Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مات الحويني فاختصم الخلق... شماتة وشتائم وتكفير

آراؤه الفقهية المتطرفة تلاحقه وتياران شعبيان يتناطحان بين كثرة تكفر من يطالب بإعادة النظر في أفكاره وأقلية ترى رحيله فرصة للمراجعة ووقف المد السلفي بالمجتمع

يعد الحويني أحد أبرز الأعمدة التي قام عليها مبدأ خلط الدين بالدولة (صفحة الحويني على فيسبوك)

ملخص

جاء رحيل الحويني بمثابة تذكرة بما فعله هذا التيار بالمجتمع المصري، وما نجم عنه من آثار على جيلين على الأقل من المصريين. خطاب مشايخ السلفية، وبينهم، وربما على رأسهم الحويني، أضفى ألواناً مستجدة على المجتمع المصري. هذه الألوان تعبر عن نفسها بشكل واضح وصريح، وأحياناً فج، منذ انتشر خبر الوفاة

ما هي إلا دقائق معدودة من انتشار خبر وفاة (الشيخ) أبو إسحاق الحويني في قطر، حتى اشتعلت النيران في أثير الـ"سوشيال ميديا"، وقبلها في قلوب وعقول مريديه وألتراس مؤيديه ومن يعتبرونه آية الله على الأرض ومندوب النبي (ص) بين المسلمين، وعالماً قلّما تجود به أمة الإسلام والمسلمين، وذلك "لرحيله بالجسد وبقائه بالروح والعلم والفقه والتفسير والأحكام وأسلوب حياة الملايين"، كما لخص أحد مريديه أثر الرجل في الجماهير الغفيرة.

نيران مشابهة تملّكت في الوقت نفسه قلوب وعقول فريق آخر ضمن الجماهير الغفيرة، لكنه تملك من نوع مغاير. تملكت سلسلة ذكريات دعوة (الشيخ العلامة) لاستعادة سوق النخاسة، وتقوية شوكة المسلمين، واستعادة قوتهم الاقتصادية بسلب أموال الكفار وسبي النساء، وحرمانية عمل المرأة والتعامل مع البنوك ومشاهدة مباريات كرة القدم والمحاماة، وقوله إن "وجه المرأة كفرجها"، وإن "كمال المرأة في اعوجاجها".

وبالطبع تكفير المسيحيين وتحريم تهنئتهم بالأعياد، وإن كان سمح بإلقاء تحية "صباح الخير" أو "صباح الفل" عليهم في الطريق، لكن اشترط عدم توجيه تحية المسلمين (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) عليهم، وغيرها الكثير مما أدلى به الحويني، وترك أثره محفوراً مغروساً في المجتمع، وأسهم في الدفع بقطاع من المصريين إلى خانة التطرف والتشدد والتعصب، والإبقاء عليهم فيها تحت شعار "الدين والتدين".

ولولا الأحداث التي اشتعلت في غزة في ليلة رحيل "الشيخ"، لكان ما كشف عنه الرحيل حديث الصباح والمساء من دون منازع أو منافس.

ألتراس الحويني

ولأن الحويني أحد أبرز الأعمدة التي قام عليها مبدأ خلط الدين بالدولة، والدين بالحياة العامة، والدين بالحياة الشخصية، والدين بالمرأة، والدين بالحكم، والدين بالمحكومين، والدين في النفس الذي يتنفسه الشخص شهيقاً أو زفيراً أو حتى في حالة احتباس النفس بين الشهيق والزفير، ولأنه لم يدرس الدين أو يتخصص في الشرع أو يتخرج في الأزهر أو تعترف به المؤسسات الدينية الرسمية عالماً أو فقيهاً أو داعية أو حتى محاضراً دينياً، ولأنه خريج ألسن إسباني، ولأنه ظل ممنوعاً من الخطابة في المساجد التابعة لوزارة الأوقاف المصرية بعد صحوة المؤسسات الرسمية الدينية وإغلاق ينابيع ما يطلق عليهم بـ"مشايخ التطرف ودعاة التعصب والكراهية"، لكن من منطلق عدم السماح إلا بخريجي الأزهر الشريف لاعتلاء المنابر، وأن الحويني يرمز إلى طرفي نقيض في المجتمع المصري الحديث، فقد أصبح حديث الجميع بين محب ومندد ومذكر بأنه حان وقت المراجعة.

