ملخص
تشهد الأوساط الثقافية اليابانية حالياً اهتماماً ملاحظاً بترجمة الأدب الفلسطيني، ارتبط بالأحداث الدامية التي يشهدها قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ففي العام الماضي صدرت مثلاً رواية عدنية شبلي "تفصيل ثانوي"، مترجمة مباشرة من اللغة العربية. في هذا السياق حاورت "اندبندنت عربية" المستعرب الياباني يوشياكي فوكودا حول مكانة الأدب العربي في اليابان، وتحديات ترجمته، وحقيقة شغف اليابانيين بالأدب الفلسطيني.
يعمل المستعرب يوشياكي فوكودا (1969) أستاذاً للأدب العربي في جامعة أوساكا، أعد أطروحتيه للماجستير والدكتوراه عن أدب نجيب محفوظ، ومن كتبه: "لماذا يترجمون الأدب العربي إلى اللغة اليابانية"، و"الأناشيد الوطنية العربية: الهويات العابرة للحدود"، و"المسلمون في الأدب الياباني في عصر شووا"، و"صورة الوطن في الأدب العربي المعاصر". ويلاحظ فوكودا أن مساحة الاهتمام بالأدب العربي في اليابان ترتبط بالاهتمام بالتوترات السياسية في الشرق الأوسط، ففي العام الماضي في ظل أحداث قطاع غزة جرت ترجمة ثلاثة كتب فلسطينية إلى اليابانية أولها رواية عدنية شبلي "تفصيل ثانوي" بترجمة كارورو ياماتو مباشرة عن العربية، وصدرت عن دار نشر تتمتع بسمعة جيدة، ولاقت صدى طيباً.
ومع تصاعد الأحداث السياسية في الشرق الأوسط بدأ المتخصصون في الأدب الإنجليزي ترجمة الأدب العربي من الإنجليزية إلى اليابانية، ولمواكبة ما يجري في قطاع غزة قامت دور نشر عدة بإعادة نشر الترجمات اليابانية القديمة للأدب العربي مرة أخرى، إذ أعيد نشر أعمال محمود درويش الشعرية في قطع صغير (حجم الجيب) بغلاف جديد، ولكن هذه الترجمة غير مباشرة عن العربية، وجرت ترجمة مختارات قصصية لكتاب شبان من غزة، من إعداد رفعت العرعير الذي استشهد بغارة إسرائيلية في أواخر عام 2023.
وعن الأسباب التي تدفع إلى ترجمة الأدب العربي إلى اليابانية، يشير فوكودا إلى ما كتبته كريما موروكا في مقالة قصيرة لها بمناسبة صدور ثلاثية نجيب محفوظ في اليابان، عن أن العمل في هذا النطاق لا يزال محدوداً، وأن المترجم الذي يختار العمل والقارئ الذي يتصفحه، كلاهما يقرأ الأدب العربي كوسيلة لفهم عالم مختلف أكثر منه للمتعة. ومعروف أن البرفيسور الياباني هاناوا هاروو فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2015، فرع الترجمة، عن ترجمة ثلاثية نجيب محفوظ. ويكشف فوكودا عن أن أكثر أديب عربي ترجمت أعماله إلى اليابانية هو نجيب محفوظ، لأنه كان هناك دبلوماسي ياباني يدعى هاناوا هاروو (1931-2016) شغف بأعمال محفوظ والتقى به أكثر من مرة وترجم أعماله إلى اليابانية على نفقته الخاصة، فترجم على سبيل المثال رواية «بين القصرين» قبل أن يحصل نجيب على نوبل. ويردف فوكودا أن عدد القادرين على قراءة الأدب العربي بلغته الأصلية محدود جداً في اليابان، ومعضهم يعملون في الجامعة أو في مؤسسات حكومية أو أنهم طلاب ماجستير ودكتوراه.
