Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

طريقة أفضل للدفاع عن أميركا

زيادة عدد قواتها في نصف الكرة الغربي وتقليله في آسيا وأوروبا

 حاملة طائرات أميركية في بحر الصين الشرقي، نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 (رويترز)

ملخص

تواجه الولايات المتحدة تحولات في علاقاتها العسكرية مع حلفائها نتيجة تغير التوزيع الاقتصادي العالمي والتطورات التكنولوجية العسكرية، ما يفرض عليها إعادة هيكلة قواتها بعيداً من الانتشار التقليدي في أوروبا وآسيا نحو تمركز أكثر أماناً في نصف الكرة الغربي والفضاء.

تخوض الولايات المتحدة حالياً حواراً مكثفاً حول مستقبل علاقاتها مع حلفائها الأوروبيين والآسيويين، وهذا النقاش كان مليئاً بالعواطف، ويعود ذلك جزئياً لأنه طُرح باعتباره قصة أخلاقية، فمن جهة يجادل مؤيدو أجندة الرئيس الأميركي دونالد ترمب "أميركا أولاً" بأن الحلفاء لم يُظهروا الامتنان للدعم الأميركي، وبالتالي لا يستحقون حماية الولايات المتحدة، وهم يعتقدون أن هذه الدول لا تبذل جهداً كافياً للدفاع عن نفسها وربما لا تشارك الولايات المتحدة القيم نفسها، ومن جهة أخرى يؤكد المدافعون عن الهيكل التحالفي القائم أن على واشنطن أن تظل وفية لالتزاماتها وتقف إلى جانب الشعوب الباسلة في أوكرانيا وأوروبا ضد روسيا الانتقامية.

لكن الولايات المتحدة لم تصغِ موقفها العسكري العالمي الذي حافظت عليه منذ الحرب العالمية الثانية استناداً إلى قصة أخلاقية، فقد استندت إستراتيجية الاحتواء التي لا تزال تشكل الأساس للموقف الأميركي الحالي، إلى تقييم لكيفية حماية الولايات المتحدة لما تعتبره أكثر ما يهمها. والطريقة الأفضل لمعالجة الجدل الحالي هي التساؤل عما إذا كان التقييم الذي قاد إلى هذه الإستراتيجية لا يزال صالحاً اليوم كما كان قبل 75 عاماً، والجواب التجريبي على هذا السؤال هو لا، أما ما ينبغي أن تفعله الولايات المتحدة رداً على ذلك فهو محل نقاش، ولكن يجب أن تستند أفعالها إلى الواقع.

في الخمسينيات من القرن الـ 20 عندما أنشئ نظام التحالف الحالي كان توزيع القوة الاقتصادية في العالم يعني أن للولايات المتحدة مصلحة كبرى في الدفاع عن أوروبا واليابان، وكان على واشنطن نشر قواتها على تخوم مناطق نفوذ خصومها في أوراسيا لردع أية هجمات على حلفائها والدفاع عنهم في حال نشوب حرب. إن الموقف الدفاعي ليس إستراتيجية أو سياسة خارجية، ولكنه أساس القدرات العسكرية، وهو يخلق التزامات ملزمة. اُعتبر هذا الموقف العسكري والالتزامات المرتبطة به أموراً منطقية خلال الحرب الباردة نظراً إلى القيمة الاقتصادية التي حظيت بها أوروبا واليابان بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وقدرة واشنطن على نشر قواتها بأمان قرب قوات العدو.

