ملخص
تفجر الحرب في غزة وتفاقم الصراع بالسودان، وتوسع رقعة وشكل الصراع في اليمن، وتأرجح قدرات الخدمات الصحية بحسب الأوضاع السياسية والأمنية في دول أخرى مثل لبنان وليبيا جميعها عوامل تؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي تحمل النساء والأطفال والرضع العبء الأكبر من المعاناة في الحروب والصراعات والقلاقل الأمني
الحمل ليس مرضاً لكنه يحتاج إلى رعاية صحية دورية. والولادة لا ينبغي أن تكون مخاطرة، لكن وجود طواقم طبية مؤهلة ضرورة. والأطفال الرضع لا ينبغي أن يكونوا ضمن الفئات المعرضة لخطر الموت إلا لو انعدمت أبجديات الرعاية الصحية، وتبددت قواعد الرعاية وتقلصت مبادئ الإنسانية عمداً، أو مع توافر إمكانية تقديم الرعاية، لكن عدم توافر إرادة إتاحتها.
وإذا كان المدنيون في أماكن الصراع والحروب يعانون نقص الرعاية الصحية وغياب الطواقم الطبية والأدوية، فإن النساء الحوامل واللاتي وضعن حديثاً والرضع عرضة لأضعاف المعاناة والأخطار التي تصل إلى حد الموت.
الحوامل في خطر
على سبيل المثال، وبحسب تقرير صدر عن "هيومن رايتس ووتش" عنوانه "غزة: النساء الحوامل في خطر"، حتى يناير (كانون الثاني) الماضي، لم تتوافر رعاية الطوارئ للتوليد وحديثي الولادة في غزة إلا في سبعة من مجموع 18 مستشفى تعمل جزئياً، وأربعة من مجموع 11 مستشفى ميدانياً، ومركز صحي مجتمعي واحد بقي قادراً على تقديم بعض من خدماته، من مجموع 20 مركزاً كانت تعمل قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023.
بطبيعة الحال، لا تتوافر أرقام أو إحصاءات موثقة أو موثوقة عن معدلات بقاء المواليد الجدد على قيد الحياة، أو عدد النساء المصابات بأمراض خطرة أو يتوفين في أثناء الحمل والولادة، لكن منظمة الأمم المتحدة للطفولة" (يونيسيف) أفادت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي بأن معدلات الإجهاض التلقائي في غزة ارتفعت بنسبة تصل إلى 300 في المئة منذ السابع من أكتوبر 2023.
وضع النساء الحوامل والرضع في اليمن ليس أفضل كثيراً. غالب المرافق الصحية في اليمن يعاني كثيراً جراء طول أمد الصراع. نقص المعدات والأطقم الطبية يؤثر سلباً في الجميع، والمرأة الحامل والرضيع على رأس قائمة المعاناة.
بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، تموت امرأة في اليمن كل ساعتين أثناء الحمل أو الولادة، وتعاني نحو 5.5 مليون امرأة في سن الإنجاب من صعوبة أو استحالة الوصول إلى خدمات الأمومة الصحية، وبين كل 10 ولادات، تجري ست منها من دون مساعدة طبية، ولا حتى قابلة. ويبلغ معدل وفيات الرضع في اليمن 41.1 وفاة لكل 1000 ولادة حية، وهو ما يعد ضعف المتوسط العالمي.
أما السودان فيسجل واحدة من أعلى معدلات وفيات الأمهات عالمياً. تفقد 1223 امرأة لكل 100 ألف امرأة أثناء الولادة. والعبء مماثل على المواليد الجدد، إذ يموت 40 مولوداً بين كل 1000 ولادة حياة، وتبلغ معدلات ولادة جنين ميت نحو 26 حالة لكل 1000. هذه الأرقام المفزعة نتيجة للصراع الذي ألقى بظلاله على الخدمات الصحية، لا سيما الإنجابية.
لهؤلاء وغيرهن الملايين من نساء العالم ومواليدهن ممن يدفعون حياتهن ثمناً لغياب أو نقص أو إهمال رعاية، ولكل من يعد الحمل والولادة مسائل هينة لا تحتاج إلى رعاية أو تتطلب حماية، لكن الجهات التي تخلت أو تنوي التخلي عن دورها في مساندة نساء العالم ومواليدهن، يحمل "اليوم العالمي للصحة" هذا العام عنوان "بداية صحية لمستقبل واعد".
الحكومات والمنظمات والهيئات مطالبة بتكثيف جهودها لإنهاء وفيات الأمهات والمواليد التي يمكن الوقاية منها، وإعادة المسار إلى طبيعته الأخلاقية والإنسانية، حيث صحة المرأة ومولودها أولوية، وليست رفاهية.
