ملخص
في مدينة المنيا المصرية، أنشأ مسرحيون شباب، ما أطلقوا عليه "تياترو الصعيد" وهي مساحة مسرحية تقع تحت إحدى البنايات على عمق خمسة أمتار تحت سطح الأرض، واستطاعت هذه المساحة العجيبة، ليس اجتذاب جمهور المدينة فحسب، وإنما اجتذاب جمهور القاهرة أيضاً.
إذا كانت مدينة القاهرة، بثقلها ومكانتها التاريخية، تستحوذ على كل الضوء في مصر، ولا بد لكل من يريد، من فناني الأقاليم، نيل جانب من هذا الضوء، أن يشد رحاله إليها، فإن هناك من يسعى إلى أن يستدعي القاهرة إلى حيث يقيم، فيبدو كالمقامر، ربما استطاع استدعاءها بالفعل، وربما أدرك، بعد فترة، أنه وريث دون كيشوت.
في محافظة المنيا (270 كيلومتراً جنوب القاهرة) عدد كبير من المسرحيين، سواء في المدينة الرئيسة نفسها أو في المدن والقرى التي تقع في نطاقها، لكن أكبر مشكلة تواجههم هي عدم توافر مسارح تستوعب تجاربهم، ولهذا فكرت مجموعة من الشباب في تأسيس ما أطلقوا عليه " تياترو الصعيد".
في أحد الأزقة المتفرعة من شارع تجاري يسيطر عليه الباعة الجائلون، اهتدى هؤلاء الشباب إلى "بدروم" إحدى البنايات "مكان يقع أسفل البناية على عمق خمسة أمتار تحت سطح الأرض" كان يستعمل مكباً لنفايات سكان البناية، استأجروه، وأقاموا مساحتهم العجيبة، وبدأوا في تقديم بعض العروض المسرحية، وأتاحوا الفرصة لغيرهم من الفرق لتقديم عروضها.
سخرية وتنمر
في البداية لم يسلم هؤلاء الشباب من سخرية وتنمر الباعة الجائلين، الذين يحاصرون المكان ببضائعهم من ملابس وأحذية ومأكولات، بخاصة أنها منطقة شعبية في مدينة جنوبية، لا يتصور أهلها اجتماع شباب وفتيات تحت الأرض، إلا إذا كانوا يمارسون أعمالاً منافية لعادات وتقاليد المدينة، ظنوا أن هذا المكان ملهى ليلي يقدم الرقص والمشروبات الروحية، فراحوا يضيقون عليهم ويتحرشون بهم، فما كان من هؤلاء الشباب إلا دعوة الباعة الجائلين، هم وأسرهم، لحفل فني بالمجان، مساء الجمعة من كل أسبوع، فأدرك الباعة أن هناك شيئاً جاداً يحدث تحت الأرض، وتحولوا من معارضين لهم إلى متعاونين معهم، ومرشدين جمهورهم إلى تياترو بلدهم.
قدم "تياترو الصعيد" عدداً من العروض المسرحية، وعدداً من الورش التدريبية، وأقام مهرجاناً مسرحياً لعروض الفضاءات غير التقليدية، دعا إليه عشرات المسرحيين والنقاد القاهريين، وعاد هؤلاء بانطباعات جيدة عن التجربة، وكتبوا عنها مبشرين بدخول مدينة أخناتون (المنيا) دائرة الضوء بقوة إذا استمرت هذه التجربة الفريدة في نوعها.
أخيراً قدم "تياترو الصعيد" العرض المسرحي "مدينة الممسوسين" وفي مسمى آخر"بولي أرت" أي سياسة وفن، كتابة نور الهدى طاهر، فكرة وإخراج مؤسس المشروع كيرلس صابر. اللافت في نص العرض أنه كتب مراعياً طبيعة المكان، فلا علبة إيطالية، ولا صفوف يجلس فيها المشاهدون، المكان المخصص للتمثيل ليس أكثر من قاعة مستطيلة، يجلس الجمهور (لا يتعدى 25 شخصاً) على جانبيها، وتدور الأحداث وسطها، وهو ما تمت مراعاته في كتابة النص.
عائلة مسرحية
المدينة الخيالية، التي يتناولها العرض، لا مكان ولا زمان محددين هنا، بها عائلة من الفنانين، أطلق عليهم أهل المدينة "الممسوسين" ما يشير إلى النظرة المتدنية إلى من يعملون بالفن، وكأن بهم مساً من الشياطين، لا عمل لهم سوى المسرح، منهم من يكتب، أو يغني، أو يمثل، أو يتولى الإخراج، وهناك ميثاق بينهم وبين حكام المدينة، أن ينصرفوا إلى فنهم من دون التدخل في أمور الحكم، ومسموح لهم بتقديم عروضهم أيام الإجازات فقط. تواصل هذه العائلة ممارسة الفن على رغم أنه لا يجلب لها سوى القليل من القوت، حتى إن أغلبهم كان يتضور جوعاً، لكن أحداً منهم لم يجرؤ على القيام بعمل آخر، وفقاً للوثيقة التي وقعها جدهم الأكبر مع حكام المدينة.