ولولا الحرمانية والكراهة والخوف من الاتهامات الدينية، لجاهر البعض بما يتداولونه من تعجب واندهاش لما يدور بين مريدي "الشيخ" جراء صدمة الرحيل. "وكأن نبياً قد مات أو قديساً رحل". مصدومون ومكلومون وحزانى يملأون أثير "الشيخ" نواحاً وعويلاً. "أفيكم أحد من أهل مصر؟ قالوا نعم. قال ما فعل أبو إسحاق الحويني؟ قالوا مات"، "يجب أن يأتي جثمان شيخنا العلامة إلى مصر، ستكون هذه نقطة فاصلة في التاريخ، جنازة الشيخ وقبره يجب أن يكونا في موطنه، نصرة للسنة، وشفاءً لصدور ملايين المصريين"، "رحل صاحب أكبر تأثير في علم الحديث في العصر الحديث"، "رحل من غير مصر من بلاد كفر وعلمانية وبعد عن الدين وأعادها إلى العلم الشرعي، وجعل أبناءها حراساً للعقيدة، وبسببه انتشر النقاب بفضل الله بين نساء مصر وفتياتها، وعزاؤنا إنه رحل تاركاً الملايين من الشباب يعتنقون فكره ومنهجه".

 

ولعل أكثر ما كتب دراماتيكية من قبل أتباع "الشيخ" ومريديه "رؤيا" رآها أحدهم: "رأيت النبي (ص) مُتربّعاً ومُسنِداً ظهره إلى جدار، وفي حضنه طفل رضيع، فنظرت فإذا هو الشيخ الحويني رحمه الله، ثمّ نظرت أخرى، فإذا بالطفل لم يزل يكبر، وهو في حضن النبي وبين يديه حتى رأيته على هيئته التي نعرفها اليوم".

موقع "الشيخ" والمواقع القريبة والنصيرة والداعمة والمؤيدة، وآلاف الصفحات التي حولها أصحابها من "ألتراس" الموالين له تحوّلت عقب الإعلان عن رحيله إلى ساحة تختلط فيها حروب لفظية عنيفة مع مشاعر فقد وحزن عميقة على "أبرز علماء الأمة".

"أبرز علماء الأمة" هو في نظر جانب من الأمة أبرز من ضيّع الأمة، وأمعن في الإبقاء عليها في خانة الماضي السحيق، وبذل الغالي والرخيص من أجل تحويل مصر، وما تيسر من دول، إلى مصرستان متطرفة متعصبة كارهة الآخر ليس فقط غير المسلمين، لكن المسلمين من غير أتباع نهج الحويني.

قصة الصعود

قصة الحويني تشبه كل قصص صعود "دعاة" و"مشايخ" السلفية بدرجاتها، وهي رحلة الصعود التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، واستمرت بين صعود مستمر وجهود سيطرة أو توقيف بسيطة وغير جادة، ومستمرة حتى اليوم بعد تغلغلها في دماء الكثيرين. هي قصة رجل قرر أن يتحول من حياته العادية إلى "رجل دين"، لا بالدراسة والتخصص والحصول على إذن رسمي، بل بالحب والميل والهوى والكاريزما والقدرة على التأثير في الجماهير الغفيرة.

