ملخص
يرى مراقبون للحرب السودانية أن لجوء طرفي الحرب إلى استخدام الطائرات المسيرة يُعتبر نقلة نوعية في إدارة المعارك وعامل فاعل في تحقيق الانتصار علي العدو، إذ تُستخدَم في مهمات عسكرية متعددة تشمل التجسس والمراقبة ونقل المعلومات، إضافة إلى استخدامها في العمليات القتالية لضرب مواقع وتجمعات القوات.
عُرفت حرب السودان التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في 15 أبريل (نيسان) 2023 بـ "حرب المدن" كونها انطلقت من داخل الخرطوم، واعتمدت على عنصر المباغتة وسرعة الحركة والانتشار، فضلاً عن عمليات الكر والفر، وهو الأسلوب القتالي الذي تتميز به قوات الدعم كونها تستخدم سيارات الدفع الرباعي في العمليات القتالية ما جعلها تسيطر على 70 في المئة من مساحة العاصمة السودانية، بينما ركز الجيش على الطيران الحربي بإستهداف مواقع وارتكازات "الدعم السريع" من أجل تدمير قوتها.
وقبل دخول الحرب عامها الثاني اتجه الطرفان إلى استخدام المسيرات بكثافة في المواجهات بينهما، لكن معظمها كان مسيّرات بدائية صُنعت محلياً بواسطة هيئة التصنيع العسكري التابعة للجيش، وحصلت "الدعم السريع" على بعض منها عندما استولت أثناء المعارك على منشآت تابعة لهذه الهيئة، وذلك قبل حصول القوتين المتحاربتين على أنواع مختلفة من المسيّرات المتطورة والتي لعبت دوراً مهماً في سير العمليات العسكرية، إذ حدثت هجمات عدة شنتها المسيّرات على مناطق عسكرية وأخرى منشآت مدنية حيوية في مناطق بعيدة عن الصراع تسببت بأضرار كبيرة.
فإلى أي مدى أثّر استخدام المسيرات في مسار الحرب وفي تغيير مجرياتها وتوازن القوى بين طرفيها؟
دعم لوجستي
يقول الباحث في الشؤون العسكرية والاستراتيجية العميد طيار علي أحمد خالد إن "المسيرات استطاعت أن تغيّر مجريات العمليات الدائرة الآن في مسرح الحرب، فهناك مسيّرات قتالية مجهزة بأسلحة مثل الصواريخ والقنابل مصممة لتنفيذ ضربات جوية، كما هناك أيضاً مسيرات يستخدمها الجيش والميليشيا لأغراض استطلاعية وجمع المعلومات الاستخباراتية عبر أجهزة الاستشعار والكاميرات وغيرها من الأدوات، وبشكل عام فهي مجهزة بأحدث التقنيات للتصوير عالي الدقة والكشف الكهرومغنطيسي". وأضاف خالد، "كذلك يستخدم طرفي القتال، مسيرات متخصصة في المراقبة المستمرة لمنطقة أو مدينة معينة لكشف تحركات العدو وتتبع الأهداف وتقيم الخسائر، وهنالك مسيرات الدعم اللوجستي والتي تُعتبر ضرورية لتحسين كفاءة وأمن العمليات العسكرية للطرفين، فهي تنقل الإمدادات الطبية والذخيرة وقطع الغيار والمواد الغذائية الضرورية وغيرها من الأدوات الأساسية إلى ساحة المعركة والمناطق التي يصعب الوصول إليها".
وأردف خالد، "يتم التحكم بالمسيرات العسكرية عبر طريقتين، الأولى من خلال برمجة مسار ومهمات محددة مسبقاً تتيح لها الإقلاع وإكمال مهماتها والعودة إلى قاعدتها العسكرية التي انطلقت منها وقيادتها وفق البرمجة المسبقة لها بأدنى تدخل بشري، والثانية عبر طيار متواجد في موقع تحكم قد يبعد آلاف الكيلوميترات من قاعدة الإقلاع والهبوط، مثل المسيرة الاستراتيجية التي تستخدمها الميليشيا التي تقلع من مطار نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور أو مطار إحدى دول الجوار، ويتم التحكم بها من مراكز مختلفة في دول أخرى تتعامل بالاستشعار عن بعد ولربما فقدت الاتصال، لكنها قادرة على العودة إلى موقع إقلاعها ـو تحلق في الدائرة التي فقدت فيها الإتصال حتى عودتها".
واستطرد "الآن أصبحت المسيرات العسكرية جزءاً أساسياً لا يتجزأ من طبيعة الحرب الدائرة في البلاد، حيث أن استخدام الدعم السريع للمسيرات الاستراتيجية مكّنها من التكافؤ مع قدرات سلاح الجو التابع القوات المسلحة السودانية، خاصةً أن الأولى تفتقر إلى استخدام الطائرات الحربية المأهولة".
