ملخص
تعاني الحدود اللبنانية فوضى وغياب السيادة الرسمية، مما فتح نقاشاً حول الاستعانة بتقنيات حديثة لضبط الحدود، بما في ذلك أبراج المراقبة البريطانية، لا سيما أن بريطانيا أعلنت استعدادها لاستكمال بناء الأبراج وصولاً إلى الحدود بين لبنان وإسرائيل، مما أثار تساؤلات حول علاقتها بالقرار 1701 وتأثيرها في "حزب الله". في المقابل، يطرح أيضاً توسيع مهمات "اليونيفيل" لتشمل الحدود الشرقية مع سوريا كخيار إضافي لضبط التهريب وتحقيق الاستقرار.
منذ سنوات طويلة عانت الحدود اللبنانية، سواء مع سوريا أو إسرائيل، حالة من الفوضى وغياب السيادة الرسمية، إذ لم تكن الدولة اللبنانية هي الممسكة بزمام الأمور. في الجنوب كثيراً ما تحكم "حزب الله" منذ عام 2000 بالمناطق الحدودية، مما جعله طرفاً رئيساً في معادلة النزاع مع إسرائيل، بينما تسيطر عصابات تهريب ومجموعات مسلحة وعشائر على الحدود الشرقية والشمالية، مما أدى إلى تفشي التهريب وتدفق المسلحين والأسلحة بين البلدين، هذه السيطرة غير الرسمية على الحدود أضعفت الدولة وقوضت دورها السيادي.
لكن التحولات الأخيرة في المشهدين السياسي والأمني، بعد الحرب بين "حزب الله" وإسرائيل، والتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، أسهمت في تعزيز دور الدولة اللبنانية في تحسن تدريجي لسيطرتها على المنافذ الحدودية الجوية والبرية، وفتحت في الوقت نفسه باب النقاش حول ضرورة الاستعانة بوسائل حديثة ومساعدة دولية لبسط سيطرة كاملة للدولة اللبنانية على طول الحدود مع سوريا البالغة 375 كيلومتراً، وكذلك مع إسرائيل التي تمتد بطول نحو 80 كيلومتراً. في هذا السياق، يبرز تساؤل جوهري: هل يمكن أن تشكل الأبراج البريطانية التي جرى نشرها على الحدود اللبنانية - السورية نموذجاً لحل النزاعات الحدودية، سواء في الجنوب مع إسرائيل أو في الشرق مع سوريا؟
تزامنت تلك التساؤلات مع إعلان جديد لبريطانيا باستعدادها لاستكمال بناء أبراج المراقبة على حدود لبنان وسوريا في إطار جهود قالت إنها لتحقيق الاستقرار في المنطقة، وورد ذلك في بيان لرئاسة الجمهورية اللبنانية عقب لقاء جمع الرئيس جوزاف عون مع المستشار الأول بوزارة الدفاع البريطانية لشؤون الشرق الأوسط الأميرال إدوارد الغرين.
تعزيز المراقبة
ووفق مصادر سياسية لبناني، عاد الحديث مجدداً عن إنشاء أبراج مراقبة بريطانية على الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل، انطلاقاً من الناقورة مروراً بالقطاعين الغربي والشرقي، باستثناء مزارع شبعا التي تقع خارج نطاق القرار الدولي رقم 1701، إذ أبدت بريطانيا استعدادها لدعم هذا المشروع، كما سبق ووفرت أبراج مراقبة استخدمها الجيش اللبناني على طول الحدود الشمالية والشرقية.
وأشارت المصادر إلى أن الطبيعة الجغرافية للجنوب اللبناني تختلف عن المناطق الشرقية التي تحاذي سوريا، ما قد يجعل الحاجة إلى هذه الأبراج محل نقاش. وأوضحت أن المشروع قد يكون جزءاً من خطة الجيش اللبناني لاستحداث مراكز مراقبة جديدة في حال الحاجة إليها، أو قد يستخدم لتعزيز التحصينات في المواقع العسكرية القائمة، مضيفة أن الجيش أعد دراسات حول زيادة عديد القوات والتطويع وتمويل إعادة تأهيل المراكز، وأن المشروع ما زال قيد البحث في إطار تسويات مالية قد تجعله قابلاً للتنفيذ.
وبرأي بعض الأوساط السياسية، فإن المشروع يثير تساؤلات حول مدى ارتباطه بتطبيق القرار 1701، خصوصاً أن البعض يعتبر أن هذه الأبراج قد تشكل جزءاً من آلية تنفيذية لتعزيز الالتزام بالقرار.