ولد (الشيخ) في عام 1956، واسمه حجازي محمد يوسف شريف في قرية حوين بمحافظة كفر الشيخ (شمال مصر). التحق بكلية الألسن قسم اللغة الإسبانية، وتفوق في دراسته، وحصل على بعثة طلابية إلى إسبانيا، لكنه لم يستمر فيها، وعاد لـ"طلب العلم الشرعي". لم يطلبه في الأزهر الشريف، بل طلبه عبر السفر لعدد من الدول العربية ليستمع إلى مشايخها المعروف عنهم في هذا الوقت "العلم الوفير والالتزام الشديد"، وفي قول آخر "التشدد الرهيب والانغلاق الشديد". وانتهج خريج الألسن نهج مشايخ السلفية في ذلك الوقت الذين يتخذون كنية لأنفسهم تختلف عن أسمائهم الأصلية. في البداية، اختار كنية "أبو الفضل"، ثم غيرها إلى "أبو إسحاق"، أما "الحويني" فيعود إلى اسم قريته "حوين".

تقول صفحته عن "علمه الديني"، إذ لم يحصل على شهادة فيها، إنه أظهر شغفاً كبيراً باللغة العربية والعلوم الشرعية، فترك الإسبانية، وتفرغ لـ"دراسة" علوم الحديث والتفسير والفقه. واختار أكثر "المشايخ" الذين عرفوا في الثمانينيات والتسعينيات بتشددهم الشديد وأصوليتهم المفرطة، فتتلمذ على أياديهم عبر الاستماع لهم. يقولون عنه إنه "تعلم أساليب الدعوة وفنون الخطابة" من الشيخ المثير للجدل عبد الحميد كشك.

 

وعاد الحويني إلى مصر لينطلق دعوة وخطابة ومحاضرة وفتاوى في مساجد مصر المختلفة، من دون ضابط قانوني أو رابط رسمي، وذلك على مدار سنوات طويلة، تمكّن خلالها من صناعة قاعدة جماهيرية تنجذب إلى هذا النوع من الخطاب الذي يمزج التشدد بالغلظة بالدين بعدم التسامح بالدعابة برفض الاختلاف ونبذه، مع دمج المرأة والحديث عن الشهوة والجنس والمتعة دائماً وأبداً، لكن بجلباب الدين.

هذه السطوة الدعوية لمشايخ السلفية تُرِكت ترتع في ربوع مصر على مدار سنوات طويلة. الباحث في شؤون الإسلام السياسي ماهر فرغلي أشار في مقال عنوانه "السلفيون في مصر يدخلون السياسة من بوابة ميدان التحرير" (2011) إلى "التوازن" المقصود الذي جرى اتباعه في عصر الرئيس السابق الراحل محمد حسني مبارك، والمتمثل في إطلاق يد السلفيين في مصر لعمل توازن مع حركة الإخوان المسلمين في الشارع، وقال إنه "سُمِح لهم بالتمدد في المجتمع لاعتقاد بأنهم أقل حدة، ولأنهم يعتمدون على خطاب يركز على المظاهر الدينية، ولا يركز على الفكرة بمجملها، ولأسباب قد تخدم النظام على المدى القصير".

ويذهب فرغلي إلى القول بأن الأثر على المدة الطويلة كان مختلفاً، إذ انفجرت آثار إطلاق يد السلفيين ومشايخهم، إذ أشاعوا مناخاً متشدداً جداً في العلاقة بين المسلمين وبعضهم، كما أشاعوا مناخاً من التشدد والتوتر تجاه غير المسلمين. مشيراً إلى عدم وجود تنظيم للانتشار السلفي، وهو ما أسهم في انتشار التيار بشكل كبير، وربما غير محسوس، لكنه ظل وضعاً غير طبيعي بسبب "الولاء والبراء" والانتماء لمشايخ بأعينهم.

يشار إلى أن من أبرز سلسلة خطب ومحاضرات ودروس الحويني سلسلة "الولاء والبراء" وأهمية ترسيخ هذه العقيدة في المجتمع المسلم.

