ملخص
أهم الجديد الحاصل هو استمرار وجود "حماس" على قيد الحياة تنظيمياً ولو بحجم أصغر وقدرات عسكرية تتقلص، إذ بفضل مسألة الرهائن تمكنت الحركة من إطالة أمد وجودها العسكري عبر التفاوض وضغط الأنصار في الخارج.
منذ عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 كتبنا وكتب غيرنا عن تطور هذه الحرب وامتداداتها ووقعها على المنطقة وعن أهم تداعياتها، وصولاً بالطبع وبصورة خاصة إلى محاولة استنباط شكل انتهائها. وطرحنا سيناريوهات متعددة لوقف الحرب، لكن إبان فترة الرئيس الأميركي جو بايدن مرت الفرص الواحدة تلو الأخرى ومر الدهر عليها، ومع دخول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، تغيرت الطواقم وبالطبع تبدلت الخطط.
وتطورت أيضاً الظروف الإقليمية بما فيها سيطرة "هيئة تحرير الشام" على العاصمة دمشق وتوسع الاشتباك بين أميركا والحوثيين وتعمق الشرخ بين إدارة ترمب والاتحاد الأوروبي، وأخيراً وليس آخراً دمرت إسرائيل البنية الرئيسة لـ"حزب الله" وانقطع التواصل الجغرافي بين الحزب وإيران. ومع كل هذه التحولات باتت هناك مواقف جديدة ومصالح مستحدثة وإعادة حسابات جديدة، بالتالي فإن السيناريوهات تطورت. فلنحاول أن نستشرف الخيارات المطروحة.
أهم الجديد الحاصل هو استمرار وجود "حماس" على قيد الحياة تنظيمياً ولو بحجم أصغر وقدرات عسكرية تتقلص، إذ بفضل مسألة الرهائن تمكنت الحركة من إطالة أمد وجودها العسكري عبر التفاوض وضغط الأنصار في الخارج. فـ"حماس" هي في وضع الانتظار ليحدث شيء ما ينقذها، والآلة العسكرية الإسرائيلية تتقدم ببطء ومعروف أنها ستصل إلى السيطرة الكاملة ولو تأخرت. لذا فاستراتيجية "حماس" والمحور الإيراني أن تطيل الوقت قدر الممكن ولكن السؤال هو حول الوقت، والمعروف أن إسرائيل لن تسمح بأشهر وأعوام ولدى إدارة ترمب أربع سنوات. فكيف يمكن لطهران أن تماطل لسنوات؟
ربما أن لإيران استراتيجية لالتهاب الوقت وأثبتت ذلك خلال العقود الماضية، إلا أنها هي نفسها لديها مشكلة مباشرة مع الولايات المتحدة وهي السلاح النووي. فالرئيس ترمب أبلغ المرشد الإيراني علي خامنئي بأنه يريد اتفاقاً يلغي النووي ودعم الميليشيات أو قد يشن حملة لإلغاء هذا السلاح وتوجيه ضربات موجعة للنظام. وهنا يصبح التحدي أكبر أمام طهران. فما هو الأهم أمام إيران، النظام أم "المقاومة الإسلامية"؟
لذا فالاستراتيجية الإيرانية تتقدم على محورين، الأول بكسب الوقت مع ترمب أي مد المفاوضات إلى أبعد الحدود بكل الوسائل الممكنة، ويبدو أن طهران درست أولويات إدارة الرئيس ترمب وخلصت إلى أنه يفضل التوصل إلى صفقة أولاً. لذا فاسترتيجية طهران تتلخص في استدراج واشنطن نحو الأمل الدائم ولكن من دون التوصل إلى صفقة كبرى، ومن الممكن أن يسعى النظام إلى "حرق الوقت" حتى تأتي تطورات تقلب الميزان أو تقيم "ستاتيكو" جديداً. بالتالي فإن طهران تضع الأولوية على إنقاذ النظام أولاً وبعد ذلك ربما تحاول "إنقاذ حماس". فهذه الأخيرة، كما فعل "حزب الله" في لبنان، ستتكل على القوة الأم في طهران لكي تدير التفاوض أو تدير المعركة.
