Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

ما حجم المسؤولية الملقاة على عاتق طاقم الأسطول النووي البريطاني؟

منذ عام 1969 لم تتوقف دوريات الغواصة النووية عبر المحيطات لضمان أمن بريطانيا، والكاتب الذي لديه خبرة من خلال عمله في القطاع وحصل على مؤهلات قيادية فيه، يتحدث عما تنطوي عليه هذه المهمة من مصاعب

 زيارة السير كير ستارمر للغواصة العائدة وتأييده العلني لـ "فئة دريدنوت" الجديدة منها يحملان بعداً استراتيجياً بالغ الأهمية (أ ف ب/ غيتي)

ملخص

تعكس عملية الردع النووي البحري المستمر للمملكة المتحدة التحديات الجسدية والنفسية التي يواجهها أفراد طواقم الغواصات، في ظل تصاعد التهديدات الجيوسياسية من روسيا والصين. وبينما يواجه البرنامج تحديات بشرية وتقنية، فإن الحفاظ على الردع النووي ضروري لضمان أمن بريطانيا وتعزيز مكانتها العالمية، مما يتطلب استثمارات عسكرية كبيرة وتعزيز قدراتها الدفاعية بشكل مستقل.

العالم الذي نعيش فيه يزداد خطورة يوماً بعد يوم، وبغض النظر عن المواقف حول ما إذا كانت الأسلحة النووية شراً بطبيعتها أم لا، وهي بلا شك تحمل مفتاح تدمير البشرية، إلا أنها موجودة لتبقى.

العملية التي تحمل عنوان Operation Relentless (أو "الردع النووي المستمر" للمملكة المتحدة في البحار" Continuous at-Sea Nuclear Deterrent) تعكس بالضبط ما يوحي به اسمها بكل ما تحمله الكلمة من معنى، سواء بالنسبة إلى البلاد أو الطاقم الذي يديرها، فاستمرارها منذ أكثر من نصف قرن يجعلها أطول عملية عسكرية متواصلة في تاريخ بريطانيا، وتقوم على مبدأ بقاء غواصة نووية واحدة في الأقل داخل عمق البحر بصورة دائمة، وهي مزودة بصواريخ نووية ومستعدة دائماً للرد على أي تهديد يمس أمن البلاد وشعبها.

إنها مسألة صعبة وتتطلب تضحيات، فالحياة على متن الغواصة تعني انقطاعاً تاماً عن العائلة وقضاء أشهر في مساحة ضيقة تفتقر إلى الخصوصية، وهو أمر من شأنه أن يؤدي إلى تصاعد التوترات لا محالة، ومع ذلك فإن أولئك الذين يخوضون هذا التحدي ينتمون إلى فئة نادرة من الأشخاص، وأقول ذلك باقتناع نابع من تجربتي الشخصية في عدد من الدوريات البحرية ضمن فريق القيادة.

الأيام الأولى للإبحار عادة ما تطغى عليها ذكرى الأشخاص الذي تركناهم على اليابسة، وخلال الأيام الأخيرة ينعشنا الأمل بلقائهم مجدداً، أما الأسابيع التي تفصل بينهما فهي مزيج من الروتين والتدريبات واللحظات التي تسهم في كسر الملل والرتابة، وتجعل الرحلة أكثر تحملاً، وعلى رغم كل ما يرافق هذه الحياة من صعوبات فإن شعور أفراد طاقم الغواصة بأنهم يؤدون دوراً في حماية وطنهم يمنحهم دعماً معنوياً لا يستهان به، لكن في ظل الضغوط المتزايدة التي يواجهونها اليوم يبدو أن هذا الشعور بات عرضة للتآكل.

هل يمكن أن تشكل الدوريات الممتدة إلى أجل غير مسمى حلاً مستداما؟ بالطبع لا، فقد يكون أفراد طواقم الغواصات مميزين لكنهم بشر في النهاية، ففي الحياة العصرية الطبيعية فوق مستوى سطح البحر، حيث يحتاج الناس إلى التواصل المستمر، تصبح فترات الانفصال الطويلة سبباً في ارتفاع معدلات الطلاق، ويبرز في المقابل التحدي المتزايد المتمثل في جذب جيل جديد مستعد لتحمل هذه العزلة في المستقبل، ناهيك عن الاحتفاظ بعناصر الغواصات الموجودين الآن في الخدمة، ومن هنا فإن المشكلة بالنسبة إلى الحكومة ليست مجرد تحد جيوسياسي خارجي، بل هي معركة ثقافية داخلية أيضاً. 

ويضاف إلى ذلك أن فترات الإبحار الطويلة لا ترهق أفراد الطاقم وحسب، بل تفرض ضغوطاً هائلة على الغواصة نفسها، ونحن بحاجة إلى الاستثمار الآن في تصاميم أكثر موثوقية لتقليل هذا الضغط الذي يقترب من مستويات لا تحتمل، فعندما تصل الضغوط على الأفراد والآلات إلى أقصى حدودها يُصبح الحفاظ على العمليات تحدياً يكاد أن يكون التغلب عليه مستحيلاً.