رويداً رويداً يكتشف حكام المدينة تأثر أهلها بما يقدم لهم من فنون، فيبدؤون في التضييق على الممسوسين، وتجنيد بعضهم لمصلحتهم، ويبدؤون كذلك في استدعاء بعض المساجين من المجرمين ليقدموا فنوناً هابطة تشغل الناس عن الفنون الجادة التي يقدمها الممسوسون، كما يدبرون حريقاً يودي بحياة عدد من الممسوسين.
في العرض خطوط فرعية أخرى تتعلق بقصة حب بين ابن الحاكم ومغنية من الممسوسين، وكذلك سعي ابنة الحاكم إلى تجربة حظها في التمثيل، وهي وإن كانت خطوط لا تضيف شيئاً لدراما العرض، فإنها تسهم في تشكيل فرجة مسرحية فيها من التسلية والمتعة ما يسري على جمهور يقبع طوعاً، وعلى مدى ساعتين، تحت الأرض، فضلاً عن أنها تخفف من ثقل الرسالة التي تشير بوضوح إلى كراهية السلطة القامعة، أي سلطة قامعة، للفن الذي يطور وعي الناس، وتدخلها في صناعة وفرض فنانين على هواها ينشرون القبح والسطحية بين الناس، ليظلوا على جهلهم أداة طيعة في يديها.
رسالة ناعمة
رسالة تم بثها بنعومة، وتلقي بظلالها على أحداث شهدتها مصر، ومنها محرقة المسرحيين في محافظة بني سويف عام 2005، وكذلك انتشار أغاني المهرجانات، ومسرح الإفيهات، واحتفاء الإعلام بهذه الظواهر التي تكاد تتسيد الساحة الآن. مجموعة كبيرة من الممثلين الموهوبين ضمها العرض، في الأدوار الرئيسة مايفن أشرف، عبد الباقي جمال، مريام عزيز، محمد سمير، صموئيل رامز، كيرلس حبيب، حسام مصطفى، جانو وائل، ساندي أيمن، داليدا أشرف، مينا عبد السيد، يوسف باسم.
ومن أهالي المدينة محمد عماد، كيرلس ملاك، كرم إبراهيم، يوسف إسماعيل، يوسف حميدو، حازم عمر، عمر التركي. كما تضمن العرض مجموعة من الأغاني، كتابة يوسف باسم ونور الهدى طاهر، أداء مريم نادي، جيسي جرجس، إيرني سامي.
ديكورات العرض (تصميم وائل درويش وأمينة حسن) جاءت بسيطة وتعبيرية، على اليمين الأسرة الحاكمة، تدور أغلب مشاهدها داخل إطار يشبه "صندوق الدنيا" ما يشير إلى الرغبة في مسخرة السلطة، وإظهارها كما لو كانت مجموعة من المضحكين، وفي المواجهة أقصى يسار القاعة مكان عائلة الممسوسين، منصة مسرحية مرتفعة قليلاً عن سطح الأرض، خلفها ما يشبه البيت بحجراته المتواضعة، وفي منتصف القاعة ما يشبه محلات الباعة في سوق المدينة، كلها مجرد موتيفات تعبر عن المكان ليس أكثر، لكنها تفي بالغرض جمالياً ووظيفياً، وتتيح مساحة واسعة للتمثيل والاستعراض وحركة الممثلين، بخاصة أننا بصدد مكان محدود المساحة أصلاً.
في العرض لمحات من الميلودراما كان يمكن اختزالها، وكذلك بعض الأداءات التمثيلية التي تميل أكثر إلى أساليب السينما والتلفزيون، ربما أدت إليها طبيعة المكان والتحام الممثلين بالجمهور، وربما إلى قلة الخبرة لدى البعض، لكننا في النهاية أمام تجربة مسرحية مختلفة ومغامرة، استطاعت، بأدوات بسيطة وإمكانات مادية محدودة، أن تحقق كل هذا الثراء الفني والفكري.
يستطيع "تياترو الصعيد" أن يكون أكثر جذباً لجمهور القاهرة وغيرها من محافظات مصر، إذا سعى إلى تقديم تجاربه الخاصة، فهو ينتمي إلى محافظة جنوبية، كانت يوماً عاصمة لمصر القديمة، فيها من القصص والحكايات والعادات والتقاليد والكنوز الفنية ما يخصها وحدها، ويحتاج من مسرحييها نفض الغبار عنه وتوظيفه مسرحياً، إلى جانب العمل على نصوص معاصرة في الوقت نفسه، وهو ما علمت أن الشباب يضعونه في حساباتهم.