ويؤكد أن هذه الترجمات لا تدر دخلاً على المترجمين، فحركة النشر في اليابان تعاني كساداً في هذه الآونة، فكثير من الشباب لم يعودوا يقرؤون الكتب الورقية في ظل تغول الوسائط الرقمية، ولا تحبذ هذه الدور نشر الأعمال العربية، إلا إذا حصل المترجم نفسه على معونة مالية من الحكومة اليابانية. وكثير من المترجمين يكون دافعهم لترجمة الأعمال العربية هو إدراكهم لأهمية أن يطلع القارئ الياباني على هذه الأعمال، لمد الجسور بين الثقافتين. ويذكر فوكودا أن هناك بعض الأعمال الأدبية العربية المترجمة حظيت بإقبال معقول من الجمهور مثل رواية «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد السعداوي، فالخيال العلمي له جمهور واسع في اليابان. وتظل حكايات ألف ليلة وليلة أشهر الأعمال الأدبية العربية في اليابان، وترجماتها الأولى كانت إما عن الإنجليزية أو الفرنسية، أما أول ترجمة لها عن العربية مباشرة فتمت في ثمانينيات القرن الماضي.
غسان كنفاني
وتأتي أعمال غسان كنفاني (1936- 1972) على قمة الأعمال الأدبية العربية الحديثة من حيث الشهرة، فاليابانيون بصورة عامة مهتمون بالقضية الفلسطينية منذ زمن بعيد خصوصاً من الحركة اليسارية اليابانية في الستينيات والسبعينيات التي كانت تبحث عن التضامن بين شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية التي عانت الاستعمار الغربي، فاهتمت بالأدب العربي بدرجة كبيرة خصوصاً أدب كنفاني وأيضاً ترجمت أعمال لنجيب محفوظ ويوسف إدريس والطيب صالح، ففي السبعينيات صدرت سلسلة اسمها «الأعمال الكاملة للأدب العربي الحديث»، وإن كان هذا المسمى غير دقيق.
ويلفت فوكودا إلى أنه من أشهر الكتاب اليابانيين المنتمين إلى الحركة اليسارية كنزابورو أوي (1935- 2023) الحاصل على جائزة نوبل للآداب لعام 1994، كان واحداً من المشاركين في مشروع ترجمة الأدب العربي، وكان صديقاً لإدوارد سعيد (1935- 2003) ويتبادل معه الرسائل. يرى فوكودا أن المتخصصين الأكاديميين في الأدب العربي هم من حملوا مسؤولية ترجمة الأعمال الكلاسيكية العربية إلى اليابانية، بينما قامت ترجمة الأدب العربي الحديث على أكتاف كتاب يساريين.
وعن أبرز الفاعلين في مد جسور التواصل بين العالم العربي واليابان، أشار فوكودا إلى تجربة الكاتب نوبوآكي نوتوهارا أستاذ الأدب العربي في جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية وصاحب كتاب "العرب من وجهة نظر يابانية"، لافتاً إلى أنه لعب دوراً مهماً في ترجمة الأدب العربي إلى اليابانية، وكانت ذائقته الشخصية هي العامل الأول في اختياره للأعمال التي يترجمها إلى اليابانية، وترجم على سبيل المثال رواية «الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوي (1920- 1987)، وعاش في قرية من قرى الدلتا المصرية لإتقان ترجمتها، لأنه لم يكن هناك قاموس للهجة المصرية في اليابانية وقتها، فكان عليه معايشة واقع الرواية ليتمكن من نقلها إلى اليابانية عبر الاحتكاك المباشر مع الفلاحين.
الكتاب الجدد
وعن سر ارتباطه بنجيب محفوظ، يوضح فوكودا أن اهتمامه بأدب نجيب محفوظ جاء من اهتمامه بمدينة القاهرة نفسها أثناء إقامتها بها. وموضوع رسالته في الماجستير كان «الزمكان في أعمال نجيب محفوظ في الستينيات»، والدكتوراه عن «الفضاء المديني في أعمال نجيب محفوظ»، وتناول فيها كيف يصف محفوظ القاهرة في رواياته مع مقارنة وصفه بأعمال الكتاب الآخرين لها مثل طه حسين ويوسف إدريس، وسلط الضوء في الرسالة على كيفية تحويل محفوظ القاهرة الواقعية إلى مدينته الخيالية والفلسفية.