هيمنة الرجعية

رحيل الحويني فتح أبواباً ظنّ كثيرون أنها مغلقة أو على الأقل مؤجلة. هيمنة خطاب الرجعية، وفي قول آخر الالتزام الشديد في المجتمع المصري حقيقة واقعة. وهي حقيقة لا يسمح الانشغال بالأوضاع الاقتصادية، أو الإغراق في الأحداث الإقليمية، أو الانشغال في أوقات الفراغ بالحراك على أثير السوشيال ميديا بالبحث فيه وقياس درجته والتكهن بمستقبله.

لذلك، جاء رحيل الحويني بمثابة تذكرة بما فعله هذا التيار بالمجتمع المصري، وما نجم عنه من آثار على جيلين على الأقل من المصريين. خطاب مشايخ السلفية، وبينهم، وربما على رأسهم الحويني، أضفى ألواناً مستجدة على المجتمع المصري. هذه الألوان تعبر عن نفسها بشكل واضح وصريح، وأحياناً فج، منذ انتشر خبر الوفاة.

على غير عادة المصريين الذين يميلون إلى رفع راية "له ما له، وعليه ما عليه" لدى تقييم شخصية مثيرة للجدل رحلت عن الدنيا، انبرى عدد لا بأس به من المصريين المتجرّعين "مرارة سلفنة المجتمع" على حد قول أحدهم، ليطالبوا بأن يكون رحيل الحويني فرصة لفتح دفاتر المد السلفي المسكوت عنه في مصر.

الكاتب الصحافي وائل لطفي، صاحب عدد من المؤلفات عن ظاهرة الدعاة الجدد في المجتمع المصري ما يسميهم "دعاة الاستعراض" و"دعاة السوبرماركت"، كتب "رحل الشيخ أبو إسحاق الحويني. ذهب للعمل في الخارج في السبعينيات فتحول من مترجم إلى داعية من دون دراسة أكاديمية، وعاد بملايين كثيرة غير معروفة المصدر، وظل سنوات طويلة ينشر أفكاراً معادية للمرأة وللفن وللمسيحيين. وكانت له نظرية تقول إن غزو المسلمين للدول الأخرى، وبيع نسائها سبايا في سوق الجواري يمكن أن يحل مشكلة الدول الإسلامية من دون أن يقول لنا كيف يمكن أن ننتصر في حروب تدار بالذكاء الاصطناعي بينما أمثاله هم قادة الأمة وصناع الأفكار فيها. رحمه الله وغفر له وحاسبه على ما اقترفه في حق الإسلام والمسلمين".

يمكن القول إن قلة من المصريين من الكتاب والمثقفين والمصنفين غير إسلاميين لم يتمكنوا من التغاضي عن "أثر" الحويني المستمر والمتنامي والمتصاعد في المجتمع المصري، وذلك في إطار طلب الرحمة على أن تتضمن الحساب أيضاً.

 

الكاتب أيمن السميري اعتبر الحويني ضمن المتسببين في "هكسسة" (من الهكسوس) مصر. وسرد (من وجهة نظره) ما جرى للشاب حجازي خريج الألسن ليصبح أبو إسحاق الحويني، "حلت روح جديدة في ملعب جديد بجماهير وحواضن المحافظة التقليدية في أرياف الدلتا ونجوع الصعيد، وفي الغلاف الشعبي للمدن الكبرى، والأطراف البدوية من السلوم ومطروح حتى الإسكندرية، في أكبر حصار فكري في التاريخ، ليكمل دعاة الجينز (الدعاة الجدد) مهمة الإطباق على الطبقة الوسطى والطبقة المخملية، بالطبعة الصحوية من إسلام السلام شوبينغ سنتر". (محل ملابس اشتهر في الثمانينيات ببيع ملابس للمحجبات بأسعار زهيدة تشجيعاً لنساء مصر على ارتداء الحجاب الذي لم يكن منتشراً حينذاك)

وأضاف السميري، "تبدّل عقل مصر الحضاري، وغامت مصر بثقافة الجهامة والتحريم، وشيطنة الأنثى، وتصحير الوجود الإنساني. تهكسست مصر، تهكسست العقول، وتهكسس الحاضر والجغرافيا"، "السلام والسكينة لروح الشاب حجازي محمد يوسف شريف. والسلام والسكينة لضحايا كل إسحاقي في كل زمان".

