ملخص
الطلب على الدعاة أو كل من يتحدث باسم الدين كبير ومتصاعد في المجتمع المصري. وكلما هدأت فورة داعية جديد، أو ظن البعض أن المجتمع صار متشبعاً حتى الثمالة بأفكار وتفسيرات وفتاوى يصفها البعض بالتشدد والرجعية، يظهر وجه جديد، فتفتح أمامه الأبواب والنوافذ والمداخل
مع هلال الصوم كل عام يهل كذلك الدعاة بأنواعهم وفئاتهم، المحترفون منهم وكذلك الهواة. وفي رمضان يجد الحديث في الدين، أي حديث يبدأ بآية قرآنية وتتخلله قصص الأولين وينتهي بدعاء مع إعلان عن شركة تنظم العمرات، أو تنويه عن محل يبيع ملابس المحجبات، آذاناً صاغية ونفوساً مرحبة، وآفاقاً لا متناهية للهيمنة على العقول والسيطرة على القلوب.
"ملك القلوب" و"إمام الدعاة" و"مولانا" الشيخ الشعراوي المهيمن على عقول ملايين المصريين والمسيطر على عوالم التفسير ربما يكون قد رحل بالجسد قبل 27 عاماً، لكنه حي يرزق بهيمنة الأفكار وسيطرة المفاهيم ومرجعية التفسير.
حقق الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي من الهيمنة والسيطرة ما يجعل عموم المصريين يتهمون المطالبين بمراجعة بعض من أفكاره وتصحيح جزء من مفاهيمه بكراهية الإسلام ومعاداة المسلمين. وفي كل مرة يصل فيها صدام تصحيح الخطاب إلى حائط التكفير السد، أو فخ الترويع عبر الاتهام بالفسق والوصم بالانحلال، يقول المدافعون إن الشعراوي ليس كمثله شيخ، وإنه خير دعاة الأمة.
فجأةً، ومن دون سابق إنذار، ومن حيث لم يحتسب حماة الدعوة أو يتوقع حكماء الأمة، ضرب عامل سوبرماركت "كرسي في الكلوب"، حينما قال ما لم يطرأ على بال أو يرد في حسبان. قال بلهجة حاسمة وحكمة ثاقبة ونظرة صارمة: "سامح حسين أفضل من يشرح الدين بعد فضيلة الشيخ الشعراوي".
قنبلة "قطايف"
قال العامل قوله هذا وانصرف يتابع عمله بعدما فجَّر قنبلة "قطايف". القنبلة الدينية الجديدة التي تتناثر جزيئاتها يومياً منذ بدء رمضان تتمثل في برنامج رمضاني يقدمه الممثل الكوميدي سامح حسين، الذي تحول جزئياً إلى عالم تقديم البرامج عبر محتوى يبث في قناة "مدرستنا" التعليمية المحلية، لكن التحول الأحدث في مسيرة حسين أدخله خانة ملتهبة، إنها خانة المحتوى الديني الذي حتماً ولزاماً ولا بد يجعل كل من يقترب منها مثار شد بين فريق الرافضين وفريق المتدينين.
فريق الرافضين، وهو أقلية، يرى أن ما يحتاج إليه المصريون هو حث على العمل ودعم للبحث وسند للعلم وتحرير للعقل من النقل وتخليص للروح مما يجثم على أنفاسها من تهديد المشايخ ووعيد الدعاة، وليس المزيد من التفسير والتحريم والتحليل، لا سيما أن المخزون الديني وفير ويفيض.
أما فريق المؤيدين المتدينين كما يحبون أن يوصفوا فهو الفريق الذي يضم بين جنباته ملايين المصريين من المنتمين إلى درجات التدين المختلفة، بين الشعبوي جداً الممسك بتلابيب المظاهر الدينية فحسب، مع الفصل التام بين العبادات والمعاملات، والشعبي الذي يخلط بين العادات والتقاليد والدين في خلطة سحرية يصعب فيها التفرقة بين ما هو أخلاقي متوارث وما هو ديني مكتسب، والسبعينياتي وهو تلك النسخة من التدين المتشدد الغارق في إجراءات وسياسات مهمتها إشهار التدين ورفض الآخر، وغيرها من أنواع الإيمان ودرجاته وصوره.