لكن العالم تغير بصورة كبيرة منذ الحرب الباردة، فعلى رغم أن حصة الولايات المتحدة من إجمال الناتج المحلي العالمي لا تزال توازي تقريباً ما كانت عليه في عام 1990، أي 26 في المئة وفقاً لأسعار الصرف الحالية أو 17 في المئة بناء على تعادل القوة الشرائية، لكن حصة أوروبا واليابان معاً من الناتج المحلي الإجمالي العالمي قد انخفضت 50 في المئة، وعلاوة على ذلك، وبسبب انتشار الطائرات المسيرة القصيرة المدى وصواريخ الكروز والصواريخ الباليستية الدقيقة البعيدة المدى، أصبح من الصعب الآن على الولايات المتحدة الدفاع عن القواعد القريبة من خصومها ضد الهجمات غير النووية، وأخيراً فإن التهديدات الحالية التي تواجهها الولايات المتحدة لا تقتصر على الهجمات باستخدام الأسلحة النووية والتقليدية العابرة للقارات، بل تشمل أيضاً الحرب غير التقليدية باستخدام الأسلحة السيبرانية والطائرات المسيرة والأسلحة الكيماوية والبيولوجية، إضافة إلى الأساليب السرية مثل تخريب البنية التحتية الحيوية وتهديد الشخصيات البارزة.

هذه التغييرات في توزيع القوة الاقتصادية والتكنولوجيا العسكرية العالمية لا تعني أن حلفاء الولايات المتحدة فقدوا أهميتهم، ولا تعني أن الولايات المتحدة يجب أن تتخلى عن دورها العسكري العالمي، لكنها تعني أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تغيير أنواع القوات التي تمتلكها وطريقة نشرها وتشغيلها، سواء للدفاع عن أراضيها بصورة أفضل أو لتمكينها من ممارسة قوتها العسكرية في الخارج بحسب ما تراه ضرورياً، وعلى وجه التحديد سيتعين على واشنطن تشغيل مزيد من قواتها من نصف الكرة الغربي والفضاء، وستحتاج إلى تعزيز القدرة على الدفاع عن تلك القوات بصورة أفضل، فمن قواعدها الرئيسة داخل الولايات المتحدة وفي الفضاء، تستطيع القوات الأميركية الحفاظ على قدرتها على الوصول عالمياً لتنفيذ عمليات ضد الأعداء في آسيا وأوروبا، وقد أظهرت التجربة أن من المستحيل التنبؤ بالمكان الذي ستضطر الولايات المتحدة إلى القتال فيه، لذا فإن النهج العقلاني هو بناء قوات بعيدة المدى قادرة على التوجه إلى حيثما تدعو الحاجة، كما يجب على واشنطن بناء قوات يمكن نشرها بسرعة قرب الأعداء وتكون قادرة على الصمود أمام الهجمات.

هذا الوضع الجديد في نصف الكرة الغربي سيمكن الولايات المتحدة من حماية نفسها بالكامل ضد التهديدات الناشئة، والحفاظ على تفوقها القسري مقارنة بخصومها، مع السماح لقواتها بتوجيه الضربات إلى أهداف في جميع أنحاء العالم، وسيتطلب الانتقال إلى هذا الوضع أن يكون تدرجياً، وربما يستلزم بناء علاقات مع شركاء جدد مثل فنلندا والسويد، وإعادة بناء العلاقات مع شركاء قدامى مثل اليابان والفيليبين، لكن الدفاع عن الولايات المتحدة سيعتمد في النهاية على القوات المتمركزة داخل أراضيها وفي مدار الأرض [الفضاء المحيط بالأرض حيث تعمل الأقمار الاصطناعية والأصول العسكرية].

 التحولات الاقتصادية في ميزان القوة

منذ منتصف القرن الـ 20 كان الافتراض الرئيس لدى إستراتيجيي الدفاع الأميركيين هو أن أوراسيا تضم ​​مراكز متعددة للقوة الصناعية، ففي عام 1947 أكد الدبلوماسي الأميركي جورج كينان صراحة أن هناك خمسة مراكز للقوة الصناعية في العالم، وهي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا الغربية والاتحاد السوفياتي واليابان، وخلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الـ 20، وهي الفترة التي بدأ فيها كينان حياته المهنية، أشارت التقديرات التقريبية إلى أن حصة أوروبا الغربية من إجمال الناتج المحلي العالمي بلغت حوالى 30 في المئة، ووفقاً لهذا المنطق فإن أي عدو أوراسي يسيطر على أحد مراكز القوة الصناعية الأخرى قد يُعرض الولايات المتحدة للخطر، ولذلك كانت أوروبا واليابان بطبيعة الحال محور التركيز الرئيس للتموضع العسكري الأميركي [الموقف الدفاعي الأميركي] بعد الحرب العالمية الثانية.

