ملخص
بدأت الصداقة "الغريبة" بين الموسيقيين الألماني فليكس مندلسون والفرنسي برليوز في إيطاليا، وتحديداً في فيلا مديتشي عام 1931 حين كان مندلسون ملتحقا كمتدرب على العزف بينما برليوز يبذل جهوده للحصول على عقود عمل ومكانة في عالم المهنة التي كان يشعر أنه يتقنها أكثر من أي موسيقي آخر: مهنة العزف والتأليف
في رسالة بعث بها الموسيقي الألماني فليكس مندلسون إلى أمه التي يبدو أنها كانت مستودع أسراره وحائط مبكاه، أخبرها أنه لغيظه من زميله الموسيقي الفرنسي برليوز، "أشعر في بعض الأحيان برغبة حقيقية في أن ألتهمه بالمعنى الحقيقي للكلمة، لغيظي منه" والسبب؟ يكمل مندلسون شاكياً صديقه لأمه، "فحماسته البرانية وسمات اليأس التي يعرف دائماً كيف يرسمها على محياه، ولا سيما في حضور النساء، وعبقريته التي لا يتوقف عن استعراضها بحروف كبيرة... كل هذه أمور لا يسعني أن أتحملها (...)، ولو لم يكن فرنسياً لما تمكنت على الإطلاق من مواصلة صداقتي معه". وإلى ذلك كله لم يخف مندلسون لا على أمه ولا على معارفه بأنه أبداً لم يحس بأي انبهار تجاه برليوز، مضيفاً أنه لئن كان قد أبدى ذات يوم إعجاباً ما تجاه سيمفونية برليوز الغرائبية فإنه بات اليوم ينظر إليها وكأن الآلات وهي تعزفها" تلفظ الموسيقى لفظاً وكأنها مريض يتقيأ...". ومع ذلك كله لم يقطع مندلسون أول الأمر، صلته ببرليوز الذي كان يكبره بستة أعوام، فالفرنسي ولد عام 1803، بينما ولد الألماني في عام 1809. وكان الاثنان قد ارتبطا بصداقة جمعت بينهما في "بلد ثالث" كما كان برليوز يقول مضيفاً وهو يبتسم، "في منطقة محايدة كما يجدر بالأمر أن يكون بين فرنسي وألماني!".
لقاء أول لصداقة غريبة
كان اللقاء الأول وبداية تلك الصداقة "الغريبة" بين الموسيقيين في إيطاليا، وتحديداً في فيلا مديتشي عام 1931 حين كان مندلسون وهو في بداية عشرينياته ملتحقا كمتدرب على العزف هناك ويسعى كما كان يقول بنفسه "إلى الحصول على شيء من الدعة والسكينة تحت شمس إيطاليا المشرقة"، بينما برليوز يبذل جهوده للحصول على عقود عمل ومكانة في عالم المهنة التي كان يشعر أنه يتقنها أكثر من أي موسيقي آخر: مهنة العزف والتأليف، وبخاصة فنون قيادة الأوركسترا في زمن كان كل ذلك يتحقق في إيطاليا أكثر مما في أي مكان آخر. والحقيقة أن "اكتشاف" كل من الشابين لرومنطيقية موسيقى الآخر التي ستتجلى أكثر وأكثر لاحقاً من خلال موسيقى "حلم ليلة صيف" التي اشتهرت بصورة خاصة من بين أعمال مندلسون، و"السيمفونية الغرائبية" من بين أعمال برليوز، ذلك "الاكتشاف" عرف كيف يجمع بينهما رغم كثير من الأمور التي تفرق بين مزاجيهما في الحياة نفسها. والحقيقة أن ليس ثمة ما هو أدل على ذلك من المقارنة بين شخصيتيهما، وفي الأقل من خلال الاستماع من ناحية مندلسون، لافتتاحية كونشرتو له عنونه "سكينة البحر"، ومن ناحية أخرى إلى تلك الزوابع والعواصف التي تملأ متن الموسيقى البرليوزية. ولقد كان من الطبيعي في نهاية الأمر أن تحدث بين الرجلين تلك القطيعة التي ستدوم نحو دزينة من السنوات، والتي يبدو أن حديث مندلسون عنها في رسالته إلى أمه، كان لمناسبتها!