ولفت العميد طيار إلى أنه "في ذات الوقت استطاعت المسيرات التكتيكية الصغيرة التي تحمل عبوات ناسفة أن تعكر استقرار المدن الكبيرة وتسبب لها ازعاجاً مستمراً، فضلاً عن تخريبها محطات الكهرباء بصورة منتظمة كما حدث أخيراً في عطبرة وشندي ومحطة أم دباكر وربك وغيرها، كذلك استطاع الجيش السوداني استخدامها في ضرب مفاصل رئيسة للقوات المتمردة ما أربك خطة تأمين قواتها داخل الخرطوم وعجّل برحيلها من العاصمة".
ذكاء اصطناعي
وأشار الباحث في الشؤون العسكرية والاستراتيجية إلى أن "المسيرات تراقب تحرك قوات طرفي الحرب وتشويش الاتصالات، وهنالك تطبيقات عسكرية عدة قادرة على استخدامها، كما مكّنت كل طرف من الوصول إلى عمق مناطق انتشار الطرف الآخر، مما وفر لهما عدم تعرض أفرادهما للخطر المباشر والحصول على قدر كاف من المعلومات". وزاد "ربما يمتلك الطرفان مسيرات استراتيجية قادرة على التحليق لأكثر من 40 ساعة متواصلة وهي ميزة لا تمتلكها الطائرات المأهولة. كما يمتلك الطرفان مسيرات تقوم بمراقبة وتحذير مناطق قواتهم المعرّضة للخطر خصوصاً في العمليات الليلية، فضلاً عن امتلاكهما مسيرات قادرة على إرسال إحداثيات لوحدات أنظمة المدفعية والمتسللين لتنفيذ ضربات دقيقة للغاية، إذ سبق أن استهدفت الميليشيا طائرات جاثمة في قواعدها خلال شهر رمضان".
وبيّن خالد أن "المسيرات العسكرية ليست مستثناة من برمجيات الذكاء الاصطناعي التي تحسن قدرات تحليل البيانات والكشف عن المخاطر، ويمكن أن تعمل مسيرات عدة مع بعضها في مهمة واحدة، لكن لكل طائرة أهداف قائمة لوحدها ضمن الخطة المرسومة".
وأكد أن امتلاك الميليشيا للمسيرات التكتيكية والاستراتيجية أربك وأزعج الخطط العسكرية للجيش، مما حتّم عليه إعادة خطط تموضع قواته ومدفعياته ذات المديات البعيدة وانفتاح طائراته المأهولة في المطارات المختلفة، مما زاد من الجهد المادي المبذول وقلل من مديات الطائرات حتى تستطيع تنفيذ مهماتها بمدى أفضل ومكوث فترات أطول في الأجواء.
وختم المتحدث حديثه بالقول إن "السباق أصبح عنيفاً بين طرفي القتال، فمن يمتلك أفضل طائرات مسيرة (تكتيكية وعملياتية واستراتيجية) يستطيع أن يحدث تغييراً جوهرياً ومؤثراً على أرض المعركة، بالتالي باتت المسيرات مؤثرة جداً داخل مسرح القتال، فكل يوم يزداد المشهد تعقيداً بالنظر لما تحمله هذه المسيرات من تطور هائل في مكوناتها وتطبيقاتها المستخدمة".
تجسس ومراقبة
من جانبه، اعتبر عضو القيادة المركزية العليا للضباط وضباط الصف والجنود السودانيين المتقاعدين (تضامن) الرائد محمد عبدالمنعم مقلد، أن "لجوء طرفي الحرب إلى استخدام الطائرات المسيرة في الحرب الدائرة الآن يُعتبر نقلة نوعية في إدارة المعركة وعامل فاعل في تحقيق الانتصار علي العدو، إذ تُستخدَم في مهمات عسكرية متعددة تشمل التجسس والمراقبة ونقل المعلومات، إضافة إلى استخدامها في العمليات القتالية لضرب مواقع وتجمعات القوات، في وقت أثبتت نجاحاً فائقاً في ذلك واصبحت سلاحاً مهماً في تحييد العدو وحسم المعركة".
وتابع، "الآن وبدخول هذه المسيرات في حرب السودان وعدم توافرها سابقاً تأكد أن هناك أطراف إقليمية شاركت في تقديم هذا النوع من المسيرات لكل طرف خاصة وأن تأثيرها المعنوي والعسكري عند استخدامها يكون فاعلاً وقوياً. كما أن كلفة استخدامها أقل إذا ما قورنت باستخدام قوات كبيرة على الأرض لتحقيق انتصار ما".
