ملخص
قال الباحث والمؤرخ المصري المرموق يوسف زيدان كلاماً "كبيراً" عن مسلسل "معاوية"، غالبيته من محفوظات الباحث المصري في التاريخ، وليس ثمرة معطيات وردت في المسلسل الذي حكم عليه بأنه "لا يستحق المشاهدة" معللاً ذلك بأنه حافل بالأخطاء اللغوية والتاريخية
تعاني الثقافة العربية من أمراض عديدة، بعضها قد يبرأ مع الزمن وتطوراته المتلاحقة، وبعضها الآخر مستعص لا شفاء منه. وتمثل الأحكام المرتجلة والمتعسفة أحد أبرز علامات ذلك المرض الذي ينخر الروح، ويعطب المصداقية، ويكرس "ثقافة" الاستسهال، والاختزال المخلّ.
علامات المرض المستعصي هذا تصدر، في غالبيتها، عن الفئات ذات العلم الشحيح، أو الطبقات التي تعاني من أميّة القراءة والكتابة، والمطحونة تحت عجلات الحياة اللاهثة المتطلبة.
بيْد أن ثمة آخرين لهم باع في البحث والاستقصاء، ويحملون شهادات علمية رفيعة يتورطون في هذا المأزق الموحل، فيأخذون بإصدار أحكام جازمة على وقائع جزئية، على قاعدة أن شجرة واحدة تكفي أن تكون نموذجاً لغابة كثيفة مترامية الأطراف، متعددة الأشجار والنباتات والينابيع. والشجرة هنا قد تكون معادلاً رمزياً لصفحة من كتاب يقرأها أحدهم فيقيّم الكتاب وفقاً لها، وقد تكون هذه الصفحة كلمة الغلاف الخلفي التي يحلو لكثير من المنتسبين إلى الثقافة أن يقرأوها على عجل في معارض الكتب، ثم يمضون، من دون أن يرف لهم جفن، في إصدار أحكامهم القطعية، ذماً أو تقريظاً.
والصفحة قد تكون، في السينما أو الدراما المرئية 5 دقائق، أو مشاهدة Trailer الفيلم، أو حلقة من مسلسل، أو ملخص بدقائق قليلة لكتاب على YouTube، وبعدها يظن من يفعل ذلك أن حاز المعنى الكلي، أو نفذ إلى الجوهر العميق لرسالة المنتَج الإبداعي.
آخر صيحات هذه الظاهرة الفتاكة، ما صدر عن الباحث والمؤرخ المصري المرموق يوسف زيدان، بخصوص مسلسل "معاوية" الذي يُبث الآن خلال شهر رمضان. قال زيدان كلاماً "كبيراً" عن المسلسل، غالبيته من محفوظات الباحث المصري في التاريخ، وليس ثمرة معطيات وردت في المسلسل الذي حكم عليه بأنه "لا يستحق المشاهدة"، معللاً ذلك بأنه حافل بالأخطاء اللغوية والتاريخية، وأنه يقدم معاوية كشخصية مثالية، داعياً: "علينا أن نبتعد عن تراث الدم، وننحاز إلى التراث النظيف الذي يهييء العقل للعلوم الحديثة".
وعلاوة على ذلك، ألقى صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية العديدة، مرافعة هجومية على المسلسل، معترفاً في الوقت نفسه أن أحكامه كلها جاءت ثمرة حلقة وثلث الحلقة من المسلسل الذي لم يتحمل الاستمرار في متابعته!
غرابة ثقافية
ولا تستبطن هذه الكتابة دفاعاً عن مسلسل "معاوية"، ولكنها تتأمل، باندهاش وغرابة، في ظاهرة ثقافية تعدت فكرة "الوجبات السريعة"، وصارت بمثابة "طاعون" ينتشر باطراد في أوساط "النخب الثقافية" التي بعد أن تنضوي في شلل وميليشيات، تشرع في مزاداتها ومزايداتها التي يكون لها فعلها المؤثر لدى الجمهور الذي يثق أحياناً بآراء تلك النخب، خصوصاً إذا كانوا أكاديميين مثل زيدان الذي يلاحَظ انهماكه في إثارة الجلبة بين الحين والآخر، فمرة يتحدث عن الإسراء والمعراج، ومرة يشكك في السنة النبوية، وسبق له أن وصف صلاح الدين الأيوبي بأنه "أحقر شخصية في التاريخ"، وهناك من يزعم أنه يفعل ذلك حصداً للبقاء في المشهد، كأنما "شهوة الحضور" ذريعة للتفريط بالقيم العلمية التي لا يتوقف عن الاعتصام بها والذوذ عن حياضها!