ويضيف أن معظم الكتاب المصريين كانوا يتناولون الثنائية بين الريف والقاهرة، لكن نجيب ابن مدينة ويكره السفر ولا يخرج من القاهرة إلا إلى الإسكندرية، فهو ينتمي إلى نوع من الكتاب الذي لا يحبذون السفر، لذا طور ثنائيته الخاصة المتعلقة بشرق القاهرة وغربها، وحول القاهرة من مكان واقعي إلى مكان خيالي.
لم تتوقف أعمال فوكودا البحثية عند جيل نجيب محفوظ، وامتدت إلى الأجيال التالية، قائلاً إنه قام بمقارنة مفهوم الوطن لدى الكتاب الذين كانوا ينشطون في القرن الـ20 مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وبين الكتاب الشباب في القرن الـ21 مثل علاء أسواني وأحمد العايدي وخالد خميسي وجد فارقاً كبيراً، فالكتاب القدامى كانوا يتناولون مسألة الهجرة، لكن من مبدأ معارضتها ورفضها، وتدعو إلى الارتباط بأرض مصر، فالهوية الوطنية المصرية كانت مقدسة عندهم، لكن الجيل الحديث مثل الأسواني لم يعد الوطن بهذه الهالة المقدسة ويرفضون استغلال الأنظمة للشعوب باسم الوطنية، ويسخفون من مقولات مثل "لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً".
التأثير العربي
وعن تأثير احتكاكه باللغة والثقافة والشعوب العربية، يقول فوكودا إن هذا غير من هويته، وحوله إلى إنسان جديد، فهويته الحالية جزء كبير منها كونها العالم العربي، وهو بات على قناعة بأن الأدب قد يكون وسيلة جيدة لمعرفة الفروق بين الثقافات المختلفة.
وفي هذا الصدد يعبر فوكودا عن إعجابه الشديد بالشعب المصري وحين يقارنه مع الشعب الياباني يجد أنه أكثر انفتاحاً في العلاقات عكس الياباني المنطوي، ومن ثم فإنه يتمنى أن ينقل هذه الروح إلى الثقافة اليابانية، خصوصاً في ما يخص الجوانب الإنسانية وفي مقدمها الترابط الاجتماعي والحميمية في العلاقات.
ويرى فوكودا أن صورة العرب عن اليابان نمطية ومشوهة وغير دقيقة، ومن حسن ظنهم يطلقون عبارات إيجابية مثل «كوكب اليابان». بالطبع هذا يسعده لكن في الوقت نفسه، يقلقه أن استمرار مثل هذه الصورة النمطية لا يعمق العلاقة بين الشعبين، فهناك مشكلات في اليابان وأحوال البلد ليست وردية على الدوام، كما يرسمها المخيال الشعبي العربي.
أما عن صورة العرب في اليابان فهي مبهمة، وإن كانت لمصر وضعية خاصة لولع اليابانيين الشديد بحضارتها القديمة، ودائماً ما يدعو فوكودا اليابانيين - كما يقول – إلى الاهتمام بعناصر الحداثة في المجتمعات العربية عموماً. ويردف فوكودا أن صورة العرب في الذهنية اليابانية مرتبطة عادة بالنفط والصحراء والجمال والقوافل وعوالم ألف ليلة وليلة، لكن المثقفين لديهم فهم أكبر وتصور أكثر نضجاً عن العرب.
