائب الليبرالي السابق، منتظماً في صفوف المعارضة السرية، إلى أن "اختفى" فجأة على يد السلطات في يناير (كانون الثاني) من عام 1971، غير أن قرب ساليس من هذه القصة مكّنه من منحها بعداً إنسانياً أعمق، ليكشف عن الآليات الدقيقة التي تمارس من خلالها آلة القمع الرسمية، تلك التي غالباً ما تنفذ بأيدي موظفين صغار ومترددين لا يعرفون تماماً كيف يتموضعون وسط هذه الفوضى القاتلة. نفذ مشهد الاختطاف المحوري في الفيلم بإتقان بارع، وكأنه مقتطع من الواقع نفسه. فبينما يقتاد الأب نحو مصيره المجهول، يواصل أطفاله اللعب ببراءة، غير مدركين ما يحدث حولهم. في الوقت ذاته، تحاول الأم، يونيش (التي تجسدها فرناندا توريس الحاصلة على ترشيح لجائزة الأوسكار) احتواء الموقف بطريقة غريبة فتقترح على الرجال القساة تحضير وجبة غداء لهم. يوحي الفيلم بأن الشر لا يأتي دائماً في صورة وحش غاضب يقتحم باب منزلك بعنف، بل يتسلل أحياناً بوجه خجول، بملامح مألوفة، ليربك ضحاياه ويجعلهم غير مدركين أنهم في خطر.
لا تزال الحقبة التي حكمت فيها الديكتاتورية العسكرية البرازيل على مدى عقدين من الزمن حاضرة في الذاكرة، لم تصبح مجرد فصل من الماضي يمكن نسيانه. ومن هذا المنطلق، يأتي فيلم "أنا ما زلت هنا" كدراما سياسية من أميركا الجنوبية، لينضم إلى أعمال بارزة مثل "مرآب أوليمبو Garage Olimpo للمخرج ماركو بيتشيس الذي يتناول القمع في الأرجنتين، أو "توني مانيرو" Tony Manero لـ بابلو لارين، وهو هجاء قاتم يصور الحياة اليومية في ظل ديكتاتورية بينوشيه في تشيلي. لكن ما يميز رؤية ساليس هنا ليس فقط طابعه السياسي، بل علاقته الشخصية بعائلة بايفا التي تجعل الفيلم جزءاً من تقليد سينمائي أكثر خصوصية وغرابة، فتصبح القصة حلقة تفاعلية تتلون بذاكرة صانعها وعلاقته بشخصياتها. "أنا ما زلت هنا" هو درس في التاريخ البرازيلي، لكنه درس ذاتي وانتقائي، أقرب إلى مذكرات شخصية منه إلى إعادة تجسيد محايدة للأحداث.
تتفوق أميركا اللاتينية في هذا النوع من السرد القصصي، حيث يندمج الماضي القريب بالحاضر، تماماً كما يشكل فنان منحوتة بين يديه. خذوا على سبيل المثال فيلم "رقصة الواقع" The Dance of Reality لأليخاندرو خودوروفسكي، وهو دراما سيرة ذاتية مجنونة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تأخذ المشاهد إلى قلب الأحداث مباشرة. لا يكتفي المخرج التشيلي بإسناد دور والده القاسي إلى ابنه برونتيس، بل يظهر بنفسه على الشاشة من حين لآخر ليواسي الطفل الذي يجسد شخصيته في صغره، في مشهد يتجاوز التمثيل ليصبح مواجهة بين الماضي والحاضر. أما الحالة الأكثر تطرفاً، فتتمثل في فيلم "حياة الجنرال فيّا" The Life of General Villa، وهو فيلم صامت أنتج عام 1914، وصوّر على وقع نيران الحرب الأهلية المكسيكية، ونسقت المعارك الحقيقية مسبقاً مع طاقم الإنتاج. ولم يكُن بطل الفيلم سوى بانشو فيّا نفسه الذي جسد شخصيته أمام الكاميرا. لكن الاقتراب المفرط من الموضوع غالباً ما يؤدي إلى تلاشي الحدود بين الحقيقة والخيال. لم يكُن فيلم فيّا مجرد إعادة تمثيل، ولم يكُن حتى سيرة ذاتية تقليدية، بل يكاد يبدو بطريقة مقلقة كأول برنامج واقعي في تاريخ السينما.
