ملخص
كثفت دول مثل الجزائر والمغرب من إنفاقها العسكري في الأعوام الأخيرة بشكل يعكس حجم توجسها من تطورات المنطقة لا سيما اضطرابات الساحل الأفريقي حيث تتزايد حركات التمرد وأنشطة الجماعات المتطرفة.
أثار إعلان الجيش الجزائري عن إسقاط طائرة مسيرة في منطقة تين زاوتين اخترقت أجواء جنوب البلاد قادمة من مالي، تساؤلات حول ما إذا كانت منطقة شمال أفريقيا ستدفع فاتورة الاستخدام المتزايد لتلك الطائرات في منطقة الساحل الأفريقي.
ورغم أن الأنظار توجهت خلال الساعات الماضية إلى التوتر الدبلوماسي الذي أفرزته هذه الحادثة، فإن التساؤلات التي تخامر أذهان كثر تتمحور حول الخطر الذي تمثله المسيرات، التي باتت بيد الجيوش والجماعات المسلحة على حد سواء في منطقة الساحل الأفريقي، على دول الجوار.
ولجأت الأنظمة التي تحكم دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر وهي أنظمة منبثقة عن انقلابات عسكرية إلى اقتناء مسيرات تركية من طراز "بيرقدار"، ومن روسيا أيضاً، وذلك ضمن مساعيها المكثفة لتطوير ترسانتها العسكرية بهدف كسب الحرب ضد الجماعات المسلحة سواء تلك المتشددة أو المتمردة.
قادرة على التصدي
هذا الإعلان يزيد الشرخ في العلاقات بين الجزائر ومالي المتوترة أصلاً منذ أشهر، إذ استدعت باماكو ونيامي وواغادوغو، في وقت مبكر من صباح اليوم الإثنين، سفراءها من الجزائر.
وتنضوي مالي والنيجر وبوركينا فاسو تحت لواء "تحالف الساحل" الذي استدعى سفراءه من الجزائر احتجاجاً على إسقاط الأخيرة طائرة مسيرة مالية، مما يفتح الباب واسعاً أمام التكهنات في شأن تداعيات هذه الحادثة. وتسلط هذه الحادثة الضوء على الرهان المتزايد على الطائرات من دون طيار في دول الساحل الأفريقي، التي تعاني اضطرابات أمنية مزمنة، إذ أبرمت هذه الدول صفقات مهمة لتعزيز أسطولها العسكري بهذا النوع من الأسلحة.
وكانت مالي آخر من تسلم دفعة جديدة من الطائرات المسيرة قبل أشهر، عندما أشرف رئيسها الانتقالي آسيمي غويتا بنفسه على استقبال ست طائرات "بيرقدار" تم اقتناؤها من تركيا.
وقال الباحث العسكري الجزائري المتخصص في الشؤون الأفريقية، أكرم خريف، إن "دول شمال أفريقيا قادرة على التصدي للمسيرات القادمة من الساحل الأفريقي، لأن دول المغرب العربي تملك أنظمة دفاع جوي وخصوصاً المغرب وتونس والجزائر وليبيا لها قدرة على رصد الأهداف الجوية ما وراء حدودها والتعامل معها عسكرياً". وأردف خريف "إن استعمال المسيرات من طرف الجيش المالي بدأ تزامناً مع تدخل قوات فاغنر الروسية وبداية العمليات ضد مدنيين في شمال مالي، في أبريل (نيسان) من عام 2022 أي بعد الانقلاب الذي قاده آسيمي غويتا آنذاك، وقصف الجيش المالي عديداً من الأهداف المدنية والعسكرية طوال الأعوام الماضية". وذكر أن "هناك مواطنين سقطوا ضحايا قصف المسيرات في مالي من بينهم أجانب من التشاد والنيجر والجزائر نفسها، وهنا يكمن خطر هذه الطائرات التي بات اللجوء إليها متزايداً في غرب أفريقيا، لكن الجزائر تملك قدرة على اعتراض المسيرات".
وشدد المتحدث على أن "المسيرات أصبحت لعبة تستعملها بعض الجيوش مع الأسف رغم أن حصيلة الضحايا من مواطنين وغير ذلك كبيرة، والجزائر نفسها عانت ذلك، لاسيما أخيراً من جانب مالي، وتعاملت مع ذلك الآن من خلال تحطيم هذه المسيرة".
تهديد حقيقي
ويطرح تزايد عمليات الكر والفر بين جيوش الساحل الأفريقي التي تسعى إلى بسط سيطرتها على أراضيها من جهة، والجماعات المسلحة من جهة، مخاوف جدية من اتساع رقعة الصراع نحو دول الجوار خصوصاً مع تسجيل حوادث لافتة.