هذا الفريق تقدر أعداده بالملايين. بدأ يتكون قبل نحو نصف قرن، وآخذ في التوسع والتمدد مُنذئذٍ. هذا الفريق هو من يصر على الإبقاء على منظومة "الدعاة الجدد" حية ترزق، تارة عبر متطرفين ومتعصبين، وأخرى من خلال أدعياء ومحتالين، وثالثة من خلال طبيب قرأ كتباً في الفقه، ومحاسب حصل على دورة في علوم الشريعة، وحرفي سافر دول الخليج عاماً أو عامين، ولا مانع عبر فنان يقول البعض إنه لم يحصل على حظه في أدوار البطولة، ويدافع البعض الآخر بأنه لم يحصل على حقه لأنه ملتزم ومتدين.
متلازمة الالتزام بتشدد والتدين التي أصبحت تجد نفسها في مواجهة عنيفة مع كل ما يتعلق بالحياة في الدولة المدنية من فن ورياضة وامرأة وفكر وعلم وعمل تطل برأسها بين الوقت والآخر. وهي تطل برأسها حالياً عبر "قطايف" سامح حسين ومحتواه الذي ركضت الغالبية لتضعه في خانة التدين الجميل والالتزام الصحيح والإيمان الحق والعودة إلى الله، وكأن البلاد كانت تسير في طريق الضلال، والعباد كانوا غارقين في الفسق والفجور.
حازت "قطايف" سامح حسين خلال أسبوعين على ما لم يحزه الفنان طوال مسيرته الفنية التي تزيد على عقدين ونصف العقد. الأدهى من ذلك أن البعض ممن لم يكن يعرفه، أو يعرفه، لكن دون تذكر اسمه أصبح يضعه في مكانة الدعاة والعلماء، ويتفكَّه البعض داعياً لئلا يتطور الأمر فيجري وضعه في خانة القديسين والأنبياء، أو يتبرع متطوعون من رعاة الفضيلة وحماة الدين ويطبعون صوره ويوزعونها على سائقي التكاتك و"تبَّاعي" (مساعدي سائقي) الميكروباصات.
تراوحت تسميات محتوى "قطايف" الذي نأى صانعوه بمنتجهم عن اسم البرنامج الديني بين "رسائل أخلاقية في إطار ديني"، و"محتوى ملتزم يقتدي بالرسول (صلى الله عليه وسلم)"، و"إنسانية مشتقة من القرآن الكريم"، و"سلوكيات قويمة من السنة النبوية" والقائمة طويلة.
هوس التدين ووساوس المتدينين
اللافت أن هستيريا جماعية هيمنت على القواعد الشعبية إعجاباً وثناءً وإطراءً وتعظيماً للبرنامج والفنان. ملايين المشاهدات وآلاف التعليقات من مصريين عاديين تراوحت ردود فعلهم بين الإعجاب بمحتوى ملتزم، والإشادة بالعودة إلى القواعد الدينية في المخاطبة الجماهيرية، والثناء على الاستشهاد بالدين والسنة والشرع، ولو بطريقة غير مباشرة، للكلام عن الحياة اليومية، وكذلك اعتبار النجاح اللافت الذي حققه خلال أيام معدودة دليلاً دامغاً بأن الأمل موجود، وأن مصر ما زالت بخير، والمصريون ما زالت لديهم الفطرة التي تجعلهم يميلون إلى الحق والدين والالتزام.
الغريب أن كثراً من فريق المعجبين يشيرون إلى رقي المحتوى وعظمة الرسالة في البرنامج، على عكس انحطاط المسلسلات ووضاعة برامج المسابقات ودناءة الانشغال بالفن في شهر القرآن، وكأن مقدم البرنامج يحمل درجة الدكتوراه في الفقه والشرع وشهادات الخبرة والتميز في التفسير والتجويد. ليس هذا فحسب، بل تبرع البعض بالتعبير عن أمنياتهم وأحلامهم بأن تكون "قطايف" سامح خطوته نحو اعتزال الفن الحرام والعمل في مجال الدعوة الحلال.
الدق على وتر الدعوة والدعاة مع دخول فنان على خط الخطاب الديني منضماً إلى كتيبة الأطباء والمحاسبين والمهندسين والحرفيين من الدعاة الجدد أيقظ مخاوف الفريق الثاني من المصريين، وهو فريق الأقلية الناجية من براثن ما يسمونه "هوس التدين" و"وساوس المتدينين".