وأردف مقلد "كما أن إصابتها للأهداف الحددة تُعتبر عالية وذات دقة متناهية، لذلك تم التركيز على الأهداف العسكرية والمنشآت والمواقع الحيوية ذات التأثير المعنوي والاقتصادي لتحقيق أكبر قدر من الخسائر، وفي المقابل نجد ايضاً أن تأثير استخدامها يسبب خسائر جسيمة في أرواح المواطنيين وممتلكاتهم، خاصة الذين يقطنون قرب مسارح العمليات العسكرية".
واستبعد أن يكون استخدام هذه الأنواع من المسيرات عاملاً حاسماً في تحقيق الانتصار لكل من الطرفين خاصة وأنه يمكن استخدام تقنيات فنية عالية تشل برمجة المسيّرة خلال تحليقها وتنزلها أو تسقطها قبل أن تصل إلى هدفها، لكن لا نغفل دورها وأهمية استخدامها في المعارك.
ولفت عضو القيادة المركزية العليا للضباط وضباط الصف والجنود السودانيين المتقاعدين إلى أن "كل المؤشرات تؤكد أنه طالما هناك تدخل ودعم خارجي بالسلاح للطرفين فإن أمد الحرب سيطول حتماً".
بداية المسيرات
ويرى مختصون أن هذه الطائرات المسيرة استُخدمت في المناطق السكنية داخل الخرطوم وأم درمان علاوةً على الثكنات العسكرية الحصينة نظراً لقدرتها على اختراق الحواجز في الحالات التي تسبق الاشتباك، إذ استخدمها الجيش بكثافة في أم درمان بعد تراجعه في المساحات المكشوفة وفشله في التقدم في محوري ولايتي سنّار والجزيرة.
وبدأت حرب المسيّرات في الثاني من أبريل (نيسان) 2024 بمقتل 12 شخصاً وإصابة 30، إثر هجوم بمسيّرة على حفل إفطار رمضاني نظمته "كتيبة البراء بن مالك" التابعة للحركة الإسلامية التي تقاتل إلى جانب الجيش، في مدينة عطبرة على بعد 300 كيلومتر شمال الخرطوم.
كما نجا قائد الجيش عبد الفتاح البرهان من استهداف بمسيّرتين، في أواخر يوليو (تموز) الماضي، لحفل تخريج دفعات عسكرية بمعسكر جبيت بولاية البحر الأحمر شرقي السودان، مما أدى إلى مقتل 5 أشخاص وإصابة آخرين.
وكان المتحدث باسم القوات المسلحة، العميد نبيل عبد الله اتهم "الدعم السريع" بهذا الاستهداف، مؤكداً أنه لا توجد جهة تحارب الدولة السودانية حالياً بخلاف تلك الميليشيا.
واستخدم الجيش السوداني نوعين من المسيّرات الإيرانية خلال هذه الحرب، النوع الأول هو مسيرة "مهاجر 6" التي يبلغ طولها 6 أمتار ونصف المتر، فيما يبلغ عرض جناحيها 10 أمتار، وتستطيع التحليق حتى نطاق 200 كيلومتر، وارتفاع 10 آلاف قدم، ويمكنها شن هجمات جوية بذخائر موجهة ذات سقوط حر.
وبعد ثلاثة أسابيع من إسقاط "مهاجر 6"، أُسقطت مسيّرة أخرى تابعة للجيش على أيدي قوات الدعم السريع، تسمى "زاجل 3"، وهي نسخة مصنّعة محلياً في السودان، من المسيرة الإيرانية "أبابيل 3".
واستخدم الجيش استخدم هذا النوع من المسيرات (زاجل 3) منذ سنوات، لكن أول استخدام لها في إطار الحرب كان في يناير (كانون الثاني) 2024، أي بعد نحو 8 أشهر على بداية الحرب.
وفضلاً عن هذه المسيرات استخدم الطرفان مسيرات انتحارية، فالجيش لديه مسيرات من هذا النوع تعمل بتقنية "FPV" أو ما يعرف بطائرات رؤية الشخص الأول، يتم التحكم فيها عبر نظارات خاصة تشبه نظارات الواقع الافتراضي، وجهاز تحكم صغير محمول في اليد، يبلغ وزنها نحو كيلوغرام واحد، ولديها القدرة على الطيران لمسافات قصيرة وارتفاعات منخفضة، وهي قادرة على تتبع الهدف والارتطام به مباشرة.
كما ظهرت أدلة استخدام "الدعم السريع" أخيراً مسيرات انتحارية مصنوعة من مكونات تجارية، أي أنها ليست مسيرات عسكرية، حيث ستُخدمت ضد أهداف تابعة للجيش في شرق البلاد وشمالها.