زيدان ليس استثناءً في هذا السلوك، وبمقدور المتابعين رصد عشرات بل مئات الحالات المماثلة التي تغزو فضاءاتنا المعرفية مسلحة بأحكام عمومية تمدح أو تذم كتاباً وفنانين ومسرحيين وتشكيليين من دون أن يكون لهؤلاء "الحكام" أي معرفة بالعمل الممدوح أو المذموم. وقد سبق لكاتب هذه السطور أن خاض مؤخراً سجالات على "السوشيال ميديا" بخصوص رواية لكاتب أردني جرى منعها والتشهير بكاتبها في البرلمان الأردني، ومساءلة وزيرة الثقافة لأنها تبنت طباعة الرواية ضمن سلسلة "مكتبة الأسرة". ولما تمت محاورة المنتقدين، وهم بالمئات، وسؤالهم إن كانوا قرأوا الراوية قبل "التشنيع" عليها وعلى صاحبها، أجاب أكثر من 95 بالمائة منهم بأنهم لم يفعلوا، ولكنهم رأوا الشتّامين كثراً، فساروا في ركابهم.
المكتوب لا يقرأ دائماً من عنوانه، كما يشيع قليلو الحيلة، نافدو الصبر الذين لا يقوون على قراءة رواية من 300 صفحة، أو مشاهدة فيلم من ثلاث ساعات، وقد ساهمت ثورة السوشيال ميديا من تعميق ظاهرة القراءة "السِكانية" Scan التي لا تعبأ بجماليات النص ولغته وحيله الفنية وتقنياته، لذا ترى "النقاد" المهووسون بثنائية "مع" أو "ضد" يترصدون هفوة هنا أو سقطة غير مقصودة هناك، من أجل صب جام غضبهم على المنتَج، وإن راق لهم ما اطلعوا عليهم أصبحت تلك الأخطاء برداً وسلاماً على نفوسهم.
كثيرون يتحدثون عن ثلاثية المصري نجيب محفوظ (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، مثلما يستشهدون برواية "البحث عن الزمن المفقود" للفرنسي مارسيل بروست، أو رواية "ذهب مع الريح" للأميركية مارغريت ميتشل، وهي روايات ذات صفحات تتعدى الألف (رواية بروست 3200 صفحة)، ولكنّ قليلين قرأوا هذه الأعمال التأسيسية، واغتنوا من مناخاتها.
الكتابة الحقيقية تحتاج إلى "رهبنة"؛ بمعنى الاعتكاف في محراب المنتَج الذي يجري العمل على الكتابة عنه. وتتحرك هذه الكتابة بدوافع أخلاقية في المقام الأول، فالكتاب لا ينتهي إلا بآخر حرف، والفيلم لا يتوقف قبل أن تتوقف الشاشة، فـ"التترات" جزء من العمل، والمعزوفة الموسيقية تظل تشهق حتى إسدال الستائر.
هذه التقاليد توشك أن تنقرض، فثقافة التؤدة والتدقيق والتوثيق صارت عبئاً على الكاتب العجول، وبريق الفكرة اللاهث وراء الأضواء و"اللايكات" وعدد المشاهدات، صار سبباً في تهتك المعايير. قد يكون السبق في العمل الصحفي المباشر مطلوباً وممدوحاً، لكن في الأحكام القيمية يتوجب التريث، ولا أتوقع أن الدكتور زيدان سيكون مسروراً إن قرأ تعليقاً من قارىء متبرم حكم على رواية "عزازيل" بأنها مثيرة للملل، بعد قراءته بضع صفحات منها.