الدعاة الجدد الذين لم يتركوا بيتاً في مصر منذ تسعينيات القرن الماضي إلا دخلوه، ولا عقلاً إلا وغزوه مع اختلاف نتائج الغزو، وفئة أو طبقة اجتماعية واقتصادية إلا وخاطبوها وغازلوها بطريقتها، مستمرون في الدق بعنف على أبواب ونوافذ ومداخل، مع سد مخارج المجتمع المصري.
وعلى رغم تنامي أدوار المؤسسات الدينية الرسمية من الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء ووصول أذرعتها وأصواتها وتأثيراتها إلى كل كبيرة وصغيرة في شؤون البلاد، ومن ثم العباد، بدءاً بالاقتصاد والأسعار وانقطاع الكهرباء، مروراً بالتعليم والمناهج وإدارة الاختبارات والطب والمرض والمستشفيات، وانتهاءً بالفن والفنانين والأعمال الدرامية وما يمكن مشاهدته وما يعتبر متابعته إثماً، فإنه على ما يبدو ما زال في الساحة متسع للدعاة الجدد، أو من يتصورون أنهم كذلك، أو من ينصبهم المصريون في هذه الخانة.
وهنا، تجدر الإشارة إلى ما ذكره الكاتب الصحافي وائل لطفي في كتابه "الدعاة الجدد"، وكيف أن ظهور النمط الجديد (الذي بات قديماً) منهم في التسعينيات كان لافتاً، إذ لم ينتموا كما جرت العادة إلى الأزهر الشريف، دراسةً ومظهراً، ولا لدعاة السلفيين بمظهرهم المميز ولغتهم المتفردة، ولا بالخطاب المعتاد من الزجر والتخويف والتركيز على أن الغاية الوحيدة من عمل الإنسان هي النجاة من النار.
ولفت لطفي إلى أن هذه الموجة من الدعاة الجدد كانوا مهنيين (يعملون في مهن عادية لا صلة للدين بها)، وأشخاصاً عاديين اكتسبوا ثقافة دينية من دروس البيوت وحلقات المساجد. يرتدون ملابس كتلك التي يرتديها الجمهور الذي يتابعهم، يتحدثون بالعامية المصرية البسيطة، أو باللغة البيضاء التي تمزج الفصحى بالعامية.
حمل كتاب لطفي، إضافة إلى تفنيد الظاهرة، التي كان أبرز رموزها أشخاص أثاروا الجدل، وما زالوا، مثل عمرو خالد، أسئلة مثل: هل من شأن هؤلاء الدعاة أن يؤدوا إلى حركة إصلاح ديني حقيقي تتجاوز حداثة الشكل إلى حداثة المضمون؟ وهو ما لم يحدث، بل حدث العكس. هل يظل الدعاة الجدد مجرد تغيير شكلي أهدافه تجارية استهلاكية وأبرزها تحويل الخطاب الديني إلى منتج تجاري يولد أرباحاً؟ وهو ما حدث، هل يقتدي بالدور الإيجابي الذي لعبته البروتستانتية عبر وعاظها التلفزيونيين في تحقيق تراكم رأسمالي وتشجيع على قيمتي العمل والنجاح؟ وهو ما لم يحدث، هل يخدم الدعاة الجدد فكرة الديمقراطية أم تخصم منها؟ وعلى الأرجح خصمت كثيراً ويكفي المساهمة في تعطيل العقل وتطرف الفكر وانغلاق الأفق، هل يسهم الدعاة الجدد في بناء مجتمع عصري حديث؟ أم يسهم في بلورة وتدريب جمهور أهل بالدولة الدينية، ونشر ثقافة سلفية اتكالية غيبية تلعب فيها دروسهم دور المدرسة الابتدائية للتطرف؟
فرعون "الملعون"
وتزامناً مع "قطايف" سامح حسين خرجت "الأستاذة" فدوى مواهب لتدق مجدداً أبواب التدين وتستنفر مشاعر المتدينين وتنقذ العباد، كما تفكَّه البعض، من عبادة الأصنام وتحمي البلاد من الوقوع في براثن الكفر والإلحاد.