وهذه الفكرة كانت طرحت منذ نحو خمس سنوات، لكنها لم تنفذ بسبب عقبات سياسية وتقنية، فيما تؤكد المعطيات أن إسرائيل عارضت منذ البداية أي إجراءات على الحدود قد تقيد نشاطها العسكري، سواء عبر تعزيز دور "اليونيفيل" أو غيرها من التدابير الأمنية.
تجربة قابلة للتوسع
خلال السنوات الماضية، جرى نشر 39 برجاً حدودياً على طول الحدود اللبنانية - السورية، بتمويل ودعم بريطاني، في محاولة للحد من عمليات التهريب وعبور المسلحين. تمتد هذه الأبراج من منطقة العريضة شمالاً إلى ما بعد قرية راشيا في الجنوب الشرقي، وتتميز بتصميم هندسي يتيح رؤية شاملة بزاوية 360 درجة، مع مدى مراقبة يصل إلى 10 كيلومترات في جميع الاتجاهات. كل برج مجهز بكاميرات حرارية متطورة، قادرة على رصد التحركات ليلاً ونهاراً، إضافة إلى أجهزة استشعار تطلق إنذاراً عند مرور أشخاص، مما يمكن الجيش من الاستجابة السريعة لأي خروقات محتملة.
وعلى رغم أن هذه الأبراج لعبت دوراً في ضبط جزء من الحدود، إلا أنها لم تكن كافية لإنهاء الفوضى بسبب اتساع الجغرافيا الحدودية ونقص قدرات الجيش اللبناني البشرية والتقنية. في ظل هذا الواقع، يرى متابعون للشأن الأمني أنه يمكن التفكير في توسيع هذه التجربة لتشمل الحدود الجنوبية، خصوصاً في النقاط الخمس المتنازع عليها التي ترفض إسرائيل الانسحاب منها بذريعة أنها تشكل تهديداً لأمنها القومي. فإذا جرى نشر هذه الأبراج تحت إشراف دولي أو بتمويل أجنبي لدعم الجيش اللبناني، فقد يشكل ذلك خطوة نحو ضبط الوضع الحدودي وتقليل التوترات مع إسرائيل، خصوصاً إذا ترافق ذلك مع دعم لوجستي وتقني يتيح للجيش أن يكون الطرف الوحيد الذي يراقب الحدود إلى جانب قوات الـ"يونيفيل".
وكان وزير الخارجية البريطانية السابق ديفيد كاميرون قدم اقتراحات حول كيفية إرساء التهدئة في جنوب لبنان، في سياق زيارة له إلى بيروت مطلع فبراير (شباط) 2024، أي قبل توسع الحرب، من بينها تعميم نموذج أبراج المراقبة على الحدود الجنوبية، لضمان تنفيذ واحترام القرار 1701 ومراقبة أي مظاهر مسلحة على الجانبين في عمق معين، على أن تكون تحت إشراف القوات الدولية "اليونيفيل" المنتشرة جنوب لبنان. إلا أن حينها هاجمت وسائل إعلام مقربة من "حزب الله" المقترح البريطاني، معتبرة أنه "خدمة لأمن إسرائيل على حساب لبنان"، ومحاولة "ترهيب وترغيب" للحزب من أجل وقف عملياته العسكرية.
اليونيفيل نحو الشرق؟
إلى جانب اقتراح الأبراج، هناك طرح آخر يتمثل في توسيع نطاق القرار 1701، الذي ينظم عمل قوات اليونيفيل في الجنوب اللبناني، ليشمل الحدود الشرقية والشمالية مع سوريا. هذا الطرح قد يبدو جذاباً من الناحية النظرية، إذ سيسهم في ضبط عمليات التهريب وتدفق المسلحين، ويحد من قدرة "حزب الله" والمجموعات المسلحة الأخرى على استخدام لبنان كقاعدة خلفية لأنشطتها الإقليمية.
لكن عملياً، يواجه هذا الاقتراح عقبات كبرى، أبرزها المعارضة المتوقعة من "حزب الله" وحلفائه، الذي يعتبر أي وجود دولي في الشرق والشمال تهديداً لنفوذه الاستراتيجي.
