ملخص
في رواية "أورويل 1984... الحكاية" يستعيد الكاتب الاسكتلندي نورمان بيسيل الأعوام الأخيرة من حياة الكاتب البريطاني جورج أورويل في فضاء مكاني ممتد بين لندن وفرنسا وجزيرة جورا في الساحل الغربي لاسكتلندا التي كتب فيها روايته "1984".
لم يتناول نورمان بسيل في رواية "أورويل 1984... الحكاية" (دار العربي – ترجمة محمد عثمان خليفة) حياة جورج أورويل كاملة، كما فعل جوردون بوكر صاحب رواية "جورج أورويل من الداخل"، الذي استعاد في سرده الخطي، حياة أورويل منذ طفولته وحتى وفاته، متتبعاً تحولاته الفكرية وجولاته في أوروبا وآسيا، وإنما سلك نهج الكاتب دينيس غلوفر، الذي تناول الحقبة نفسها من حياة صاحب رواية "مزرعة الحيوان"، ربما لما شهدته من صراع درامي عاشه أورويل مع الوقت والمرض، لإنجاز روايته الأخيرة "1984".
وعلى رغم هذا الحضور البارز لمعاناته مع مرض السل، فإن رؤاه وأفكاره وأيديولوجيته كانت زوايا أخرى حرص بيسيل على تجسيدها في هذه الرواية، وتمكن عبر ما دفع به في نسيجها من شحنات عاطفية، وعبر ما خلقه من مشاهد حية، من إنتاج تجربة حسية للحياة التي عاشها جورج أورويل في تلك الحقبة من حياته، مستنداً إلى يومياته ورسائله ورواياته ومقالاته الصحافية والأبحاث التي أنجزت عنه.
بينما شرع الكاتب رحلته السردية معتمداً أسلوب السرد الذاتي على لسان جورج أورويل نفسه، فإنه سرعان ما منح سلطة السرد لراوٍ عليم، مما أتاح له تقديم رؤية كلية وشاملة وموضوعية حول الشخوص والأحداث، وإبراز السياق التاريخي للسرد، الذي واكب الحرب العالمية الثانية وما بعدها، لكنه في مواضع عدة من نسيجه منح دور الراوي لسونيا براونيل، زوجة "جورج أورويل، والوصية على إرثه الأدبي، وربما أراد عبر ذلك أن يفسح لها مجالاً، كي تفند ما تعرضت له من إدانات في الواقع الحقيقي، إذ تردد أنها قبلت الزواج من رجل شارف على الموت من أجل الاستحواذ على ثروته والاستفادة من حقوق نشر أعماله.
رفضت براونيل محاولات كتاب كثر سعوا إلى الكتابة عن سيرة أورويل، لذا لم تظهر كتابات تتناول حياته إلا بعد موتها، ويعكس قرار الكاتب منحها صوت السرد عبر ضمير المتكلم رغبته في إنصافها، وصياغة صورتها بشكل أكثر إنسانية وتعقيداً، ومحاولته خلق حالة من التوتر الدرامي، تتيح للقارئ إمكانية تقييم النيات الحقيقية للشخصية، واختيار التعاطف معها، والانحياز لها أو ضدها، كذلك أتاح المنظور اللاحق في حكي سونيا - بعد وفاة أورويل - شعوراً بالزمن الممتد، ومكنها هي نفسها من تقييم مواقفها إزاءه: "ترك تقريباً كل ما يملكه لي باستثناء عائدات بوليصة التأمين التي كانت مخصصة لريكي لتغطي نفقات تعليمه، أما آف فلم تحصل على شيء سوى مهمة تربية ريكي، كثيراً ما كان هناك حديث يدور حول أنني تزوجت جورج بدافع الطمع"، ص 260.