اللافت أن عدداً كبيراً من النساء من غير الواقعات تحت تأثير فكر أو جماعات أو فتاوى مشايخ السلفية أو موجة التديين المستمرة عبرن عن استيائهن مما فعله فكر الحويني ونهجه، وتطرقه المستمر للمرأة باعتبارها إما شيطان، أو وعاء لراحة الرجل الجنسية، أو رقماً عليه الإذعان والامتنان لفكر تعدد الزوجات.

الكاتب والطبيب خالد منتصر من جهته سلط الضوء على واقعة تعكس واقعاً لحجم المد السلفي في مصر. كتب أستاذ جامعي متخصص في الفلسفة، "مات شيخي وأستاذي ومعلمي وقدوتي الشيخ أبو إسحاق الحويني". كونه أستاذاً يدرس المواد الفلسفية للطلاب الجامعيين استوقف منتصر متسائلاً مستنكراً: "هل الحويني الذي تحدث عن إرضاع الكبير من الثدي هو معلمك؟ هل هو معلمك يا من تعلِّم الطلاب كانط ونيتشه وهيدغر، بينما شيخك أكد أن القرود رجمت القردة الزانية وأقاموا عليها حد الزنا؟ هل قدوتك من رأى الحل في مشكلاتنا الاقتصادية استعادة تجارة السبايا والجواري؟ هل هو نبراسك حين كفر الأقباط؟".

واختتم منتصر تدوينته الاستنكارية بقوله إن مشاعر أستاذ الفلسفة الشخصية تخصه وحده، أما منصبه فيخص الجميع ويخص الطلاب الذين يخشى عليهم أن يتشرّبوا بتلك الأفكار. مضيفاً أن "التسلف والتفلسف كلمتان حروفهما متشابهة، لكن أفكارهما لا يمكن أن تتشابه أو تتلاقى".

الشماتة للجميع

مثل هذه التوجهات المعادية لـ "الشيخ" وأفكاره السلفية التي انتشرت في ربوع مصر منذ قرر العمل بالدعوة والخطابة وشرح الدين، تقابل هذه الآونة بعنف لفظي شديد من قبل "ألتراس" المشايخ. تتعدد الردود بين الاتهام بالكفر، والوصم بالفسق، بل واعتبار كل من يشكك في "الشيخ" أو يطالب بمراجعة "تراثه" أو مطالبة طلاب علمه بتنقيح فكره المستمر في الانتشار والتأثير عبر السوشيال ميديا والمواقع الرقمية بأنه "كافر ملحد يجاهر بالمعصية ولا دية له"!.

وتجلت المواجهة بين الفريقين المتضادين بتدوينة كتبتها ابنة المفكر الراحل سيد القمني، الذي عرف بمعارضته الشديدة لتيارات الإسلام السياسي والتطرف والإرهاب باسم الدين. كتبت: "أخيراً كنت مستنياها (أنتظرها). الحمد لله الذي قطع أنفاسك. الحويني هلك (الوصف الذي يستخدمه الإسلاميون حين يموت أحد معارضيهم)، مستراح منه، لروحه السلام والمرج والعاشر (أسماء أحياء في القاهرة)".

وكما هو متوقع تماماً، احتشد "ألتراس" الشيخ الراحل وأمطروها سباباً وشتائم، ولم تخل القوائم من نعوت الكفر والفسق. وكان حاتم ابن الحويني قد كتب وقت وفاة القمني في السادس من فبراير (شباط) عام 2022: "ومات سيد القمني، فالحمد لله أن قطع أنفاسه فقد كان يستهزئ بدين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم".