لقد فُقدت النسخة الكاملة من فيلم "حياة الجنرال فيّا" منذ زمن طويل، مما يعني أنه لا يمكننا أبداً معرفة مدى براعة بانشو فيّا في أداء دور نفسه. لكن دعونا نفترض أنه كان مقنعاً في الأقل مثلما كان برنس في "مطر بنفسجي" Purple Rain، أو إمينيم في "8 أميال" 8 Mile، أو تومي ستيل في "قصة تومي ستيل" The Tommy Steele Story، أي إنه كان مقبولاً تماماً في أداء نسخة سينمائية من نفسه. قد يرضي ذلك الجماهير، لكنه لا يصنع تاريخاً جيداً. فالناس الحقيقيون، بارك الله مواهبهم، ليسوا دائماً ممثلين عظماء، تماماً كما أن الوصول المميز إلى قصة ما لا يضمن إنتاج فيلم رائع. هل كان ماريو فان بيبلز الشخص الأنسب لكتابة وإخراج والقيام ببطولة فيلم "باداس!" Baadasssss! الصادر عام 2003 عن والده المخرج، ميلفن؟ وهل كان جوليان شنيبل الاختيار الصحيح لصنع فيلم عن صديقه، جان- ميشال باسكيا؟ الإجابة في كلتا الحالتين تشير إلى خلاف ذلك.
كان المخرج الأميركي جون فورد يحب التفاخر بأن فيلم الـ"ويسترن" الكلاسيكي الذي أخرجه في خمسينيات القرن الماضي "عزيزتي كليمنتاين" My Darling Clementine استند إلى رواية شاهد عيان حقيقية للشرطي الشهير وايت إيرب. قال فورد: "لقد أخبرني بكل شيء عن معركة إطلاق النار في أوكيه كورال... لذا في ’عزيزتي كليمنتاين‘ قدمنا الأحداث كما وقعت تماماً". المشكلة هنا هي أن إيرب كان في تلك الفترة يعمل كمستشار في هوليوود، ويعرض حكايات مبالغاً فيها عن مغامراته القديمة مقابل المال. أما المشكلة الأكبر، فكانت أن فورد بنى مسيرته المهنية على التلاعب بالحقائق التاريخية. فألقى بالحقائق المعروفة جانباً وصور أفلامه بالطريقة التي أحبها.
يوفر الاقتراب الشديد من الموضوع الذي تتناوله فوائد واضحة، فهو يضيف إلى الأحداث لوناً وتفاصيل ويقدم نسخة مثيرة منها. لكن هذا لا يعني أنه دقيق تاريخياً، ناهيك عن أن يكون الكلمة الفصل والنهائية. فذاكرة الإنسان تكون خداعة أحياناً، والأعمال التاريخية هي في النهاية أعمال خيالية، وكل شاهد يقدم رواية مختلفة. وهكذا كانت الحال مع "عزيزتي كليمنتاين"، وهي كذلك مع "أنا ما زلت هنا"، الفيلم المؤثر والمليء بالمشاعر لكنه في الوقت ذاته يعيد صياغة أحداث رئيسة من أجل عامل التسلية، وفي النهاية يتحول إلى نوع من العاطفية المفرطة. كانت نصيحة فورد أن يتم "طبع الأسطورة"، وهذا ما فعله إلى حد كبير. وعلى نطاق أصغر وبأطيب النوايا، يفعل "أنا ما زلت هنا" الشيء ذاته.
يصل فيلم "أنا ما زلت هنا" إلى دور السينما في الـ21 من فبراير (شباط) الجاري.
© The Independent