من جهتها تقع إدارة الرئيس ترمب تحت ضغطين، الأول يتمثل في التيار الانعزالي والمناصر للصفقات والرافض للمواجهة مع إيران، ولهذا التيار تأثير في بعض أوساط ترمب. أما الضغط الآخر فهو يأتي من أوساط الدفاع والأمن القومي، ضغط لفك الاشتباك مع إيران و"حماس" يأتي أيضاً من لوبي الاتفاق النووي وضغط لإنهاء "حماس" وإضعاف النظام يأتي من إسرائيل وحلفائها في أميركا. لذا فمعادلة "حماس" مع واشنطن تختلف عن معادلة واشنطن مع طهران. فترمب لا يأبه بمصير الحركة بقدر ما سيحاول تحقيق صفقة مع إيران. وقد يصل مثل هذا السيناريو إلى حد اتجاه ترمب لعقد صفقة مع القيادة الإيرانية من ناحية وإعطاء الضوء الأخضر لنتنياهو لإنهاء "حماس" في غزة. ولكن هل تقبل إيران بالتضحية بـ"حماس"؟ نعود لنقطة الصفر، طهران لن تضحي بالحركة ولكن إذا كان الثمن نجاة النظام فالمنطق الاستراتيجي يملي بإنقاذ الكبير قبل الصغير.
وإسرائيل هي على استعجال استراتيجي، فبعكس واشنطن وإدارة ترمب لا تملك أربعة أعوام لتتمهل، إذ إن حكومة نتنياهو تريد إنهاء ملف "حماس" عسكرياً لتتمكن من مناقشة ملف غزة بتأنٍّ. وكلما طالت الحرب في القطاع وكلما أراد الرئيس الأميركي أن يأخذ وقته ليختبر الصفقات، شعرت إسرائيل بخسارة الوقت ميدانياً، إذ إن عدم تفكيك "حماس" كلياً سيؤثر في الأهداف الكبرى الإسرائيلية وأهمها إنهاء الحركة والعمل على مستقبل القطاع فوراً، وإنهاء "حزب الله" في لبنان، والتشارك مع واشنطن في إضعاف الحوثيين والميليشيات الإيرانية في العراق، وبالطبع ضرب المشروع النووي الإيراني. ومما زاد الضغط على إسرائيل تغيير النظام في سوريا وسيطرة "هيئة تحرير الشام" على الوضع. لذا فإسرائيل تريد السرعة في حسم ملف غزة بينما تأخذ الإدارة الأميركية وقتها.
وفي خضم هذه الأوضاع المتشابكة والمتداخلة دخل ترمب من الباب الواسع في مشروع إعادة إعمار غزة كقطاع سياحي وأعمال، وكان وقع مشروعه التجاري غير المنتظر كبيراً على كل الأطراف العربية والإسرائيلية، إذ إن المشروع يعد بمستقبل زاهٍ للقطاع ولكن من دون الغزي. فانهمرت الأسئلة من كل ناحية وصوب. لماذا إعادة الإعمار من دون السكان؟ وإلى أين يذهبون؟ وإذا ذهبوا إلى دول أخرى فماذا ستكون النتائج هناك؟ فبدت كسلسلة نووية لا تتوقف.
ورفضت مصر والأردن العرض وطرح التحالف العربي خطة يصار خلالها إلى الإعمار والاستثمار جنباً إلى جنب. وبعدما ضغط البيت الأبيض على الجميع خرجت مشاريع فرعية لإنهاء الحرب في غزة على أساس نقل من يريد من السكان إلى دول عربية أخرى، بعيداً من الحرب ومن بينها شمال سوريا وغربها، مما شكل تحدياً عميقاً للسكان المحليين، كما طرحت أفكار أخرى من بينها إعادة الاستيطان في دول عربية مثل ليبيا والمغرب وغيرها. ولا تزال القضية تتفاعل ولكل موقفه، فواشنطن تنظر إلى ما بعد الحرب وإسرائيل تريد حسم الحرب وإيران و"حماس" تريدان وقف النار وانتظار لما بعد ترمب.
ويبدو أن انتهاء حرب غزة لن يكون إلا عبر سيناريوهين، إما أن تحسمها إسرائيل وبثمن باهظ وإما أن يبقى الـ"ستاتيكو الدامي"، إلا إذا حدث شيء من داخل غزة أي صعود تيار غزي لا يريد "حماس" ولا يريد الحرب، ولا يريد الهجرة. ورأينا ولا نزال تظاهرات مدنية تطالب بذلك. فهل يكون الحل عبر التغيير داخل القطاع؟ هذا أمر آخر سنكتب عنه في المستقبل القريب.