الملاحظ أن التراشق بالفرحة في موت "عدو الدين" أو "مخرب مصر" ليس حكراً على "ألتراس" الحويني من جهة، ومن يعتبرون "الشيخ" الراحل أبرز من خرب مصر وفكر أهلها.

قنوات ومنصات ومؤسسات إعلامية اعتبرت رحيل الحويني نهاية مرحلة في الدعوة الإسلامية وخسارة فادحة للأمة، وأن عزاءها هو أن ملايين المصريين يحملون تعاليمه وفكره في قلوبهم وعقولهم ويورثونه لأبنائهم. وهذا تحديداً مربط فرس الفريق المضاد الذي يرى في إطباق المد السلفي، وفي القلب منه ما غرسه الحويني، سبباً رئيساً في التخلف عن ركب الحضارة الفكرية والمقاومة الشعبية للتطور والحداثة.

 

يقول الباحث في علم الاجتماع الديني عماد عبد الحافظ في ورقة عنوانها "الفكر السلفي وأثره في العقل المصري" (مارس 2025) إن آثار مد الفكر السلفي في المجتمع المصري لا تقتصر على من يتبعون فكر هذا الشيخ أو ذاك، لكنه ترك آثاره على أنماط تفكير وسلوك شريحة كبيرة تنتمي إلى طبقات اجتماعية مختلفة. وأضفى ذلك سمات على المجتمع لم تكن موجودة من قبل. أبرزها: النزعة الماضوية حيث واقع المجتمع الإسلامي الحالي بالنسبة لها بعيد من الإسلام الحقيقي، لذا يبدو أن أتباع هذا الفكر يسيرون عكس اتجاه التاريخ بحثاً عن الماضي. وهي ليست حنيناً إلى الماضي، لكنها مشروع فكري واجتماعي يسعى إلى تشكيل الحاضر بناء على رؤية محددة وضيقة للماضي".

ويشير عبد الحافظ إلى أن هذا المد وانتشاره يرتكز على صناعة الخوف، فهي ثقافة راسخة في العقل السلفي، وشديدة الارتباط بنزعته الماضوية. هذا الخوف يشكّل هوية الفرد، ويتم العمل على ترسيخها عن طريق الخطابة، ويكون الدين فيها مصدراً للخوف بدلاً من أن يكون مصدراً للأمن والطمأنينة والطاقة الروحية الإيجابية. وتقوم هذه الصناعة على ترسيخ معاني العذاب والنار مع تعزيز الشعور الفردي بالذنب والتقصير المستمر، وذلك بتقوية الفجوة المتخيلة بين النموذج المثالي للمجتمع الإسلامي الموجود في الماضي، وبين الواقع المعاش البعيد كل البعد من الهدف المرجو.

ويرى عبد الحافظ أن هذا الخوف المستمر والشعور بالذنب يجعل الشخص في حاجة دائمة ومستمرة إلى وسيط (الشيخ السلفي) بينه وبين ربه، يسأله عن أكثر الأشياء تفاهة، وينتظر منه الإجابة بفارغ الصبر عما إذا كانت حلالاً أم حراماً. وبذلك تتقوّى الرهبة من كل ما هو جديد أو مبدع أو يدعو للتفكير المستقل أو غير التقليدي الذي يشذ عن منهج "الشيخ".

وإضافة إلى زرع مبادئ ضعف الارتباط بالوطن، وإفقاد العقل قيمته، بل وتخويف الناس منه، يعتنق مشايخ هذا المد نظرة دونية للمرأة، فهي أصل الشرور ومصدر الغواية والفتنة، ومكانتها أقل من الرجل بحكم الفطرة والخلقة، والاعتراض على ذلك هو اعتراض على الدين. وبالطبع فإن حصولها على حقوق أو اكتسابها مكانة تقترب فيها من مكانة البشر فيها إضعاف للأمة وتقوية لشوكة المؤامرات الغربية لهدم الدين.