المنظمات الأممية، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية وصندوق الأمم المتحدة للسكان و"يونيسيف" ومجموعة البنك الدولي تدشن اليوم (السابع من أبريل) تقريراً عن معدلات وفيات الأمهات ومواليدهن حول العالم، وهو التقرير الذي وصفته المنظمات التي أصدرته بـ"المفجع".
نحو 300 ألف امرأة تفقد حياتها بسبب الحمل أو الولادة سنوياً. مليونا طفل يموتون في الشهر الأول من حياتهم. يولد نحو مليوني طفل جثة هامدة، وهو ما يقارب حالة وفاة واحدة يمكن منعها كل سبع ثواني.
وبعد أعوام تحققت فيها إنجازات معقولة على صعيد تحسين الخدمات الصحية المقدمة للمرأة الحامل وأثناء الولادة وبعدها وللرضع، فإن أربعاً بين كل خمس دول بدأت تبتعد عن المسار الصحيح الهادف إلى تحسين معدلات بقاء الأمهات على قيد الحياة. كما لن يبلغ بلد من كل ثلاثة بلدان هدف الحد من وفيات المواليد.
عربياً، كان معظم الدول قد نجح بدرجات متفاوتة في تراجع وفيات الأمهات، وذلك بفضل تحسين الوصول إلى خدمات تنظيم الأسرة، والرعاية المتخصصة في أثناء الولادة، ورعاية التوليد في الحالات الطارئة. ورغم أن غالبية الدول العربية تمكنت من الوصول إلى أقل من 70 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة حية، فإن هذا التقدم شهد ركوداً بين عامي 2015 و2020. ثم تراجعاً وتقهقراً في الأعوام الأخيرة بفعل تمكن الصراعات وطول أمدها في عدد من الدول.
الأزمات الإنسانية، وتفجر الصراعات، واستمرار بعضها لما يزيد على عقد، ووصول بعضها درجة الإبادة، يجعل من صحة النساء وأطفالهن في دول الصراع العربي موضع خطر مستمر.
القاعدة الذهبية المعروفة تقول "تنهار الأنظمة الصحية، وترتفع وفيات الأمهات والمواليد"، وهذا تحديداً ما يجري في دول الصراع العربي، وهي الدول والأنظمة الصحية التي تحتاج بشكل عاجل إلى خدمات منقذة للحياة واستثمارات إنسانية مستدامة لوقف الوفيات التي يمكن منعها.
الوقاية خير من الموت
وإذا كانت الوقاية خيراً من العلاج، فإن توفير رعاية ما قبل الولادة وأثناءها، وبعدها خير من الموت أو الإصابة بأمراض ومضاعفات كان يمكن تجنبها.
رعاية ما قبل الولادة المتفق عليها أممياً هي تلك التي يقدمها الاختصاصيون الصحيون للنساء أثناء فترة الحمل. هي جزء لا يتجزأ من الرعاية الصحية الأساسية للأمهات. وتوصي منظمة الصحة العالمية بأن تحصل النساء الحوامل على ما لا يقل عن ثماني زيارات للرعاية قبل الولادة، إذ تخضع الحامل لاختبارات لكشف مبكر عن علامات الأمراض، مثل نقص الوزن أو فقر الدم أو ارتفاع ضغط الدم أو العدوى، إضافة إلى متابعة صحة الجنين. وخلال هذه الزيارات، تتلقى النساء إرشادات حول التغذية والنظافة لتحسين صحتهن قبل الولادة وبعدها.
أما رعاية ما بعد الولادة التي تقدم خلال الـ24 ساعة الأولى بعد الولادة، وفي اليوم الثالث بعدها، ثم في الأسبوعين الثاني والسادس، فبالغة الأهمية كذلك، إذ يمكن أن يحدث أثناء تلك الفترة نزف أو تسمم الدم أو اضطرابات ضغط الدم المرتفع. كما تمكن فحوص ما بعد الولادة فرصة التحقق من حال الصحة النفسية للأم. كما يكون الأطفال حديثو الولادة في غاية الضعف في فترة ما بعد الولادة مباشرة، وهو ما يعني حاجة ماسة لرعاية المواليد الجدد حتى لا يعانوا طوارئ أو أمراضاً صحية.
في اليوم العالمي للصحة هذا العام، يبدو الحديث عن صحة المرأة الحامل التي وضعت حديثاً، وتقديم الرعاية الصحية لها ولمولودها حتى ولو لم يعانيا أمراضاً أو أخطاراً، أشبه بالأحلام في ظل الصراعات وعدم اليقين والقلق التي تجتاح عدداً من الدول العربية.