وقال رئيس تحرير مجلة "لوديبلومات ميديا"، المؤرخ والباحث المتخصص في الشؤون الأفريقية، رولان لامباردي، إن "جيوش منطقة الساحل، فضلاً عن بعض الجماعات المسلحة غير الحكومية الموجودة في هذه المنطقة، تملك بصورة متزايدة طائرات من دون طيار خفيفة ووسائل للمراقبة أو الهجوم الدقيق".
وأوضح لامباردي أن "إعلان الجيش الجزائري إسقاط طائرة من دون طيار قادمة من مالي يوضح التطور التكنولوجي لمسرح العمليات في منطقة الساحل ومدى التسلل الحدودي في هذه المنطقة".
وفي رأيه فإن "المسيرات في الساحل الأفريقي تشكل تهديداً حقيقياً لكنه محدود إذ غالباً ما تظل الطائرات من دون طيار التي تنشرها جيوش دول الساحل، صغيرة الحجم وتتمتع باستقلالية متوسطة. وتعتمد قدرتها على التأثير في أمن دولة مجاورة على مدى تطور الطائرة وقدرة حمولتها الهجومية وغير ذلك".
ولفت لامباردي إلى أن "الجماعات الإرهابية والإجرامية في المنطقة أيضاً تهتم بهذه التقنيات، لكن مواردها تبقى محدودة نسبياً لاقتناء المسيرات".
إمكانات عسكرية مختلفة
في خضم ذلك، تبقى التساؤلات ملحة حول قدرة دول المغرب العربي وشمال أفريقيا على التصدي لهذا التهديد الأمني الجديد.
وقال رولان لامباردي، "من أجل تعزيز قدرات الاستجابة في دول شمال أفريقيا لهذا التهديد، هناك إمكانات عسكرية مختلفة لهذه الدول، فالجزائر على سبيل المثال، بفضل موازناتها الدفاعية الكبيرة ومعداتها الحديثة بما في ذلك أنظمة الدفاع المضادة للطائرات والطائرات من دون طيار، فإنها قادرة على مراقبة حدودها بشكل فعال والتدخل بسرعة، ويؤكد مثال الطائرة المسيرة التي أُسقطت على اليقظة العالية". وتابع أن "المغرب يستثمر أيضاً في تقنيات الدفاع، بما في ذلك أنظمة مكافحة الطائرات من دون طيار، بالاعتماد على الشراكات الدولية مثل الولايات المتحدة، وإسرائيل، وغيرهما".
وأشار إلى أن "الدول المغاربية الأخرى تكتسب مزيداً من الكفاءة، لكن بشكل غير متساو، ومع ذلك يتزايد الوعي الجماعي بالأخطار المرتبطة بالطائرات من دون طيار، مما يدفع إلى تحديث الدفاعات".
توازن القوة الرادع
وبالفعل، كثفت دول مثل الجزائر والمغرب من إنفاقها العسكري في الأعوام الأخيرة بشكل يعكس حجم توجسها من تطورات المنطقة لا سيما اضطرابات الساحل الأفريقي حيث تتزايد حركات التمرد وأنشطة الجماعات المتطرفة.
وتتخذ دول شمال أفريقيا مواقف متضاربة من الوضع في الساحل، فبينما تنتقد الاستعانة بالمرتزقة وشركاء أجانب جدد تراقب المغرب وتونس وليبيا وموريتانيا بحذر الواقع الجديد في الساحل الأفريقي.
وقال لامباردي، "في منطق الواقعية السياسية، تسعى دول المغرب العربي إلى الحفاظ على توازن القوة الرادع: فإظهار القدرات المضادة للطائرات من دون طيار يشكل ضرورة أمنية بقدر ما هو رسالة سياسية".
وأبرز أنه "من المؤكد أن الطائرات من دون طيار في منطقة الساحل (أو تلك التي تستخدمها الجماعات المسلحة) تشكل تهديداً، ولكن لا يزال محصوراً، بالنسبة إلى الدول المجاورة".
وأكد لامباردي أن "دول شمال أفريقيا، وخصوصاً الجزائر، تملك جيوشاً مجهزة تجهيزاً جيداً نسبياً وقادرة على مواجهة هذا النوع من التوغل. ومع ذلك فإن فعالية هذه الدفاعات تعتمد على التحديث المستمر للتكنولوجيات ومبادئ الاستخدام".