أمارات المد السلفي في المجتمع المصري كثيرة. رحيل الحويني لم يتسبب فيها، بل سلط الضوء عليها من دون قصد. التياران الشعبي الزاعق المعتمد على تكفير من يعترض وترويع من يطالب بالمراجعة باعتباره كافراً أو علمانياً (تستخدم للدلالة على الكفر والفسق)، والأقلية التي ترى في رحيل الحويني فرصة لهذه المراجعة يتناطحان حالياً على الأثير.

في تلك الأثناء، يتجاهل الفريق الشعبي، ألتراس "الشيخ"، "أسد السنة"، و"حارس العقيدة" اعتذاره قبل نحو خمس سنوات "عما بدر منه من آراء في مسائل شرعية". وقتها قال إنه لم يكن ينبغي أن ينشر آراءه في السنوات الأولى التي أمضاها "طالباً للعلم"، لكن "حظ النفس" هو ما دفعه لذلك، حيث "النشر شهوة. حين يكتب اسمك على كتاب والناس يتداولونه وتصبح معروفاً، إنها حظ النفس عندنا كلنا".

وقال الحويني وقتها في فيديو انتشر انتشاراً كبيراً: "كل سُنة كنا نعرفها نعتقد أنها واجبة، ولم نكن نعرف الفرق بين الواجب والمستحب، وإن هناك درجات في الأحكام. وعرفت أنه عندما لم ندر تدرج الأحكام، جنينا على الناس. لم نكن ندرى درجات الأحكام فأفسدنا كثيراً بحماسة الشباب".

الغريب أن هذه الكلمات التي كان يفترض أن تكشف الكثير من حقيقة المد السلفي، ليس فقط الذي تسبب فيه الحويني، بل أقرانه ممن هيمنوا على الفكر الشعبي المصري في العقود الأخيرة، كانت أشبه بزوبعة كاشفة في فنجان التشدد العميق. حازت اهتماماً إعلامياً في حينها، ثم تبخرت في هواء التشدد المجتمعي، واستمر "ألتراس" الشيخ على تشددهم وتطرفهم، وتوريث ما يحملون من أفكار متعصبة لصغارهم.

يشار إلى أن اسم الحويني ورد على لسان أحد المتهمين في ما يعرف بـ"قضية داعش إمبابة"، التي حُوكم فيها 12 متهماً قبل سنوات، وذلك باعتباره أحد المراجع العلمية لفكرهم "الجهادي" أو الإرهابي. ويشار أيضاً إلى أن الحويني رحل عن الدنيا في اليوم نفسه الذي رحل فيه البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية عام 2012. وتنسب تغريدة إلى ابن الحويني، الذي يسمي نفسه "الشيخ" أبو يوسف حاتم ابن إسحاق الحويني جاء فيها: "بشرى سارة لموت الأنبا شنودة اليوم. اللهم لك الحمد" وكررها ثلاث مرات.

الحويني الصغير

إرث الحويني الكبير استمر مع الحويني الصغير أيضاً في صولات وجولات أخرى مع المجتمع المصري، تحديداً معالمه المتبقية من عصر ما قبل المد السلفي. في عام 2021، طالب الحويني الصغير نقيب الممثلين المصري أشرف زكي بالتوبة عما وصفه بـ"الفن الهابط والساقط والسافل ومستنقع الفجور".

الغريب أن منصات إعلامية مصرية تعاملت مع وفاة الحويني وكأنها وفاة "عالم دين فذ"، و"أحد أركان الأمة الإسلامية"، وهي المنصات نفسها التي كانت تتبارى قبل سنوات قليلة، تحديداً في أعقاب أحداث 30 يونيو (حزيران) عام 2013 في سرد مصائب التيار السلفي، وما يحاك ضد مصر من قبل أنصار الفكر الديني المتطرف، وما حمله هؤلاء للمجتمع المصري مما سمّوه "كهنة الرجعية" و"أئمة التطرف".