في السياق يشير مصدر عسكري في الجيش اللبناني إلى أن طبيعة التضاريس بين لبنان وسوريا جبلية وصعوبة المراقبة وتحتاج إلى تطويع نحو 10 آلاف عنصر إضافي، وبرأيه في ظل الصعوبات الاقتصادية واللوجستية قد يكون خيار المزج بين الأبراج البريطانية ونشر قوات اليونيفيل في حال جرى إقرار توسيع صلاحيات القرار الدولي 1701 ليشمل الحدود السورية أو عبر تطبيق القرار الدولي 1680 الذي يتضمن أيضاً إمكان طلب مساعدة دولية من مجلس الأمن، مما قد يشكل الخيار الأفضل للبنان في الظروف الحالية.
ولفت إلى أنه يمكن توسيع تجربة الأبراج البريطانية لتشمل النقاط الحدودية الحساسة، سواء في الجنوب أو في الشرق، مع تعزيز إمكانات الجيش اللبناني للسيطرة عليها، وإدخال آلية رقابة دولية محدودة عبر نشر قوات "اليونيفيل" على طول الحدود مع سوريا، إضافة إلى دعم الجيش اللبناني عسكرياً وتقنياً لتمكينه من القيام بدوره في ضبط الحدود، خصوصاً أن أحد أبرز العوائق أمام بسط سيادة الدولة هو ضعف القدرات العسكرية للبنان مقارنة بالتحديات الأمنية الهائلة.
"الجدار الفاصل"
في السياق اعتبر العميد المتقاعد جوني خلف، أن "أبراج المراقبة التي قدمتها بريطانيا إلى لبنان لا تكفي لتغطية الحدود اللبنانية بالكامل. وعلى رغم أهمية هذه الأبراج في الرصد، فإنها لا تتمكن من مراقبة المساحات الشاسعة والوديان العميقة التي تشكل تحديات كبيرة تجعل من الصعب على هذه الأبراج أن تؤدي وظيفتها بكفاءة عالية مما يسهل اختراقها، خصوصاً في المناطق التي تفتقر إلى البنية التحتية المناسبة. إضافة إلى ذلك، فإن التضاريس الوعرة تجعل من الصعب تنفيذ عمليات مراقبة فعالة في بعض المناطق".
وأكد العميد المتقاعد أهمية تعزيز القدرات التكنولوجية والعسكرية للبنان، إذ هناك حاجة ماسة إلى تعزيزات بشرية، وتكنولوجيا متقدمة مثل الرادارات والمسيرات. إلا أن لبنان لا يمتلك هذه التقنيات المتطورة التي تستخدمها الدول الكبرى، مما يضعه في موقف صعب أمام التحديات الأمنية المعقدة.
وبرأي خلف لتأمين الحدود اللبنانية بصورة فعالة، يتطلب الوضع حضوراً عسكرياً قوياً ومستداماً، إضافة إلى وجود مراكز عسكرية متطورة قادرة على التعامل مع التحديات الأمنية المختلفة. ويمكن الإشارة هنا إلى أهمية الأسوار الإسمنتية، أو ما يعرف بـ "الجدار الفاصل"، التي بنيت في بعض المناطق الحدودية بين الدول، إذ أثبتت فعاليتها في المساعدة على ضبط الحدود.
وشدد خلف على أن "الحل الأمثل يتمثل في تعزيز وجود الجيش اللبناني على الأرض، وضرورة توفر جيش قوي وموارد كافية على الحدود لحماية الأراضي اللبنانية". وأضاف "من دون وجود قوات كافية ومراكز فعالة، لن تكون هناك نتائج حاسمة في تأمين الحدود ومنع عمليات التهريب أو أي تهديدات أخرى قد تستهدف البلاد".
وتابع خلف أن "حزب الله" قد يبرر استمرار حيازته للسلاح في لبنان في ظل الصعوبات التي يواجهها الجيش في مراقبة الحدود، خصوصاً في المناطق النائية. وقد يعتبر الحزب أن سلاحه هو الضمان الوحيد لاستقرار لبنان في ظل التحديات الأمنية، مشيراً إلى وجود خلايا نائمة أو تحركات غير مرصودة قد تهدد الأمن. وفي ضوء هذه المعطيات، يرى الحزب أن الوضع الراهن يستدعي الحفاظ على قوته العسكرية لمواجهة تلك التحديات.
