ملخص
بينما يناور بوتين لكسب الوقت وتعزيز مكاسبه، يسعى ترمب لإبرام صفقة توقف الحرب في أوكرانيا، لكنه يبدو متسرعاً ومستعداً لتقديم تنازلات كبيرة. مع إدراك بوتين رغبة ترمب الجامحة في تحقيق "نصر"، يستخدم تكتيكاته المعتادة، ما قد يؤدي إلى صفقة بائسة لأوكرانيا أو إلى تصعيد غير متوقع إذا شعر ترمب بالإذلال.
لم يسبق أن اتهم أحد دونالد ترمب يوماً بعدم الثقة بنفسه. وربما ساعده ذلك في حياته، بل ومكنه من التغلب على نقاط ضعف في شخصيته كان من الممكن أن تمنعه من أن يصبح مليارديراً ورئيساً للولايات المتحدة، وهو ما حدث بالفعل.
لقد كتب - أو بالأحرى كتب له - كتاباً عن هذا الأمر بعنوان "فن الصفقة" (وقد كان كاتبه الخفي هو من ابتكر العنوان أيضاً). ونحن لا نتوقف عن سماع الحديث عنه.
من المحتمل أن فلاديمير بوتين لم يقرأ مذكرات ترمب الشهيرة لعام 1987 عن الأعمال التجارية، أو أي من أعماله الأخرى، بما في ذلك "اضرب بقوة وفكر على نطاق واسع" Think Big and Kick Ass، أو "كيف تصبح غنياً" How to Get Rich، أو حتى الكتاب الذي حمل عنواناً أكثر تواضعاً "لمسة ميداس" Midas Touch. لكن الرجل السابق في جهاز الاستخبارات السوفياتية و"القيصر" العصري قد حقق لنفسه نجاحاً جيداً أيضاً. فهل هو على وشك إعطاء ترمب درساً متقدماً في فن إبرام الصفقات على الطريقة الروسية؟
في الوقت الحالي، من الواضح أن الرئيس بوتين يناور لكسب الوقت، ليس أقله لمنح قواته ما يكفي من الوقت لتحقيق مزيد من المكاسب على الأرض، قبل أن يُجمد خط وقف إطلاق النار، الذي يبدو أنه أمر حتمي. أحد مبعوثي الرئيس ترمب، ستيف ويتكوف، وجد نفسه ينتظر طويلاً في موسكو، بينما كان الرئيس بوتين يلقي نظرة أولى على الصفقة المقترحة، والتي، وفقاً لمعايير بوتين، تحتاج إلى "دراسة دقيقة ومضنية من كلا الجانبين". والآن، يعود ويتكوف إلى واشنطن حاملاً رد بوتين غير الحاسم ومطالبه الصارمة بتجريد أوكرانيا من قدراتها. أما مبعوث السلام الأميركي الآخر، كيث كيلوغ، المغلوب على أمره، فقد أُبعد تماماً عن الكرملين، وهو أمر عادة ما يتسبب بإغضاب الرئيس ترمب بشدة.
لقد استخدم بوتين خدعة تفاوضية دبلوماسية بارعة كعادته: الموافقة مع ترمب "من حيث المبدأ"، بينما معارضته على أرض الواقع.
وكعادته، قال الرئيس بوتين بمراوغته المعتادة: "إن فكرة [وقف إطلاق النار] جيدة، ونحن ندعمها بشكل تام، لكن هناك قضايا نحتاج إلى مناقشتها والتفاوض في شأنها مع زملائنا الأميركيين، وربما مناقشة الموضوع في اتصال هاتفي مع الرئيس ترمب".
يقول الرئيس الروسي أيضاً إن وقف إطلاق النار الذي تم التوافق عليه بالفعل بين أميركا وأوكرانيا "يجب أن يؤدي إلى سلام دائم، ويجب أن يؤدي ذلك السلام إلى إزالة الأسباب الجذرية لهذه الأزمة". يا له من تصريح جريء! فتلك "الأسباب الجذرية" المزعومة، تعود إلى حقبة انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، والتي يعدها بوتين مأساة تاريخية كبرى، وحتى إنها تطاول مفهوم فكرة الدولة الأوكرانية كدولة شرعية مستقلة. وإذا كان السبب الجذري هو مسألة تفكك آخر إمبراطورية روسية، والحريات التي فازت بها بولندا، وألمانيا الشرقية، ورومانيا، ودول البلطيق، وأوكرانيا، وجورجيا، وغيرها من الدول، فإن معالجة ذلك الأمر، وإخراج تلك الدول جميعها من حلف الـ"ناتو"، سيستغرق وقتاً أطول مما يتصوره الرئيس ترمب.