خريطة فلسطين
وعن جودة ترجمة الأعمال العربية لليابانية يؤكد فوكودا أن هناك تفاوتاً في قدرة المترجمين اليابانيين للأدب العربي، فبعضهم على درجة عالية من الفهم وأمناء في ترجمتهم، وهناك من هو أقل من ذلك، لكن في النهاية لا يوجد عمل مترجم من دون أخطاء فبعضها يكون مقبولاً وفي مواضع أخرى يكون كارثياً، وحين أقارن بين العمل المترجم وأصله العربي أجد في بعض الترجمات أخطاء تعود في الأساس لقدرات المترجم اللغوية وعدم إتقانه للغة العربية، فالحماسة تدفع بعض المترجمين إلى دخول هذا المجال على رغم أن قدرتهم على الترجمة غير كافية للقيام بهذا العمل. ومن الأمثلة على الترجمات الكارثية ما حدث في ترجمة رواية "عائد لحيفا" لغسان كنفاني، وهو خطأ عائد في الأصل لدار النشر وليس المترجم متعلق بالخريطة التي وضعت لفلسطين. وضعوا رام الله في إسرائيل وليس في الضفة الغربية، وخلطوا بين الرملة ورام الله، مما يجعل القراء لا يستطيعون فهم مضمون الرواية ومعاناة بطلها الرئيس. وهذه الخريطة المغلوطة موجودة حتى الآن، ويعاد طبع الرواية من دون تصحيح هذا الخطأ.
الموقف من موراكامي
ويكشف فوكودا عن أمنيته في أن يترجم بعض أعمال يوسف إدريس، ورواية "الحرافيش" لنجيب محفوظ التي يعتبرها أقوى أعماله الروائية. وبسؤاله عن مكانة هاروكي موراكامي في اليابان، يبين فوكودا أن هناك حالة انقسام حوله فهناك جمهور يؤيده ويجتمع سنوياً وقت إعلان نوبل للآداب أملاً في فوزه بها، ويشعرون بخيبة أمل حين يحصل عليها كاتب آخر، والقسم الآخر يكره أعماله، وعلى المستوى الشخصي يحب مقالاته أكثر بكثير من رواياته. يعجبه فيها السلاسة وقدرته على الملاحظة، والفهم العميقة لما يجري حوله. ويلفت فوكودا إلى أن موراكامي من المغرمين بالثقافة الأميركية، وترجم عدداً كبيراً من الروايات الأميركية، وترجماته جيدة، ومن الذين ترجم لهم بكثرة ريموند كارفر (1938- 1988)، وترومان كابوني (1924- 1984)، وفرنسيس سكوت كي فيتسغيرالد (1940- 1994)، وجون ايرفينج (1942) وجيروم ديفيد سالينغر، فالترجمة بالنسبة إليه ضرورية وحافز للكتابة الإبداعية.
وعن سر ولع موراكامي بالرواية الأميركية يوضح فوكودا أن ذلك يرجع إلى أنه من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، المرتبط بشدة بالثقافة الأميركية، فهي التي كونت وعيهم الفكري. وهو من الكتاب النشطين وكل وقته مخصص للترجمة والكتابة الإبداعية ولا يخرج كثيراً، وهوايته هي الجري، حياته منتظمة وهو يشبه في هذا الجانب نجيب محفوظ، أما رواياته فهي مهمومة بالطبقة المتوسطة المتأثرة بالثقافة الأميركية بصورة عامة.
وعن قبول موراكامي جائزة من إسرائيل وسفره لها عام 2009 يقول فوكودا إن هذا جعل الكاتب الياباني الشهير في حرج إزاء أقلام يابانية طالبته بعدم قبولها، احتجاجاً على الجرائم المرتكبة في حق الشعي الفلسطيني، فانتقد إسرائيل بخطاب غير مباشر بعنوان "البيضة والحائط"، ولم يذهب أبعد من ذلك، وبالتالي استمر رافضو سلوكه هذا في انتقادهم لعدم إدانته على نحو واضح الانتهاكات الإسرائيلية، وتنازله عن تلك الجائزة.