وعلى رغم أنها تدق بين الحين والآخر، تارة عبر درس في مدرسة إنترناشيونال تتحدث فيه مازجة العربية بالإنجليزية عن حُرمانية ظهور الطفلة أمام والدتها وهي ترتدي "الشورت" القصير، وأخرى في مدرسة إنترناشيونال أخرى وهي تنبه الأطفال إلى ضرورة إغلاق باب الحمام بعد دخولهم، وإلا دخلت معهم الشياطين، وثالثة وهي تؤكد أن من يقول كلمة "لا" لن يدخل الجنة، ورابعة وهي تلقن الصغار في محفل إنترناشيونال أيضاً قواعد قضاء الحاجة في الحمام، وغيرها كثير مما يثير غضب البعض، ويتسبب في فرح وتهليل ومباركة البعض الآخر، فإن الدقة هذه المرة شبهها البعض بـ"الكنافة" لفرط تداخل تفاصيلها المريب وتشابك أفكارها بصورة عجيبة.
نشرت مواهب فيديو أو "ستوري" على صفحتها على منصة "إنستغرام" وجد فيه البعض تطابقاً مع فكر مشايخ متطرفين ظهروا في أعقاب أحداث عام 2011 يفتون بحُرمانية الآثار المصرية القديمة، وأن التماثيل العظيمة، التي لم يرَ فيها سوى أشخاص عُراة "كفر"، وأن الحضارة المصرية القديمة "عفنة"، لأنها لم تتبع الشريعة الإسلامية.
وبينما مصر تستعد لافتتاح مهيب للمتحف المصري الكبير وتعلق آمالاً عريضة على السياحة والزيارة والترويج للحضارة المصرية القديمة، إذ بمخرجة الحفلات والإعلانات والفيديو كليب (سابقاً) الداعية "الإنترناشيونال" حالياً، صاحبة بوتيك ملابس محجبات، ومصاحبة السيدات في رحلات العمرة "بمذاق مختلف" تصنع فيديو من داخل المتحف، وكأنه يحذر من زيارته لخطر الوقوع في غياهب عبادة الأصنام والشرك بالله.
تقف مواهب أمام تمثال عملاق للملك رمسيس الثاني في "البهو العظيم" وترفقه بالآية القرآنية "وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد"، وتتجول لتظهر تماثيل ملوك مصر القديمة، بينما آيات من القرآن تُتلى عن "فرعون الملعون"، وكأنها تقصد به ملوك مصر. واتهمها البعض أنها لبَّت دعوة إلى السحور في المتحف، لتخرج وهي تروج لروايات الإسرائيليات من أن رمسيس الثاني هو فرعون موسى.
وعلى غير عادة مواهب التي تزداد تشدداً في دروسها الدينية للصغار في المدارس الخاصة كلما اشتدت موجات انتقادها والتحذير من دورها في نشر التطرف بين الصغار، وردودها التي يصفها البعض بـ"الاستفزازية" و"العنيدة"، التي تؤكد أنها تنطق بالمعنى الحق في الدين، فقد بادرت إلى نشر "توضيح" بأنها لم تكن تقصد أياً مما قيل من قبل البعض عن تشويه الحضارة المصرية، فقط أرادت أن تذكر أن سيدنا موسى كان في مصر.
اللافت أنه حتى في هذا الفيديو المثير للغط وجدت "الداعية" مواهب من يدافع عنها وينصفها من المتابعين اللاهثين وراء كل من يتحدث بـ"قال الله" و"قال الرسول" بغض النظر عما يقول أو ما يقصد أو إن كان يتحدث بعلم أو من دونه أو بأشباه علم.
ومن "قطايف" و"كنافة" مواهب يستمر آخرون في ملء ما يبدو أنه طلب السوق للدعاة، أو من يقومون بمهام الدعاة دون أن يحملوا لقب "داعٍ". ما زال أستاذ طب الحالات الحرجة حسام موافي يتفنن في مزج الكوليسترول بالدعاء، والأوكسجين بالأحاديث النبوية، وأمراض القلب بصلاة الفجر، والمعجزة النبوية في ارتفاع ضغط الدم وغيرها من تداخلات الطب والطعام والصيام والأمراض والدين. وما زالت الملايين تعده داعياً طبياً أو نابغة دينية أو مزيجاً من كليهما، حيث الخلطة السحرية السرية ذائعة الصيت.
الطلب على الدعاة
الطلب على الدعاة أو كل من يتحدث باسم الدين كبير ومتصاعد في المجتمع المصري. وكلما هدأت فورة داعية جديد، أو ظن البعض أن المجتمع صار متشبعاً حتى الثمالة بأفكار وتفسيرات وفتاوى يصفها البعض بالتشدد والرجعية، يظهر وجه جديد، فتفتح أمامه الأبواب والنوافذ والمداخل.