لكن الأهمية الاقتصادية لأوروبا قد تضاءلت، ففي عام 1988 أجرت شخصيتان بارزتان في الدراسات الإستراتيجية وهما أندرو مارشال وتشارلز وولف دراسة حول "بيئة الأمن المستقبلية" لتقييم الاتجاهات الجيوسياسية الحالية والناشئة التي تؤثر في أولويات الدفاع، وقد أشارت هذه الدراسة إلى أن المجتمع الأوروبي يمثل حوالى 25 في المئة من إجمال الناتج المحلي العالمي، وتوقعت أن تنخفض هذه الحصة بصورة طفيفة وحسب لتصل إلى حوالى 22 في المئة بحلول عام 2010، وعلى نحو مماثل توقعت الدراسة أن حصة اليابان من إجمال الناتج المحلي العالمي التي بلغت حوالى 13 في المئة عام 1988، ستظل ثابتة حتى عام 2010، وقدّرت الدراسة أن حصة أوروبا واليابان معاً ستبقى ثابتة تقريباً عند حوالى ثلث إجمال الناتج المحلي العالمي.

لكن الواقع اتخذ مساراً مختلفاً عن هذه التوقعات، فوفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي التي تستخدم أسعار الصرف القائمة على تعادل القوة الشرائية، كما فعلت الدراسة، انخفضت حصة الاتحاد الأوروبي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2024 إلى 14 في المئة من إجمال الناتج المحلي العالمي، وهي نسبة أقل بكثير من نسبة 22 في المئة التي توقعتها الدراسة لعام 2010، وكان أداء اليابان أسوأ، فقد شهد اقتصادها طفرة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات فارتفعت حصتها من إجمال الناتج المحلي العالمي بسرعة وبلغت ذروتها عند حوالى 14 في المئة منتصف التسعينيات، لكنها منذ ذلك الحين شهدت انخفاضاً مطرداً حتى وصلت عام 2024 إلى ما لا يزيد على ثلاثة في المئة.

 

وبعبارة أخرى، تراجعت القوة الاقتصادية النسبية لاثنين من المراكز الصناعية الخمسة التقليدية منذ نهاية الحرب الباردة، وهما أوروبا واليابان، من حوالي 34 في المئة إلى 17 في المئة، وهو انخفاض يقارب 50 في المئة، وإذا قيست حصة إجمال الناتج المحلي العالمي باستخدام أسعار الصرف الحالية فسيكون هذا الانخفاض أكثر حدة، ولكن بما أن الأمن القومي يُشترى في المقام الأول من مصادر محلية وبمدخلات محلية، فإن تحويل العملات وفقاً لتعادل القدرة الشرائية يوفر تقييماً أفضل، وفي المقابل فعلى مدى 34 عاماً منذ نهاية الحرب الباردة، ظلت حصة الولايات المتحدة من القوة الاقتصادية العالمية ثابتة تقريباً، بينما ارتفعت حصة الصين بمقدار 10 أضعاف، من 1.8 في المئة إلى 18 أو 19 في المئة.

وتشير اتجاهات نمو الإنتاجية إلى أن الفجوة بين الاقتصادين الياباني والأوروبي من جهة والاقتصاد الأميركي من جهة أخرى ستستمر في الاتساع، فخلال العقود الخمسة بين عامي 1950 و2000، تمكنت اقتصادات فرنسا وألمانيا واليابان والمملكة المتحدة بصورة مطردة من تضييق الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة المتفوقة عليها من حيث الإنتاجية لكل ساعة عمل، لكن بين عامي 2000 و2019 توقفت الإنتاجية في اليابان والمملكة المتحدة عن النمو، بينما ظلت الفجوة في الإنتاجية بين الولايات المتحدة وألمانيا ثابتة، وخلال الأعوام الخمسة التالية، من عام 2019 إلى عام 2024، استمرت اليابان في تسجيل نمو صفري في الإنتاجية، واستمرت الفجوة في الإنتاجية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الاتساع، ووجد تقرير صادر عن البنك المركزي الأوروبي عام 2024 أنه خلال فترة الأعوام الخمسة تلك، زادت إنتاجية العامل لكل ساعة عمل في قطاع الخدمات السوقية في الولايات المتحدة بأكثر من 12 في المئة، بينما زادت في منطقة اليورو بأقل من أربعة في المئة.