روافد الحقيقة
أسهم توزيع مسؤولية الحكي بين راوٍ عليم وسونيا، وجورج أورويل نفسه وصديقه ريتشارد، في إضفاء صبغة موضوعية على السرد، غير أن الكاتب لم يمنح للصديقين أورويل وريتشارد سوى مساحات قصيرة من السرد الذاتي، واستعاض عن قصرها بمساحات حوارية أكثر اتساعاً، أتاحت الكشف عن طبيعة شخصية أورويل وغموضه وتعقيداته النفسية وتناقضاته ومعاناته، وكذلك أفكاره السياسية وأيديولوجيته الاشتراكية ومقته للحروب، وما قادت إليه من خراب، ولا سيما بعد اختراع القنابل الذرية ومناهضته للأنظمة الشمولية وانحيازه للحرية وللطبقة العاملة، كذلك كان الحوار أداة ناجعة استخدمها الكاتب للكشف عن القضايا التي انشغل بها أورويل مثل الفقر والتفاوت الطبقي والقمع والنفاق السياسي.
وهي القضايا ذاتها، التي عبر عنها في روايته الأخيرة "1984"، مستشرفاً مستقبلاً كابوسياً للعالم، إذا لم يتم التدخل لمنعه، واستدعى بيسيل فقرات من هذه الرواية، كشفت عن الشبه بين بطلها "وينستون سميث" و"أورويل" نفسه، فكلاهما كان مريضاً، كلاهما حلم بريف ساحر وبلد ذهبي، كلاهما خاض تجربة مع قمع الأنظمة الشمولية، وكلاهما اختبر قوة الدعاية في تزييف الحقائق وتزوير التاريخ، وكان ما استدعاه بيسيل من هذه الرواية ومن مقالات جورج أورويل ويومياته ونصوصه الأدبية الأخرى رافداً من روافد الحقيقة، التي هيمنت على النص، وإن خالطها التخييل في مواضع عدة منه.
الأيديولوجيا والصراع
كان ما أبرزه الكاتب من رفض أورويل المطلق الأنظمة الشمولية والفاشية، حتى وإن مارسها اليساريون، المحسوب هو نفسه عليهم، مدخلاً أتاح له رصد ما أدت إليه هذه الرؤى والقناعات، من دخول صاحبها في زخم من الصراعات الفكرية والسياسية والشخصية، وملاحقته من قبل الشيوعيين الاستالينيين، ولا سيما بعدما هاجم سياساتهم في روايته "مزرعة الحيوان". وكما رصد الصراع بين جورج وأتباع ستالين رصد صراعه مع المرض ومع الطبيعة، التي تجلت في طقس بارد أضعف قدرته على مواجهة المرض، وفي مد تربص به وكاد يودي به، وبابنه إلى مصير الغرق، وتطرق إلى صراعه مع زوجته الأولى إيلين، لرفضها علاقاته خارج الزواج، وتراجعها عن اتفاقهما على علاقة مفتوحة، وإضافة إلى الصراع الخارجي رصد ما نشب في دواخل أورويل من صراعات غذتها تناقضاته وانقساماته بين رغبات متباينة، بين حبه لإيلين وضعفه أمام "سالي"، بين رغبته في العيش في جزيرته الهادئة ورغبته في البقاء لدى "سونيا" ابنة المدينة، بين عدم انسجامه مع أخته المسيطرة "آف" وعدم قدرته على إبعادها من بيته، بين كراهيته سلوك التلصص والمراقبة، الذي تتبعه الأنظمة الشمولية، ورغبته في تقديم المساعدة لـ"لسيليا"، التي استوجبت قيامه بإفشاء أسماء زملائه اليساريين لمصلحة الحكومة البريطانية.
الوصف والمشهدية
امتد الفضاء المكاني للسرد بين لندن وفرنسا وجزيرة جورا في الساحل الغربي لاسكتلندا، وأسهم هذا الامتداد في تجسيد هوس الشخصية المحورية "أورويل" بالطبيعة والريف وشغفه الشديد بالكتابة، وأتاح كذلك إضاءة شبكة العلاقات الاجتماعية التي عاش في محيطها.