إضافة إلى ذلك وبمفعول فوري، يطالب الرئيس بوتين أن تقوم أوكرانيا بتقليص قدراتها العسكرية جزئياً خلال فترة وقف إطلاق النار التي تستمر لمدة شهر، حين قال "نريد ضمانات بأن أوكرانيا لن تقوم بالتعبئة العسكرية، أو بإجراء تدريبات، أو بتلقي أسلحة خلال فترة الـ30 يوماً من وقف إطلاق النار". كل ما يريده دونالد من فلاديمير في هذه المرحلة هو ببساطة "دا" [أي أنا موافق بالروسية].
ولكن ومع ذلك وبالنظر إلى تصريحاته المتشددة المتوقعة، من الواضح أن الرئيس بوتين ليس لديه أي نية للموافقة على وقف سريع لإطلاق النار. كان يفترض أن تكون الصفقة التي نجح الرئيس ترمب في إكراه الرئيس فولوديمير زيلينسكي للموافقة عليها جيدة جداً إلى درجة أن بوتين كان ليضحي بقطع ذراعه من أجلها. ولكن بدلاً من ذلك، سلم ترمب جميع الأوراق الرابحة التي كانت بحوزة أميركا إلى الكرملين.
يدرك بوتين أن ترمب مستعجل جداً للوصول إلى صفقة، وهو سيقبل بأي شيء تقريباً للوفاء بوعده (الذي تأخر تحقيقه)، بأنه يمكنه إنهاء الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة، حتى قبل توليه مقاليد الحكم رسمياً. كذلك يعلم بوتين أن ترمب لن يقدم ضمانة أمنية لأوكرانيا، وأنه يريد وقف إرسال الأسلحة الأميركية الباهظة الثمن إليها. كذلك فإنه كان قد سمع ترمب يقول إنه لا يعتقد أن بوتين سيغزو أوكرانيا مرة جديدة، أو أي دولة أخرى.
كذلك فإن ترمب لم يخف رغبته أنه يود عقد قمة بين الثلاثة الكبار الجدد [المؤثرين] في العلاقات الدولية ـ قمة بين كل من الرؤساء شي وبوتين وترمب، إذ يمكنهم تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ في ما بينهم. وهو لن يسمح لأي أمر له علاقة بأوكرانيا في الوقوف في طريق ذلك. وصف ترمب الرئيس زيلينسكي بالديكتاتور، وقال إن أوكرانيا هي التي بدأت الحرب، متبنياً بالكامل سردية الكرملين في القضية.
على رغم أن بوتين وبلاده في موقف ضعيف للغاية مقارنة بأميركا، يبدو أن ترمب قد نسي تماماً مدى قوته. لذلك فإن بوتين يعرف قوة موقفه التفاوضي (غير المستحق)، ويعلم أن في إمكانه التلاعب بالرئيس ترمب وجعله ينتظر. إنها عملية صد مهينة. إذاً لا صفقة؟ الأمر يتوقف على الظروف.
قد يكون ترمب مستعداً، إلى حد كبير، لقبول شروط بوتين، وتقطيع أوصال أوكرانيا وتركها تحت رحمة روسيا، وبذلك يتوقف القتال، ويعود "السلام"، ولو بشكل زائف. ستكون صفقة بائسة لأوكرانيا، وللولايات المتحدة، وللعالم. لكن ترمب سيتمكن من إعلان النصر والمضي قدماً، وهو مطمئن إلى أن قاعدته من أنصار "اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً" لا تكترث بمصير أوروبا.
كان من المفترض أن يدرك ترمب مدى إذلال مثل هذه النهاية، لكنه بدلاً من ذلك سيقدم نفسه على أنه الفائز الطبيعي بجائزة نوبل للسلام هذا العام.
أو... قد يبالغ بوتين في تقدير قوته، ويدفع زيلينسكي إلى رفض الصفقة، مما يضع ترمب في موقف صعب للغاية، لدرجة أنه قد يقرر دعم أوكرانيا وتسليحها لإجبار بوتين على القبول بشروط معقولة. من الواضح أن هذا السيناريو أقل احتمالاً، لكننا جميعاً نعلم أن ترمب مزاجي ومندفع، وعرضة لنوبات الغضب. لقد أطلق بعض التهديدات الضمنية حول ما قد يحدث إذا رفض بوتين صفقته، فهو بالتأكيد لا يريد أن يظهر بمظهر المهزوم، حتى على يد خصم محترم مثل بوتين.
سنرى قريباً ما إذا كان ترمب يمتلك بالفعل "لمسة ميداس"، وقادراً على إبرام صفقة القرن... أم أنه على وشك أن يتلقى صفعة قاسية من الرئيس بوتين، الأكثر برودة ودهاءً في حساباته. هذه المرة، هناك ما هو أكبر بكثير من مجرد غرور ترمب على المحك.
© The Independent