ماذا عن التوزيع المستقبلي للنمو الاقتصادي؟ هناك إجماع واسع على أن الذكاء الاصطناعي سيكون التكنولوجيا العامة الجديدة التي ستحدث تحولاً في الاقتصادات العالمية، وفي كتابه لعام 2024، "التكنولوجيا وصعود القوى العظمى: كيف يؤثر انتشار التكنولوجيا في التنافس الاقتصادي"، يقدم عالم السياسة جيفري دينغ بيانات تشير إلى أن عدد مهندسي الذكاء الاصطناعي وجودتهم سيكونان عاملين حاسمين في الثورة الصناعية الرابعة القادمة التي يقودها الذكاء الاصطناعي، ويستخدم مؤشراً يصنف الجامعات في جميع أنحاء العالم بناء على عدد وجودة موارد الذكاء الاصطناعي الخاصة بها، ومن بين أفضل 50 جامعة في هذا التصنيف هناك 32 جامعة أميركية وكندية، وسبع جامعات صينية، وفي المقابل لا تظهر في القائمة سوى جامعة واحدة في المملكة المتحدة وثلاث جامعات في الاتحاد الأوروبي، ولا توجد أية جامعة في اليابان، وبالتالي فإن الانخفاض الملحوظ بالفعل في حصص أوروبا واليابان من إجمال الناتج المحلي العالمي من غير المرجح استدراكه وتصحيحه من خلال الثورة الحالية في تحليل البيانات.

معضلة الضربات الموجهة

وعلى رغم انخفاض قوتها الاقتصادية لم تصبح مسألة الدفاع عن اليابان والدول الأوروبية أسهل، بل على العكس ازدادت تعقيداً وصعوبة، وقد بحثت دراسة أُجريت عام 1988 ظهور القوة العسكرية القائمة على تكنولوجيا المعلومات الرقمية التي أدت خلال الثمانينيات والتسعينيات إلى تطوير أسلحة الضربات الدقيقة، مما مكّن من استهداف المواقع الثابتة وكثير من الأهداف المتحركة بدقة عالية، بغض النظر عن المسافة التي يجري إطلاقها منها، وأصبحت القوات العسكرية الأميركية المتمركزة في قواعد ثابتة على أطراف الصين وروسيا، وهو نموذج الدفاع المستخدم منذ أوائل الحرب الباردة، عرضة الآن لضربات دقيقة بعيدة وقصيرة المدى غير نووية.

ويُجمع الخبراء الإستراتيجيون المتخصصون في مجال الدفاع إجمالاً على الإجراءات التي يجب اتخاذها من أجل تقليص درجة الخطر المحدق بهذه القوات، وهي زيادة عدد القواعد الثابتة وتوزيع القوات المتاحة بينها وإخفاؤها أو جعلها متحركة، أو وضعها تحت الأرض وحمايتها بأنظمة مضادة للصواريخ مثل صواريخ "باتريوت" و"إيجيس آشور" التي تُرسلها الولايات المتحدة إلى إسرائيل وبولندا وأوكرانيا، كما يُجمع الخبراء الإستراتيجيون على ضرورة نشر هذه القوات المتحركة والمتفرقة والمحمية والمموهة عبر ما يُسمى "تضاريس معقدة"، أي مناطق داخل المدن أو الغابات أو المناطق الجبلية حيث يسهل إخفاؤها. 