اقرأ المزيد

من جهة أخرى، وفي خطوة مفاجئة، وفي بيان مباغت، وفي تحرك هلل له "ألتراس" الشيخ الراحل ومعهم كل أنصار ومحبي والمتعاطفين مع التيارات الإسلامية السياسية وكذلك السلفية بدرجاتها، وأغضب آخرين متعلقين بقشة مصر المدنية، أصدر الأزهر الشريف بياناً نعى فيه "أبا إسحاق الشيخ الحويني، الذي وافته المنية، بعد عمر ناهز 69 عاماً، سخَّر فيه وقتَه وجهدَه لخدمة السنة النبوية وعلومها".

الغريب أن "الشيخ" الراحل كثيراً ما وجّه اتهامات، بعضها بالغ القسوة، للأزهر الشريف وعلمائه. ووصل الأمر إلى اتهام عضو مجلس النواب وأستاذة الفتوى في جامعة الأزهر آمنة نصير له بـ"الجاهل"، وذلك لفتاواه عن تحريم عمل المرأة. قالت، وهي الأستاذة الأزهرية، "الحويني شخص جاهل ولا يجب أن نسمع فتاويه، وألا نرددها. فهو يتعمّد الظهور بفتاوى غريبة كلما طُفي نجمه الإعلامي ليعاود الظهور من جديد".

كما وجّه مستشار مفتي مصر والأمين العام لدور وهيئات الإفتاء إبراهيم نجم قبل سنوات قليلة أيضاً اتهامات واضحة للحويني الصغير بأنه "يسير على الدرب الذي رسمه له أبوه، ليكمل مسيرة الطعن والسب والغمز واللمز في علماء الأمة الإسلامية، وأن المسيرة التي بدأها الحويني الكبير، التي لم ينج منه الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة وجمهور علماء الأمة حتى شيخ الأزهر السابق وغيرهم، ويا سبحان الله وكأن سباب العلماء رسالة وميراث يتوارثها خلفهم عن سلفهم".

ووصف ما يقوله الحويني الصغير بأنه "يفوق أباه في تطاوله على علماء الأمة الإسلامية والمؤسسات الرسمية مستخدماً الكذب والتلفيق وتحريف الكلام واجتزاء العبارات حتى يتسنّى له تحقيق أكبر قدر من الإثارة والشهرة ولفت الأنظار".

وانتقد نجم نهج الشماتة الذي يتبعه الحويني الصغير في وفاة الآخرين، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، وزير الدولة للإنتاج الحربي الراحل محمد العصار، "الذي شمت في وفاته أشد الشماتة، بما لا يتناسب مع خلق أو دين".

مات الحويني، ويتفرغ "ألتراس" المريدين والتابعين لشتم وسب المنتقدين لنهجه والمطالبين بمراجعة أفكاره، والداعين إلى تقييم وتقييد المد السلفي الآخذ في التمدد في المجتمع المصري، باعتبارهم أعداء الدين. أما الشامتون، فهم أعداء الدين وخارجون عن الملة.

الطريف أن فريق "له ما له وعليه ما عليه" و"لا تجوز عليه الآن إلا الرحمة"، وجدوا أنفسهم في مرمى نيران ألتراس الحويني، متهمين إياهم بالطعن في "أسد الأمة" و"حارس العقيدة"، وكذلك من معارضي الأسد، ممن يعتبرونه "مخرب الأمة وهادم المجتمع، إذ إن الرحمة أمر إلهي، أم الحساب على ما اقترف الرجل وما ترك من ميراث يصفونه بـ"الانغلاق والجمود والكراهية والرجعية" فأمر دنيوي وحق مجتمعي.

المزيد من تحقيقات ومطولات