في مطلع مارس (آذار) الماضي، أصدر المكتب الإقليمي لصندوق الأمم المتحدة للسكان للدول العربية بياناً تحذيرياً لما وصفه بـ"حصار المساعدات المفروض على غزة، الذي يلقي بظلال وخيمة بشكل خاص على عواقب بعيدة المدى على النساء والفتيات".
جاء في البيان أن قرار الحكومة الإسرائيلية منع دخول المساعدات إلى غزة وهو ما من شأنه أن يسبب مزيداً من المعاناة للنساء والفتيات في غزة، ويهدد صحتهن ويمس كرامتهن. وأشار إلى أنه "على مدار أكثر من 15 شهراً، جرى تجاهل القانون الإنساني الدولي من قبل إسرائيل، التي يجب عليها أن تسهل تسليم المساعدات الإنسانية بغض النظر عما إذا كان وقف إطلاق النار صامداً أم لا؟".
واستعرضت المنظمة الجهود التي قدمتها في الفترة الوجيزة التي دخل فيها اتفاق وقف إطلاق النار حيز التفعيل، ورغم ذلك بقيت حاجات النساء والفتيات هائلة، "إذ خلفت الحرب دماراً لا يمكن تصوره، وانتشر المرض والجوع وأصبح النظام الصحي في حال خراب. ويقدر عدد النساء الحوامل غير القادرات على الوصول إلى الرعاية المنقذة للحياة بنحو 50 ألف امرأة".
اعتياد الموت وتخدير الأرقام
كان هذا قبل خرق وقف إطلاق النار، ومعاودة القصف والنزوح، وهو ما يعني أن وضع النساء الحوامل واللاتي وضعن حديثاً والمواليد في خطر مضاعف.
ويحذر الخبراء من اعتياد عدادات الموت والإصابة والمرض والجوع، مما دفع مدير عام منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبرييسوس إلى التحذير مما سماه "قدرة الأرقام على تخديرنا. يقول في إشارة إلى ما ورد في التقرير من معلومات عن وفيات الأمهات والمواليد التي كان يمكن منعها، "من الضرورة ألا نعتاد هذه الأرقام ونحن نعلم أن كل النساء تقريباً في هذا التقرير كان يمكنهن النجاة من الحمل والولادة لو أتيحت لهن فرصة كافية للحصول على الرعاية المنقذة للحياة قبل الولادة وأثناءها وبعدها".
ورغم أن تقرير هذا العام عن البداية الصحية والمستقبل الواعد يتطرق إلى الجودة وتوسيع الإتاحة وتحسين الكفاءة، فإن أوضاع النساء في دول الصراع العربي تتطرق إلى ما هو أكثر بدائية من ذلك، ألا وهو الإتاحة ولو كانت أولية.
حين يشير الوضع على الأرض في غزة إلى أن المرافق الطبية القليلة المتبقية ومقدمي الخدمات الباقين على قيد الحياة يسارعون إلى إخراج النساء عقب وضعهن مواليدهن على عجل بعد ساعات قليلة من الولادة، وذلك لإفساح فرص العلاج الشحيحة للمصابين الجدد، وحين يعاني القطاع الصحي كله نقصاً خطراً في المواد الصحية الأساسية، فإن الحديث عن الجودة والكفاءة يصبح حلماً وخيالاً.
التقرير الصادر اليوم يشير إلى أن النساء الحوامل اللاتي يعشن في حالات طوارئ إنسانية يواجهن الأخطار الأعلى عالمياً. نحو ثلثي وفيات الأمهات عالمياً في البلدان المتضررة من الهشاشة أو النزاعات.
كما يتطرق إلى استمرار أوجه عدم المساواة بين المناطق والبلدان وتفاوت التقدم المحرز في صحة الأمهات ومواليدهن. فمثلاً، مع انخفاض معدل وفيات الأمهات بنحو 40 في المئة بين عامي 2000 و2023، حققت أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى مكاسب كبيرة، وكانت واحدة من ثلاث مناطق فحسب، إلى جانب أستراليا ونيوزيلندا، وآسيا الوسطى والجنوبية، التي تشهد تحسناً كبيراً. ورغم ذلك، فإنه في ظل ارتفاع معدلات الفقر والصراعات، لا تزال منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تحمل وحدها نحو 70 في المئة من العبء العالمي لوفيات الأمهات في 2023.
