ملخص
بين من يرى أن الجهاز الإداري في تونس بات سلطة داخل الدولة، وأنه يشكل شبكة من العلاقات والمصالح، وأصبح عقبة أمام كل محاولة للتغيير لاستيعاب التوجهات الجديدة في تونس بعد 2021، ومن يرى أن البلاد تعيش حالة انسداد في الأفق في غياب البرامج والاستراتيجيات الاقتصادية والاجتماعية، انقسمت آراء المتابعين للشأن العام في تونس حول موقع الإدارة في المشهد العام في تونس.
ارتبط تاريخ الإدارة في تونس بتأسيس الدولة الوطنية في أواسط القرن الماضي، وراكم الجهاز الإداري تجربة عريقة في إدارة الشأن العام ما جعل منه مؤسّسة صلبة لها ارتباطاتها ومصالحها.
وأمام غياب الأحزاب والعمل السياسي في تونس منذ يوليو (تموز) 2021، يرى بعض المتابعين للشأن العام في تونس أن الجهاز الإداري بات هو المحرّك للشأن العام في تونس، بخاصة أمام تعويل رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، كلياً على المؤسسة الإدارية لإدارة البلاد.
ويأمل التونسيون منذ لحظة 25 يوليو 2021، في تغيير أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، تماشياً مع ما يرفعه رئيس الدولة من توجهات تقوم على الدولة الاجتماعية، والتعويل على الذات، والقطع مع الارتهان لصندوق النقد الدولي، إلا أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي لم يتغيّر، ما دفع المتابعين إلى القول إن البيروقراطية الإدارية حالت دون تكريس مشروع رئيس الجمهورية على أرض الواقع.
لذلك ما انفك قيس سعيّد ينتقد الإدارة، ويحثها على مزيد العمل استجابة لتطلعات التونسيين، بينما ينفي آخرون أن تكون الإدارة حائلاً دون تجسيد أفكار واستراتيجيات رئيس الجمهورية، مؤكدين أن قيس سعيد، لم يقدّم برنامجاً انتخابياً ليتم تجسيده، وأن ما يتم تقديمه هي أفكار وليست مشاريع، ولا تملك الإدارة مفاتيح تلك الأفكار لترجمتها على أرض الواقع.
زخم تاريخي
راكمت الإدارة التونسية عبر التاريخ السياسي المعاصر زخماً بيروقراطياً جعلها رقماً مهماً في إدارة الشأن العام، في مختلف المراحل السياسية التي عاشتها تونس، ولئن عرفت الإدارة تفاعلاً مع النخب السياسية والثقافية في فترات هامة من تاريخ البلاد، في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة من خلال تطعيم الإدارة بشخصيات سياسية تملك تجربة نقابية وسياسية، وتمكّنت من وضع برامج اقتصادية واجتماعية غيّرت الواقع كتجربة التعاضد مع أحمد بن صالح في ستينيات القرن الماضي، وبناء المدارس في مختلف قرى ومدن الجمهورية، وتركيز دور الشباب والثقافة والمكتبات العمومية لضمان النهوض الفكري والثقافي للتونسيين.
وفي عهد زين العابدين بن علي، عمل كل من الحزب والدولة على صياغة أنموذج اقتصادي واجتماعي يقوم على تنافسية الاقتصاد، وبعث نسيج من المؤسسات الاقتصادية الصغرى والمتوسطة ووضع برنامج التأهيل الشامل، وضمان قدرات الطبقة المتوسطة التي باتت عنوان نجاح اجتماعي في تلك الحقبة، علاوة على تأمين السلم الاجتماعي من خلال مهادنة الاتحاد العام التونسي للشغل والحرص على استمرارية التفاوض الاجتماعي الدوري.
وبعد 2011، دخلت تونس منعرجاً جديداً بالإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، ودشنت البلاد لحظة الانتقال الديمقراطي، وتم وضع المؤسسات الرقابية التي قلصت من نفوذ الجهاز الإداري، وكشف الانفتاح الديمقراطي عيوب الجهاز الإداري، من خلال إذعانه لمطالب البرلمان والمنظمات المدنية والقضاء والأحزاب، والمؤسسات الديمقراطية المنتخبة.
ولم تعمّر تجربة الانتقال الديمقراطي طويلاً (2011-2021)، واستعاد الجهاز الإداري نفوذه بعد 2021، وسط مشهد سياسي تغيب عنه الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات وعززت البيروقراطية الإدارية شبكاتها ومصالحها.
"حزب الإدارة"
ويرى المتحدث الرسمي باسم التيار الشعبي محسن النابتي في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن "الجهاز البيروقراطي في تونس هو جهاز ثقيل وقديم وأصبح جزءاً من شبكة مصالح في الدولة، ما جعل البعض يتحدث عن ’حزب الإدارة‘ وأصبحت الإدارة سلطة داخل الدولة، من خلال اتساع نفوذها مستفيدة من شبكة علاقات ومصالح تم توظيفها بشكل ما في صياغة القوانين وتوجيهها لخدمة مصالح فئوية ضيقة وأحياناً على حساب مصلحة التونسيين".