لكن المشكلة تكمن في أن كل هذه المقاربات تتطلب تخصيص موارد ضخمة، والأهم من ذلك أنها تتطلب الوصول إلى أراض غالباً ما تكون مكتظة بالسكان، وفي الوقت نفسه تواجه الولايات المتحدة كلفة تحديث جميع عناصر ثالوثها النووي [الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والغواصات النووية المسلحة بصواريخ باليستية والقاذفات الإستراتيجية]، وحماية بنيتها التحتية الحيوية من الهجمات التقليدية وغير التقليدية، وحماية قواتها في الفضاء. ويشمل ذلك بناء أقمار اصطناعية يمكنها اكتشاف الهجمات الوشيكة وتجنبها والدفاع عن نفسها، أو تجنب الاكتشاف عبر تكنولوجيا التخفي، كما يشمل حماية المحطات الأرضية التي تربط الشبكات الداعمة للأقمار الاصطناعية، وهذه المهام ليست اختيارية، فمن دون الردع النووي الآمن والقواعد الآمنة في الولايات المتحدة والقدرات الآمنة في الفضاء، فلن تتمكن القوات الأميركية من العمل بفعالية، ونظراً إلى الضغوط المالية فلن تتمكن الولايات المتحدة من تمويل كل هذه الحاجات الدفاعية الأساس والكُلف الباهظة لحماية قواتها الحالية في أوروبا وآسيا.

وفي مواجهة هذا المأزق الأمني لدى واشنطن خيار بديل، إذ يمكنها تشغيل الجزء الأكبر من قواتها من قواعد داخل الولايات المتحدة ونصف الكرة الغربي، والمنطق هنا بسيط، فمن الأصعب على الصين وروسيا استهداف الأهداف داخل الولايات المتحدة، وأسهل على الولايات المتحدة الدفاع عنها، مقارنة بالأهداف الموجودة على أطراف خصومها، فكلما زادت المسافة التي يتعين على السلاح أن يقطعها زادت حاجته إلى الوقود وزاد حجمه، مما يجعله أسهل في الاكتشاف والاستهداف، ويمكن لتكنولوجيا التخفي أن تقلل من قدرة العدو على اكتشاف الأجسام الكبيرة ولكنها تظل مكلفة للغاية.

درع متين وسيف سريع

صحيح أنه من الأسهل بالنسبة إلى قوة عالمية أن تحافظ على قدراتها الدفاعية في موقع قريب منها من أن تدافع عن قواعد لها في الخارج، لكن هذه العملية صعبة ومكلفة في الوقت نفسه، كما أن مثل هذه الإستراتيجية الدفاعية الداخلية ليست كافية بحد ذاتها، فلا بد من أن يكون الدرع الشامل للقارة مصحوباً بسيف يمكن استخدامه بسرعة ومرونة على نطاق عالمي من قواعد محمية داخل الوطن، وفي الواقع جرى تصور مثل هذه الإستراتيجية خلال الأعوام الأولى من الحرب الباردة.

ففي عام 1953 طرح الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور سياسة أمنية بعنوان "النظرة الجديدة" للدفاع عن البلاد انطلاقاً من مراكز القيادة الجوية الإستراتيجية الموجودة في النصف الغربي للكرة الأرضية، ويقترح هذا المفهوم اعتماد الولايات المتحدة على مزيج من القوى النووية الإستراتيجية الهجومية الموجودة داخل البلاد والدفاعات الجوية القارية الكثيفة المنتشرة في الولايات المتحدة وكندا، والقادرة على تأمين الحماية من قاذفات العدو، إضافة إلى القوات القتالية المضادة للغواصات للحماية من الغواصات المزودة بالصواريخ، وكما جاء في السجل الرسمي لمكتب وزير الدفاع "يعتمد الشكل الجديد من الاحتواء بصورة أساس على قوة الهجوم الانتقامي، أي الأسلحة النووية الإستراتيجية بصفة أساس، إضافة إلى الدفاعات القارية"، واللافت أنه في هذه المقاربة المعروفة بمسمى الانتقام الشامل، أوكلت أدوار ثانوية لأشكال الدفاع الأخرى بما فيها القوات البرية التقليدية.