تعزيز قدرات الجيش
وأشار خلف إلى أن الحكومة يجب أن تتحرك بجدية أكبر لتأمين الحلول الفعالة، وقال "إذا كانت الدولة جادة في تعزيز قدرات الجيش اللبناني، فالأمر سيعكس إرادة حقيقية لتطوير الجيش وتزويده بالأدوات اللازمة لمواجهة التحديات الأمنية الداخلية والخارجية". وتابع أنه "يجب أن تكون هناك خطة واضحة أو اتفاق شامل حول تسليم سلاح ’حزب الله‘ أو السيطرة عليه ودمجه ضمن الدولة اللبنانية. وإذا تم ذلك، فقد يحدث تحولاً كبيراً في الوضع الأمني في لبنان. وفي حال جرت السيطرة على سلاح الحزب، سيسهم ذلك في تعزيز ضبط الحدود وتقليل التهريب، مما يخفف عن الدولة عدداً من التحديات الأمنية الداخلية والخارجية".
وأكد خلف أن الجيش اللبناني يستحق أن تكون قوته موجهة نحو حماية الحدود، وليس داخل الأراضي اللبنانية. وأضاف "اليوم، نحن نخسر قدرة الجيش وكفاءته العسكرية بسبب التوزيع غير المتوازن للقوات داخل المدن والمناطق اللبنانية، يجب أن يكون الجيش منتشراً على الحدود لضمان الأمن السيادي ومنع التهريب أو أي تهديدات قد تطرأ. ففي الوقت الراهن، السلاح منتشر داخل البلاد، مما يؤدي إلى فوضى وغياب الاستقرار. هذه هي المشكلة الأساسية، فكل الفصائل والمجموعات تمتلك أسلحة، و’حزب الله‘ يمتلك أكبر وأخطر قدرات تسليحية في الداخل اللبناني، لذا إذا كان هناك رغبة في حل هذه الأزمة، فسيكون من الضروري إزالة السلاح غير الشرعي أولاً".
وأردف خلف "إذا تم اتخاذ قرارات حاسمة وحازمة من الدولة اللبنانية، خصوصاً مع بداية العهد الجديد، يمكن أن تبدأ الأمور بالتحسن تدريجاً، إذ قد يحصل لبنان على دعم دولي، وهذا أمر مهم وضروري، وإلا قد تتفاقم الأمور وينفجر الوضع، مما يجعل الأمر أكثر تعقيداً، وقد تدخل الدول الكبرى والأمم المتحدة على الخط، وعندها قد تتجاوز الأمور الحلول الدبلوماسية المتبعة في الوقت الحالي، مما قد يفضي إلى فرض قرارات دولية جديدة أكثر صرامة على لبنان. وقد يترتب على ذلك تعديل دور قوات اليونيفيل، التي تعمل حالياً على مراقبة الوضع في الجنوب وإعداد التقارير، بحيث يتغير نطاق عملها ليمتد إلى مناطق أخرى غير تلك الحدودية الجنوبية. كما قد يمنحها ذلك صلاحيات لأداء مهمات عسكرية في هذه المناطق".
ولفت إلى أنه "لا يمكن إغفال وجود بعض المناطق الشمالية ذات الغالبية العلوية والمخيمات السورية في لبنان، إذ تشكل هذه المناطق أيضاً مصدر قلق كبير في حال استمر الفلتان على الحدود، وقد تتحول هذه المشكلة إلى كارثة تهدد استقرار لبنان".
التجسس على الحزب
في المقابل، وفي إطار الرد وتسجيل موقف واضح ضد الأبراج البريطانية في لبنان، كشف مصدر قيادي داخل "حزب الله" عن أن إقامة البريطانيين 36 برج مراقبة محصن من طراز "سانغارز" (SANGARS) في نقاط الجيش اللبناني على الحدود مع سوريا، يوفر كل منها مدى رؤية بنصف قطر 360 درجة لمسافة 10 كيلومترات، هدفه التجسس على "المقاومة" ومراقبة سوريا، لا سيما تحركات عناصر النظام السابق.
وأوضح المصدر ذاته أن المنطقة الفاصلة بين لبنان وسوريا، حيث تم نصب المراصد البريطانية، يستفاد منها لمراقبة سهل البقاع وطريق بيروت - الشام، الذي كان يعتبر عند السوريين خطاً أحمر لقربه من العاصمة السورية، وكذلك التجسس على "حزب الله" وجمع معلومات استخبارية، لمشاركتها عبر الأقمار الاصطناعية مع إسرائيل، وليس مراقبة الإرهابيين كما يزعم البريطانيون.