ويضيف النابتي أن "الجهاز الإداري تحوّل إلى جهاز محافظ، وأصبح عَقبة أمام كل محاولة للتغيير حتى قبل 2011، إذ اصطدمت برامج الإصلاح الإداري، وتطوير الإدارة، بواقع متكلس لجهاز بيروقراطي ثقيل رافض لكل ما هو تغيير".
ويعتبر المتحدث الرسمي باسم التيار الشعبي "الرّقمنة حلاً لإحداث ثورة داخل الإدارة للقضاء على منظومات الفساد"، مرجحاً أن يكون رئيس الجمهورية قد اصطدم بهذا الواقع في الإدارة التي بات لها نوع من العقيدة والرغبة في عدم التغيير، ولا يمكنها تنفيذ برنامج اقتصادي واجتماعي ثوري مناهض لصندوق النقد الدولي، ولقوى الهيمنة ولشبكات المصالح الرأسمالية".
ولفت النابتي إلى أن "رئيس الجمهورية اعتمد بشكل كلّي على الإدارة، حيث إن جهازه الحكومي والرئاسي هو من خزان الإدارة التونسية، بينما يفترض أن يقوم النظام السياسي على المزج بين الجهاز الإداري والسياسيين، ما يعطي نوعاً من روح المبادرة ويدفع الإدارة نحو التغيير"، مشيراً إلى أن "التحولات الكبرى في تونس في قطاعات التعليم والثقافة والصحة والنقل قادها أشخاص من خارج الجهاز الإداري".
وبينما يرجح النابتي أن تكون "الإدارة التونسية غير مقتنعة بما يطرحه رئيس الجمهورية، لأن عقيدتها مناقضة تماماً لما يطرحه من سياسات عامّة، يدعو إلى التعويل على شخصيات حالمة، وتملك مشروعاً، وقادرة على اختراق الجهاز الإداري وتجسيد رؤية رئيس الجمهورية على أرض الواقع".
وبخصوص نقد رئيس الجمهورية المتتالي لأداء الإدارة يرى النابتي أنه "لا يمكن إلغاء الإدارة، إلا أنه يدعو لثورة داخل الجهاز الإداري من خلال الرقمنة وضخ دماء جديدة بإطارات تملك مشروعاً حداثياً لتطوير أداء الإدارة".
إفراغ المؤسسات من صلاحياتها
في المقابل، يُرجع عدد من المتابعين حال انسداد الأفق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في المشهد العام في تونس إلى الخيارات التي بنى عليها رئيس الجمهورية خياراته والقائمة على إلغاء الأجسام الوسيطة من منظمات وأحزاب وجمعيات، وتجميعه لكل السلطات، وإفراغ بقية المؤسسات من أدوارها الرقابية كالبرلمان والقضاء، وتعويله بشكل مفرط على البيروقراطية الإدارية في تسيير الشأن العام.
ويرى الأمين البوعزيزي، وهو ناشط مدني متخصص في الأنثروبولوجيا الثقافية، أن "رئيس الجمهورية لم يقدّم برنامجاً انتخابياً جليّ المعالم، ولم يتم وضع سياسات عمومية مبنية على أهداف واضحة حتى يتسنى للإدارة تنفيذها، والعمل عليها"، لافتاً إلى أن "ما يقدمه رئيس الدولة هي أفكار عامة كالدولة الاجتماعية، والتعويل على الذات، لا يمكن للإدارة أن تنفذها على أرض الواقع".
ويشير أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية، إلى أن المتعارف عليه هو أن "الإدارة تنفذ البرنامج الذي تضعه السلطة، ولا يمكن مطالبة الجهاز الإداري بتنفيذ سياسات عامة غير واضحة، والحال أن هذه الإدارة ممنوعة من الاجتهاد لأن نظام الحكم يعتبرها جهازاً وظيفياً لدى رئاسة الجمهورية".
ويرى البوعزيزي أن "البلاد في حالة عطالة وأن نظام الحكم الراهن أفرغ المؤسسات من صلاحياتها وباتت أجهزة تنفيذية، تعمل فقط على التسيير اليومي من دون رؤية أو برامج".
إن اختيار رئيس الجمهورية، لرؤساء حكومات من الجهاز الإداري، خلال فترة ما بعد 2021، يعكس تقارباً بين قيس سعيد والإدارة، إلا أن هذه الاختيارات لم تلبّ تطلعاته في صياغة مقاربات حديثة في عدة قطاعات، وبات الجهاز الإداري كالثقب الأسود الذي يبتلع التوجهات الجديدة، وهو ما دفعه إلى انتقاده في أكثر من مناسبة.