لكن هذه الإستراتيجية أثبتت عدم قابليتها للتطبيق ذلك الوقت، ففي عام 1955 قدرت كلفة الدفاع الجوي الفعال ضد القاذفات بنحو 40 مليار دولار على مدى خمسة أعوام، أي ما يعادل 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وقد وصف وزير الخزانة التقديرات بأنها "فوق التصور"، غير أن السعر الباهظ كان ناتجاً بصورة أساس من القيود التكنولوجية خلال تلك الحقبة، فالجزء الأكثر كلفة في الدفاعات الجوية لم يكن الرادارات أو الأسلحة، بل نظام المعلومات الذي كان مطلوباً لتشغيلها، وهو نظام كان سيتطلب كلفاً باهظة في عصر الحواسيب العاملة بأنابيب التفريغ.

لكن هذه الكُلف انخفضت اليوم جذرياً بفضل "قانون مور" [غوردون مور، أحد مؤسسي "شركة إنتل" والذي قال عام 1965 بأن عدد الترانزستورات على شريحة دائرية يتضاعف تقريباً كل عامين، مما يؤدي إلى زيادة في قدرة الحوسبة وتقليل الحجم والكلفة]، فيما ازدادت قوة الأنظمة المعلوماتية على نحو تصاعدي، وقد يشمل تحسين الدفاعات الصاروخية في الولايات المتحدة توسيع منشآت الدفاعات الصاروخية في فورت غريلي في ألاسكا، وخلال سبعينيات القرن الماضي وُضعت أنظمة اعتراضية للصواريخ البالستية في مونتانا وداكوتا الشمالية، ويجب إعادة النظر في توسيع تلك القواعد في هذه المواقع، مع مراعاة القيود السياسية المفروضة على استخدام الأراضي، وبالنظر إلى احتمال إطلاق الأعداء صواريخ بالستية وصواريخ كروز قصيرة المدى من غواصات تستهدف نقاطاً في ألاسكا وهاواي ودول ساحلية أخرى على المحيطين الهادئ والأطلسي، يجب أيضاً درس الدفاعات ضد الصواريخ البالستية وصواريخ الكروز في الميدان مثل "أنظمة إيجيس" الجوية المتمركزة على سفن تنتشر قبالة سواحل الولايات المتحدة، كما يمكن استكمال هذه الدفاعات بدفاعات تُسمى سلبية، وتشمل خطوات مثل نشر الأصول العسكرية على نطاق أوسع أو إخفائها أو دفنها، تزيد من صعوبة شن هجوم عليها. وفي سبيل ردع الهجمات غير التقليدية ومنها الحرب السيبرانية وعمليات التخريب من قبل الصين وروسيا، فسوف تتطلب الإستراتيجية الدفاعية في نصف الكرة الغربي تعزيز البنية التحتية الأمنية الداخلية بصورة كبيرة.

على الولايات المتحدة أن تمنع أعداءها من السيطرة على مواقع في نصف الكرة الغربي

 

وأخيراً على الولايات المتحدة أن تنشر قوات بحرية وجوية في النصف الغربي من الكرة الأرضية كي تفرض شكلاً جديداً من "عقيدة مونرو"، وسيكون لوجود هذه القوة مهمة حيوية وهي منع الأعداء من إقامة مواقع عسكرية في النصف الغربي للكرة الأرضية يمكن أن ينطلقوا منها لشن هجوم على الولايات المتحدة باستخدام أسلحة ميدانية، إضافة إلى تدمير أية قوات مماثلة تسللت بصورة سرية، وتشمل المناطق التي يجب منع تمركز الأعداء المحتملين فيها كندا وغرينلاند وأيسلندا والمكسيك وأميركا الوسطى وشمال أميركا الجنوبية وجزر الكاريبي والمناطق الساحلية. 