وعلى رغم الوفرة التي تصل أحياناً إلى حد التخمة من المنتج الديني الصادر من المؤسسات الدينية الرسمية متمثلاً في محتوى مكتوب ومرئي ومسموع ودروس دينية وفقرات يومية وفتاوى في برامج وعلى الأثير وعبر الهاتف وفي المواقع، وأحياناً أكشاك في محطات المواصلات العامة، وكذلك رحلات أئمة ووعاظ للساحل الشمالي في مناسبة الصيف والإجازات ومحاضرات فقهية في المناسبات الثقافية ودروس دينية في مراكز الشباب والنوادي الاجتماعية، ناهيك بمبادرة عودة الكتاتيب وإضافة الدين إلى المجموع، فإن الطلب على من يتحدث باسم الدين لا ينضب، وكل داعية جديد يتحدث كل مرة عن الدين وكأنها أول مرة.
وفي كل مرة يعترض فيها أو يعارض أحدهم الإصرار الشعبي والصمت الرسمي على تخصيص الجُل الأعظم من الأثير والوقت والجهد والفكر لإعادة تدوير التدين، مرة بدعاة متشددين، وأخرى بدعاة رسميين، وثالثة بدعاة جدد يرتدون البدل والجينز والتيشريت، ورابعة بدعاة فنانين وأطباء ومحاسبين وحرفيين يواجه الاتهام بكراهية الدين ومعاداة المتدينين والرغبة في نشر الانحلال والانفلات.
الباحث نبيل عبدالفتاح حذر قبل سنوات من الإصرار على تصدير دعاة جدد بين الحين والآخر، مهمتهم خلق سوق وصناعة سلعة دينية تختلف تماماً عن الدين، وهو ما سيسهم في إعادة مفهوم جديد عن الدين، وتوفير بيئة مواتية لمتطرفين دينيين وتيار متشدد يعصف بالمجتمع.
نظريات اجتماعية ونفسية عدة تفسر اللجوء الجماعي إلى صور متشددة من التفسيرات الدينية بين تنامي الشعور العام بالتوتر والقلق وانتشار عدم اليقين فيما يختص بالمستقبل وتواتر الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وقلة الفرص المتاحة والشعور بعدم الرضا واللجوء إلى التفسيرات الدينية الأكثر تشدداً، وكذلك تلك المغرقة في الغيبيات وغير القابلة أو القادرة أو الراغبة في تقديم شروح منطقية كعلاج نفسي مقصود كلما شحت العلاجات المادية، تخرج نتائج البحوث والدراسات.
في مقال عنوانه "سيكولوجية الدين: لماذا يتدين أشخاص أكثر من غيرهم؟" منشور على موقع "سيكولوجي توداي" يحدد المؤلف أستاذ علم النفس آندي تيكس بثلاثة افتراضات: الأول جيني، إذ يقول إن أطباء وعلماء نفس أجمعوا على أن بين 30 و50 في المئة من الاختلافات بين الأفراد في درجة التدين تعزى إلى عوامل وراثية تتعلق بالسمات الشخصية التي تؤثر في الدين، مثل الانفتاح والميل إلى التساؤل والشك من عدمه. والافتراض الثاني هو الشعور بأن الشخص فاقد السيطرة على حياته، مما يدفعه إلى البحث عن حائط يحميه من هذا الشعور بالضعف. والثالث هو تركيبة وميول الجماعات التي ننتمي إليها أو المجتمع الذي نعيش فيه، بدءاً من الأسرة، مروراً بالمجتمع الصغير، وانتهاءً بالثقافة العامة السائدة.
وهنا يشير تيكس إلى دراسة ميدانية أجريت قبل سنوات في ثلاث دول هي: أميركا ومصر والسويد. وكان السؤال موضوع الدراسة هو: هل الدين جزء مهم في حياتك اليومية؟ وجاءت الإجابة "نعم" من قبل 16 في المئة من السويديين، و66 في المئة من الأميركيين، و99 في المئة من المصريين.
وربما هذا يعضد المقولة الشعبية بأن "المصريين متدينون بالفطرة"، أو متدينون بحكم الانتماء إلى بيئة أسرية وثقافية واجتماعية وسياسية داعية إلى التدين، أو في الأقل مشجعة على قدر من التدين المتجدد، ولو كان ذلك على يد دعاة متشددين مرة، ورسميين مرة، وفنانين ومحاسبين وأطباء ومخرجي فيديو كليبات مرة.