الساحة الدولية اليوم تعج بالقوى الفاعلة، سواء كانت الدول الكبرى مثل أعضاء "مجلس الأمن" الدائمين في "حلف شمال الأطلسي" NATO، أو الدول المتعطشة للسلطة والتي تطمح إلى السيطرة على جيرانها، فبدءاً من روسيا التي ضمت شبه جزيرة القرم إلى أراضيها وقامت بغزو شامل لأوكرانيا، إضافة إلى الإسهامات الكارثية في تصعيد التوترات في الشرق الأوسط، وصولاً إلى النيات العدائية للصين تجاه تايوان، شهد العقد الماضي تحولات جعلت العالم في حال من الخطر لم يشهدها منذ "أزمة الصواريخ الكوبية" (نصب الاتحاد السوفياتي السابق سراً في عام 1962 صواريخ نووية في كوبا مما كاد أن يدفع العالم إلى حرب نووية، لكن الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف قام بسحبها بعد 13 يوماً وبعدما وعدت واشنطن بعدم غزو جارتها كوبا).

ولهذا السبب يعد الردع النووي البريطاني الذاتي أكثر أهمية من أي وقت مضى، ويتعين الحفاظ عليه من خلال المهمة الفريدة للغواصات التي تظل غير قابلة للكشف والاختراق، ونحن في النتيجة بحاجة إلى هذا الضمان النهائي الجاهز دائماً والذي يبعث برسالة واضحة إلى أي معتد محتمل، مفادها أننا نملك الوسائل اللازمة لحماية أنفسنا مهما كان التهديد.

إن منطق التدمير المتبادل المؤكد هو في نهاية المطاف رسالة ردع قوية يتعين إرسالها، ولا يمكن لأحد أن يتجاهلها إلا غير العقلانيين، فهذه المعادلة تشكل الأساس الذي يجب أن نبني عليه قدراتنا الدفاعية الأوسع نطاقاً في البر والجو وفي مجال الحرب غير المتكافئة، ولا يقتصر الأمر على ضمان أمن المملكة المتحدة وحسب، بل يشمل أيضاً تعزيز الاستقرار على نطاق أوسع من خلال العمل بشراكة وثيقة مع حلفائنا الأوروبيين والعالميين.

اقرأ المزيد

ومن هنا تحمل زيارة رئيس الوزراء البريطاني السير كير ستارمر للغواصة العائدة وتأييده العلني لـ "فئة دريدنوت" Dreadnought Class الجديدة منها، بعداً إستراتيجياً بالغ الأهمية، ولنكن صادقين، فمن غير المرجح بعد فترة انتشار طويلة في المحيطات أن يهتم طاقمها كثيراً بمستوى الشخصيات المهمة التي تستقبله عند وصوله إلى البر، بغض النظر عن كلمات التقدير الرقيقة التي تقدم لأفراده، فما يهم حقاً هو الرسالة التي تبعث بها.

في المقابل تتسم زيارة ستارمر اللاحقة للبلدة الساحلية "بارو إن فورنيس" بأهمية مماثلة، فبصفتها مركز شركة "بي أي إي سيستم" BAE Systems، وهي عملاق التصنيع الدفاعي في المملكة المتحدة، يشهد ميناؤها بناء الجيل المقبل من غواصات الردع، ويشارك آلاف العاملين الماهرين في تطوير أحد أكثر المشاريع الهندسية تعقيداً في العالم، ويعد إظهار الالتزام الواضح بهذا القطاع أمراً بالغ الأهمية لإعادة تأكيد صدقيتنا وتعزيز مكانة المملكة المتحدة بين القوى الكبرى في العالم.

جدير بالملاحظة أن رئيس الوزراء البريطاني رفع مستوى قيادته بصورة ملحوظة، خصوصاً في أعقاب تجاهل الرئيس الأميركي دونالد ترمب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأصبح ستارمر الآن يمثل الصوت العقلاني لأوروبا التي يبدو أنها استيقظت أخيراً وأدركت أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون بديلاً عن امتلاك قدرة دفاعية محلية، فقد تعاملنا لفترة طويلة مع الأمن القومي والدفاع عن البريطانيين، وهو الواجب الأول على الحكومة، على أنه مسألة ثانوية، معتمدين على مكاسب السلام التي تحققت بعد "الحرب العالمية الثانية" وضمانات القوة التي قدمتها لنا أقوى دولة على وجه الأرض، لكن هذا العصر قد ولّى الآن وسيكون علينا وبحق أن نتحمل عبء هذه المسؤولية بأنفسنا.

المسألة في جوهرها تتمحور حول مبدأ أساس يقضي بأن تمتلك المملكة المتحدة القوة العسكرية اللازمة لحماية أمنها والإسهام في الحفاظ على الاستقرار العالمي، ويتعين علينا أن نعزز قدراتنا الدفاعية من خلال استثمار جاد وإعادة بناء قدراتنا على مختلف الصعد بعد نحو 30 عاماً من التآكل التدرجي الذي بلغ مستويات حرجة.

لا شك في أن المسألة ستكون مؤلمة من حيث الكلفة المالية الباهظة، لكن لا بديل آخر أمامنا، فإذا اخترنا الدخول في اللعبة الجيوسياسية العالمية فيجب أن نتحمل ثمن الدخول فيها، وبينما نواصل ترسيخ حضورنا على الساحة العالمية فإن غياب شبكة الأمان الأطلسية يعني وجوب أن نتولى هذه المسؤولية بأنفسنا، وفي نهاية المطاف تبقى كلفة الاستثمار أقل بكثير من عواقب عدم القيام بذلك.

 

 ديفيد بيسيل عمل في السابق على متن غواصة بريطانية، وحصل على مؤهلات قيادية في هذا المجال 

© The Independent

المزيد من تحلیل