تفجر الحرب في غزة، وتفاقم الصراع في السودان، وتوسع رقعة وشكل الصراع في اليمن، وتأرجح قدرات الخدمات الصحية بحسب الأوضاع السياسية والأمنية في دول أخرى مثل لبنان وليبيا جميعها عوامل تؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي تحمل النساء والأطفال والرضع العبء الأكبر من المعاناة في الحروب والصراعات والقلاقل الأمنية.
وكأن كل ما سبق لم يكن كافياً لتضييق الخناق الصحي على نساء وأطفال مناطق الصراع العربية، فإذ بالتراجع غير المسبوق في المساعدات والمنح المقدمة لهذا المجال يفاقم من الخطورة ويضع مزيداً من النساء والأطفال في فوهة الموت والمرض.
فقدان التمويل
يسلط التقرير الضوء على العامل المستجد شديد الخطورة، وهو تخفيضات التمويل الإنساني المفاجئة والمباغتة، التي بدأت تؤثر سلباً في بديهيات الرعاية الصحية الأساسية في أنحاء عدة من العالم، وهو ما يجبر الدول على تقليص خدماتها الحيوية لصحة الأم والوليد والطفل. وأدت التخفيضات بالفعل إلى إغلاق مرافق صحية وتسريح كثير من العاملين الصحيين. كما عطلت سلاسل توريد الإمدادات والأدوية المنقذة للحياة، مثل علاجات النزف وتسمم الحمل والملاريا، وجميعها أسباب رئيسة لوفيات الأمهات. أما الآثار في أماكن الصراع، فمزرية لدرجة يصعب تصورها.
تقول المديرة التنفيذية لـ"يونيسيف" كاثرين راسل إنه "عندما تموت الأم أثناء الحمل أو الولادة، تكون حياة طفلها أيضاً في خطر. وفي كثير من الأحيان، يفقد كلاهما لأسباب كان يمكن تجنبها". مضيفة "إن تخفيضات التمويل العالمي للخدمات الصحية تعرض مزيداً من النساء الحوامل للخطر، لا سيما في أكثر البيئات هشاشة، وعلى رأسها أماكن الحروب والصراعات، وذلك من خلال الحد من حصولهن على الرعاية الأساسية أثناء الحمل والدعم الذي يحتجنه عند الولادة".
في اليوم العالمي للصحة، الذي اُختير له هذا العام موضوع صحة الأمهات والمواليد، تفرض وقائع البعد العربي الحالي نفسه. النزوح الجماعي يفرض ضريبة صحية مضاعفة على النساء والفتيات والمواليد والأطفال. الحياة اليومية "العادية" في المخيمات بالغة الخطورة على النساء، لا سيما الحوامل واللاتي وضعن حديثاً والفتيات والمواليد. آلاف النساء الحوامل والمرضعات والمواليد والأطفال على شفا المجاعة في دول الصراع العربية، إضافة إلى تفاقم أخطار الإجهاض، حيث ظروف النزوح والقلق والخوف، وبالطبع نقص أو غياب الخدمات الصحية. واحدة من كل امرأتين تتوفيان أثناء الحمل أو الولادة تعيش في منطقة صراع. معدل وفيات الأمهات في السياقات الهشة، وعلى رأسها الصراعات، أعلى بأكثر من 40 مرة منه في الدول النامية.
"مولودون في الجحيم" ليس عنوان تقرير أو فيلم، لكنه عنوان خروج مواليد إلى الحياة في أوضاع الحرب والصراع وعدم الاستقرار. صدمة الحرب تؤثر بشكل مباشر في الأطفال حديثي الولادة وأمهاتهم. هم يصلون الدنيا على وقع القصف وفي بيئة تعاني نقص التغذية والإمدادات الطبية واللقاحات والأمصال وغيرها من الحاجات الأساسية التي تقي الصغار وأمهاتهم شرور الموت.
من جهة أخرى ألقى التقرير الضوء للمرة الأولى على تأثير كورونا في صحة الأمهات الحوامل ومواليدهن. قدر عدد وفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة أثناء الجائحة بسبب الحمل والولادة بنحو 40 ألف حالة، ليرتفع العدد عام 2021 إلى 322 ألف وفاة مقارنة بـ282 ألف حال عام 2020. ولم يقتصر الأمر على الارتفاع على المضاعفات المباشرة للجائحة، بل امتد إلى الانقطاعات الواسعة النطاق في خدمات رعاية الأمومة. وهذا يبرز أهمية ضمان هذه الرعاية أثناء الأوبئة وحالات الطوارئ الأخرى، مع الإشارة إلى أن النساء الحوامل في حاجة إلى وصول موثوق إلى الخدمات والفحوص الروتينية، إضافة إلى الرعاية العاجلة على مدار الساعة.