واتسقت أهمية المكان وحضوره الفاعل بالنص، مع لجوء الكاتب لتقنيات الوصف بأنواعه، ولا سيما الوصف التفسيري، الذي ساعد على تجسيد مشاعر الشخصية وأفكارها، فكان وصف البيوت المهدمة والأحياء المهترئة التي سلكها أورويل وسيلة للكشف عما خلفته الحرب في نفسه من تصدعات وسوداوية وكآبة.
وكان وصفه مقابر الأثرياء في مدينة غلاسكو وسيلة لتبيان أيديولوجيته الاشتراكية وبغضه للطبقة النبيلة التي تؤسس ثراءها على قهر العمال، كما كان كاشفاً عن تمزقه بأسئلة وجودية، حول الموت والمصير: "كانت الأعمدة والأعمدة التذكارية والأقواس والسراديب والملائكة المنحوتة تميز مكان الراحة الأخير للتجار وقادة الجيوش والوزراء، بدا أن معظم تجار المدينة انتهوا هنا، لم تتمكن ثرواتهم من إنقاذهم من المصير نفسه مثل الفقراء، تساءل أين كانت قبورهم؟ ربما مخفية في مقابر أخرى أقل فخامة، مفصولة، كما كانوا في حياتهم" ص 173. وبينما جسد الوصف مشاعر الشخصية الرئيسة عزز التكنيك السينمائي بصرية السرد، فأتاح استخدام بيسيل تقنية عين الكاميرا، وقابلية التصوير الذهني للأحداث، ونقل تفاصيل دقيقة وتحويلها إلى مشاهد حية ولقطات متتابعة ومتحركة، أضفت بدورها إلى السرد مزيداً من الديناميكية والتشويق، "التيار سحب الصبي بعيداً منه، غطس جورج لمحاولة العثور عليه، وحيداً مع القارب المقلوب، نظر (هن) بقلق إلى التيار الهائج... ظهرت لوسي فجأة، كانت تلهث لالتقاط أنفاسها، ومدت يدها إليه فسحبها إلى الشاطئ"، ص 201.
تيار الوعي
لم يكتف الكاتب برصد ملامح شخصية جورج أورويل وطبيعته الظاهرة، وإنما حاول الغوص في طبقات نفسه الأعمق وكشف هواجسه وتناقضاته، سوداويته وتعقيده، على نحو يتحدى الغموض الذي اتسم به، ويضفي على حضوره عمقاً وصدقية، ويضيف في الوقت عينه بعداً نفسياً للسرد، لذا لجأ بيسيل إلى تيار الوعي، الذي تعددت تجلياته بالنص، فبدا عبر المونولوغ الداخلي، والتداعي الحر لذكريات استعادها أورويل، عبر تقنيات التذكر والاسترجاع، إضافة إلى حالة الهذيان، التي صاحبت تفاقم مرضه، وذابت لديه خلالها الحدود الفاصلة بين الوهم والواقع، وبين ما حدث وما لم يحدث.
كذلك أفرد الكاتب مساحة واسعة من نسيجه للأحلام، التي لعبت دوراً استكشافياً للاوعي، فترجمت هواجس أورويل وكشفت توتره الداخلي، وهذا ما بدا في حلمه بزوجته الراحلة إيلين والشخص الغامض الذي يتتبعها، والقنبلة التي انفجرت أمامها، وأجهزة التنصت، فقد أحالت مشاهد الحلم إلى افتقاد أورويل زوجته، وشعوره العميق بالذنب تجاهها، كما كشفت عن هواجسه وشعوره أنه ملاحق من قبل أتباع ستالين ونظامه الشمولي.
وعبرت أحلام أخرى عن الهواجس ذاتها، منها حلمه بزنزانة ورجل شرير يعذب شاباً ضعيفاً، أما حلمه بالمباني الشاهقة، التي تقترب منه، وشعوره بالسعادة على رغم كونه تائهاً، فكان بمثابة تمهيد لرحيله، ونبوءة باقتراب الموت، وهكذا تمكن بيسيل عبر هذه السيرة الروائية، التي اعتنى فيها برصد صخب الأعوام الأخيرة لجورج أورويل، من استعادة شخصية الكاتب الراحل وتفكيك الأيديولوجيات والأحداث التي صنعته.