عصا القيادة عربون صداقة
غير أن سنوات القطيعة لم تلغ لا إعجاب كل منهما بالآخر، ولا حاجة الواحد منهما للثاني. فالحال أن برليوز، وبعد سنوات من الغياب سيعود في عام 1843 إلى الظهور في حياة مندلسون عبر رسالة بعث بها إليه يسأله فيها أن يساعده "كي أتمكن من إسماع الجمهور عندكم بعض مؤلفاتي". وكان رد مندلسون يومها رسالة في صفحات عدة عبر فيها عن سعادته بالعودة إلى رؤية صديقه القديم ودعاه فيها للحضور إلى لايبزيغ، حيث يمكنه أن يرتب له من الأمور ما يمكنه من تحقيق ما يطلب. وبالفعل تحرك برليوز من فوره وتوجه إلى المدينة الألمانية التي كان مندلسون قد وطد لنفسه مكانة فيها، ولا سيما كمسؤول عن الحفلات الموسيقية التي تقدم في غيفاندهاوس. ولكن الذي حدث هو أنه بعد التوافق على برنامج حفل يقدم فيه الموسيقيون الألمان عدداً من أعمال برليوز، فاجأ هذا الأخير الموسيقيين والجمهور بتراجعه عن تقديم الجزء الأخير من عمله "روميو وجولييت" بحجة أنه قد لاحظ أن ذلك الجزء أكثر صعوبة من أن يتمكن المغنون المتوافرون من أدائه. صحيح أن ذلك الاستنكاف قد أربك مندلسون لكن برليوز كان من اللباقة – أو لنقل، من المكر – بحيث إنه في المقابل، وبعد أن استمع إلى الفرقة الموسيقية وهي تعزف تحت قيادة مندلسون أبدى إعجاباً كثيراً بأداء الفرقة وقائدها وصل إلى حد أن طلب من هذا الأخير أن يهديه عصا القيادة خاصته كتذكار لـ"هذا العزف السماوي" ودليل إعجاب لا يُمارى، ففعل مندلسون ذلك راداً التحية بأحسن منها، إذ طلب من برليوز التخلي له عن عصا قيادته بدوره. وهكذا عاد الصديقان للارتباط من طريق ذلك التصرف الودي.
سهام الهنود الحمر
غير أن القطيعة سرعان ما عادت إلى العلاقة بينهما من جديد، وربما لعبت الدور الرئيس في تجددها تلك الرسالة التي تقول الحكاية إن برليوز أرسلها إلى صديقه الجديد/ القديم إثر تبادل الهديتين ولأسباب غير واضحة على الإطلاق. فلقد جاء في الرسالة تعابير شديدة الغموض تبدو اليوم وكأنها مستقاة من لغة الروايات الحربية الأميركية أكثر مما هي آتية من رهافة فن التراسل الأوروبي، حتى وإن كان ظاهرها ينم عن مودة شديدة ورغبة في تواطؤ ما: "إلى القائد مندلسون. أيها القائد الكبير، لقد تعاهدنا أنت وأنا على أن نتبادل سهمينا (التوماهاوك) وهاك سهمي (أي عصا القيادة) أرسله إليك وستلاحظ أنه معقد وقبيح مقابل سهمك البسيط. وأنت تعرف أن شعوب السكوايا (من الهنود الحمر) ذوي الوجوه الشاحبة (أيضاً الهنود الحمر) يحبون السهام المفرطة في زينتها والمعقدة. كن أخي بحيث إنه حين يحدث للروح الكبرى أن ترسلنا معاً إلى عالم الأرواح كي نصطاد، فلنصل معاً كي يتمكن محاربونا من أن يعلقوا سهامنا متحدة على مدخل مجلس الزعامة". وطبعاً يمكننا أن نتصور هنا أن مندلسون عجز أمام تلك الرسالة "الحربجية" الغريبة أن يفهم شيئاً، لكنه أحس على أية حال بأن برليوز يسخر منه ويتهكم عليه، وربما ندماً على كونه قد أبدى تجاهه كل ذلك القدر الكبير من الإعجاب موصلاً إعجابه إلى حد أن طلب منه عصا القيادة التي ها هو يشبهها الآن بسهم من سهام الهنود الحمر على سبيل التهكم على الأرجح. وطبعاً، على الطريقة الألمانية المتسمة عادة بقدر لا بأس به من التكتم والغضب الجواني، قرر مندلسون حين قرأ هذا الكلام، أن يقطع كل علاقة له ببرليوز بدلاً من أن يقدم، وكما وعد أمه في الرسالة التي ذكرناها أعلاه، على أن تمزيقه إرباً والتهامه غضباً. ومهما يكن من أمر فإن مندلسون، حين وصلته تلك الرسالة، كان قد أضحى شيئاً آخر تماماً.
في بلاط فكتوريا
ففي عام 1842 التقى مندلسون في قصر باكنغهام بالملكة فيكتوريا كما بالأمير الملكي ألبرت في إحدى القاعات، حيث دار حديث موسيقي تخلله إخراج أوراق ونوتات عجزت الملكة الشابة حينها عن إعادة ترتيبها فشكت من "فوضى الرجال". وخلال الجلسة جلس ألبرت إلى الأرغن وراح يعزف وسط حماسة مندلسون الذي فوجئ بالملكة تطلب منه مواصلة العزف، ففعل بينما راحت الملكة والأمير ينشدان مقاطع يعزفها من أوراتوريو "بولوس". ثم توقف الأمير طالباً من زوجته الملكة أن تواصل الغناء وحدها فاشترطت إبعاد الببغاء الذي كان في قفصه إلى جانب مقعدها، فنهض مندلسون وأزاحه بعيداً لتنطلق فكتوريا في غنائها على وقع عزفه. ولا شك أن ذلك المشهد قد أنساه كل الأذى المعنوي الذي كان قد تحمله من صديقه الفرنسي. لقد بدا له غناء فكتوريا على وقع موسيقاه خير تعويض له بالتأكيد. وقرر منذ تلك اللحظة أن الإنجليز خير من الفرنسيين... وهو ما دونه في رسالة من رسائله قال فيها أن "من لحظات السعادة الكبرى في حياتي أنني أشرفت على صقل موهبة ملكة الإنجليز ولو لساعة واحدة من عمري...".