وفيما تعد الدفاعات النشطة والسلبية مفيدة فهي أيضاً محدودة، ومن خلال تعزيز قدراتها على شن ضربات هجومية حول العالم، يمكن للولايات المتحدة أن تخفف الأضرار التي قد يلحقها بها أي مهاجم محتمل وتصد الهجمات في المقام الأول، وخلافاً لزمن أيزنهاور وسياسة الانتقام الضخمة، تسمح القدرة على توجيه ضربات دقيقة للقوات الهجومية غير النووية المتمركزة داخل الولايات المتحدة اليوم، أن تشن هجمات فعالة ضد الأعداء حتى لو كانوا في أماكن قصية، ويمكن تكييف هذه الهجمات من حيث الأهداف التي تهاجمها ودرجة الدمار التي تلحقها بها.

وفي سبيل ضرب الأهداف بفعالية، على الولايات المتحدة أن تملك القدرة على رصدها وتحديد نوعها وموقعها وتتبع مسارها إن كانت تتحرك، فالأقمار الاصطناعية الموجودة في مدار الأرض المنخفض قريبة بصورة قد تفاجئك من الأهداف على الأرض، لأنها غالباً ما تكون على مسافة 150 إلى 300 ميل في الفضاء، أي ما يعادل المسافة بين بوسطن وفيلادلفيا أو بين كييف وخاركيف. وبفضل التقدم في دقة التوقيت أصبح من الممكن جمع البيانات من عدد من أجهزة الاستشعار الصغيرة للحصول على معلومات دقيقة توازي عمل جهاز استشعار كبير، ومقارنة بالمكوك الفضائي الذي تطلقه وكالة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا)، قلص "فالكون-9" الصاروخ الذي تطلقه شركة "سبيس إكس" بفضل قابليته لإعادة الاستخدام جزئياً وتكوينه من مرحلتين، كلفة وضع الأقمار الاصطناعية في المدار بنحو 20 ضعفاً، ومن ناحية أخرى قد تنجح المركبة الفضائية "ستارشيب" التابعة لشركة "سبيس إكس" أيضاً، والتي تخضع حالياً لتجارب إطلاق، في خفض تلك الكلفة بواقع 20 ضعفاً أو أكثر، وبالتالي ففيما لم تكن عمليات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع في السابق متاحة بكلفة معقولة سوى من خلال الطائرات والرادارات التي يُشترط تشغيلها على مسافة قريبة من الأعداء، أصبحت ممكنة الآن من خلال شبكة أقمار اصطناعية تطلق من الولايات المتحدة. 

اقرأ المزيد

    

وبفضل قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع القادرة على البقاء والاستمرار، ستتمكن الولايات المتحدة من رصد وتحديد الأهداف في أي مكان تقريباً، وفي ظل القدرة على بلوغ أي مدى كان عبر القارات، ووجود طائرات تمتلك القدرة على التخفي والعودة، ويمكنها أن تحمل أسلحة كثيرة، فستستطيع أن تهاجم هذه الأهداف من خلال حملة غير نووية متواصلة أينما كانت في العالم من خلال قواعد محمية داخل البلاد، وهذا ما يعني في الوقت الحالي استخدام قاذفات القنابل "بي-1" و "بي-2" والغواصات النووية التي تحمل صواريخ كروز.

القوة الرئيسة

حرصاً على استمرار فعالية أي تغيير في الموقف الدفاعي الأميركي على مدى العقود المقبلة، يجب التعامل معه بعناية ومرونة، مع أن بعض البلدان الواقعة في نصف الكرة الغربي تعتبر أقل أهمية الآن بسبب تراجع قوتها الاقتصادية نسبياً، وربما ازدادت أهمية بعضها الآخر بسبب موقعها الجغرافي، أما البلدان القريبة من الأهداف المحتملة داخل أراضي عدو للولايات المتحدة، والتي تتضمن مساحات كبيرة من التضاريس المعقدة والكثافة السكانية المتدنية، فقد تجد فيها الولايات المتحدة بعض الميزات التي تفيدها، إذ إن نشر الأسلحة الهجومية المتحركة الأصغر حجماً وذات المدى القصير في أماكن كهذه، قد يسهم في زيادة قدرتها على الإفلات من الرصد ويوفر لها غطاء حماية أكبر يحول دون تدميرها، كما أن الأسلحة الأصغر حجماً ستكون أخف وزناً ويسهل إخفاؤها بصورة أكبر، ويمكن للولايات المتحدة إن عملت انطلاقاً من دول قريبة نسبياً من أهدافها المحتملة أن تستخدم مسيرات أصغر حجماً تتيح لها جمع الاستخبارات المفيدة والمراقبة والاستطلاع. 

وقد ترغب واشنطن في التعاون مع الحلفاء القريبين من خصومها والذين لديهم أراض تتمتع بهذه الخصائص، وفي حال روسيا يعني هذا أن الولايات المتحدة يجب أن تعيد تشكيل علاقاتها مع بعض دول الـ "ناتو"، مثل فنلندا وغيرها من الدول الإسكندنافية ودول البلطيق، بدلاً من التخلي عن الحلف، ومن ناحية أخرى يشكل أرخبيل الفيليبين في محيط الصين والقريب من جزيرة هاينان، والذي يستخدم كقاعدة للأسطول الصيني في البحر الجنوبي، منطقة أخرى من هذا النوع، وتعمل البحرية الأميركية بالفعل مع الحكومة الفيليبينية على البحث في الاستخدام الدفاعي لهذه الجزر، كما تقع جزيرة كيوشو في أقصى جنوب مجموعة الجزر اليابانية على مقربة من بحر الصين الجنوبي وقواعد الأساطيل الصينية الشمالية، ويعد موقع هوكايدو موقعاً مناسباً لقربه من فلاديفوستوك الروسية، ويمكن أن تسمح الحكومات المحلية بالوصول إلى هذه المناطق عندما تعصف الحرب أو الأزمات، وقد تمنح هذه السلطات القوات الأميركية المتنقلة المزودة بأسلحة دقيقة الإذن بالانتشار على أراضيها في مقابل ضمانات أمنية، وعلى المدى البعيد يمكن زرع قوات هجومية مستقلة من طريق طائرات تصعب ملاحظتها أو غواصات، وتترك في المكان إما مع طاقم بشري مصغر أو من دون وجوده تماماً.  

تتضمن المحيطات خارج نصف الكرة الغربي ممرات بحرية يستخدمها الخصوم من أجل استيراد الغذاء والوقود الأحفوري وغيرها من السلع الحيوية، وقد ترغب الولايات المتحدة في اعتراض هذه النشاطات، مما قد يعني فرض حصار في مكان بعيد، ويكمن التحدي في فرض حصار بعيد إجمالاً في مسألة المعلومات، فآلاف السفن تعبر هذه الممرات البحرية يومياً، ولا يملك أي سلاح بحرية سفناً كافية لاعتراض وتفتيش كل هذه السفن بحثاً عن تلك التي يهمه أمرها، لكن التطور في أجهزة المراقبة من الفضاء قد حلّ جزءاً كبيراً من هذه المشكلة في أيامنا هذه.    

لا يجدر بالنقاش حول الموقف الدفاعي الأميركي أن ينطلق من السؤال حول الجهة الأكثر أخلاقية، ولكن كيف يبدو العالم الآن وكيف سيبدو في المستقبل؟ وبالنظر إلى التحولات الكبيرة في الاقتصاد العالمي خلال العقود الأخيرة، إضافة إلى تحول قدرات الأسلحة غير النووية وظهور أجهزة الاستشعار الفضائية، فمن الواضح أن الموقف الدفاعي الذي أنشأته الولايات المتحدة قبل 75 عاماً لم يعد مناسباً أو كافياً، ويجب على الولايات المتحدة أن تتجاوز نزاعاتها الحالية مع حلفائها وأن تسأل كيف يمكنها تحسين تموضع قواتها لحماية المصالح الوطنية الأساس في عالم أكثر خطورة.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 14 مارس 2025

 ستيفن بيتر روزن باحث مشارك في معهد السياسة العالمية التابع لـ "جامعة كولومبيا" وهو بروفيسور بيتون مايكل كانيب في الأمن القومي والشؤون العسكرية في جامعة هارفارد، خدم في وزارة الدفاع وفي مجلس الأمن القومي في إدارة ريغان.

المزيد من آراء