Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

كلمات عجاف: حين تفقد لغة الخطاب العربي المعاصر دلالتها

كلمة "المقاومة" حين يستعملها كل طرف أو تيار سياسي بدلالة يريد توكيدها يزيَّف الوعي والمقاومة نفسها

المغنية الفرنسية الجزائرية سعاد ماسي تفحص الصوت قبل المشاركة في حفل أوركسترا ببرلين (أ ف ب)

ملخص

في الخطاب العربي المعاصر كثير من المفردات العربية التي كان لها معان ودلالات في ذهن القارئ/ المتلقي، ولها أيضاً معادل واضح المعالم في اللغات الأجنبية، سقطت منها معانيها أو فرغت منها، فأصبحت تشبه صوتاً من دون روح.

لقد فرغت الكلمات العربية من معانيها، إذ كثيراً ما يجد الإنسان العربي نفسه وهو يستمع لبعض الخطب أو يقرأ بعض النصوص السردية أو الشعرية أو الفكرية –يجد نفسه- حيال قاموس من كلمات تشكل جملاً وفقرات يسمعها أو يقرأها، فتبدو في ظاهرها صحيحة وفصيحة، لكنها فارغة من أية دلالة، أي لا تؤدي أي معنى واضح، بل إنها تقدم معنى وعكسه في الوقت نفسه.

أذكر مرة كنا في اجتماع للمجلس العلمي لقسم اللغة العربية في واحدة من الجامعات الجزائرية، وطرحت قضية للتداول، ويبدو أن رئيس المجلس، وهو شخصية أدبية ونقدية كبيرة، غضب غضباً شديداً، وقام يخطب بكلام غريب في أعضاء المجلس، وحين انتهى من خطبته، قلت له "والله يا دكتور لم أفهم هذه الكلمة"، وذكرت له كلمة من خطبته، فنظر إليَّ وقال "ولا أنا"!!

هذه الحالة ليست استثنائية ولا غريبة في الخطاب العربي المعاصر.    

حين أتأمل المحيط اللغوي من حولي أشعر مرات كثيرة بأن هناك مسافة بعيدة فاصلة ما بين اللغة/ الخطاب من جهة والفكر/الدلالة من جهة ثانية، أو بتعبير آخر لا توجد "مسافة الصفر" ما بين الكلام المنطوق أو المكتوب من جهة والدلالات التي تحملها مفردات هذا الخطاب من جهة ثانية.

وفي هذه المسافة الطويلة ما بين المفردة والدلالة، يحتضر الفكر وتضيع الترجمة ويهيم القارئ والمترجم/المتلقي على حد سواء. وكلما توسعت المسافة فقدت الكلمات دلالاتها تتعالى الحماسة ويكثر الإنشاء ويتوالى قاموس المترادفات التي ليست بمترادفات، ويكثر الإنشاء الوصفي ويضيع المعنى.

في الخطاب العربي المعاصر، كثير من المفردات العربية التي كان لها معان ودلالات في ذهن القارئ/ المتلقي، ولها أيضاً معادل واضح المعالم في اللغات الأجنبية، سقطت منها معانيها أو فرغت منها، فأصبحت تشبه صوتاً من دون روح.

في هذه الورقة السريعة سنتناول بعض الكلمات، والتي نعتقد أنها الأكثر استعمالاً في اللغة العربية والأكثر تكراراً في الخطابات المكتوبة أو الشفوية عند النخب العربية السياسية والإعلامية والأدبية، ونحاول، وبكل وضوح، أن نقف على غموضها واستعمالاتها المتناقضة والمتعارضة والتي تجعل المتلقي في وضع فكري مضبب وضائع بل وحائر. 

اقرأ المزيد

فكلمة "الشعب"، مثلاً، والتي هي من المفردات الشائعة واليومية التي تستعمل في السياقات السياسة والإعلامية والإدارية والانتخابية، أصبحت لا تحيل على شيء واضح في العربية، لقد رذلت هذه الكلمة وجوفت من دلالتها ومن روحها حتى أضحت لا ترمز إلى "الشعب" كما هو في الواقع وفي المخيال العام والنخبوي، تذكر كلمة "الشعب" في كل مناسبة وبحماسة منقطع النظير، كما يقال، ولا أحد أصبح مؤمناً بأن ما ترمي إليه هذه الكلمة هي "الشعب" تلك القوة القادرة على تحريك عجلة التاريخ والاقتصاد والسياسة. لقد أفسد الاستثمار السياسي والأيديولوجي والمؤسساتي في كلمة "الشعب" حتى أخرجها من دلالتها وحولها إلى أمر آخر قد يكون عكس دلالة الكلمة في منطلقها وفي منطقها.  

ومثل كلمة "الشعب" هناك قاموس كامل من الكلمات عند العرب لا تعني شيئاً بالمطلق، أو تعني ما لا تريد أن تعنيه؟؟

ومن أمثلة ذلك نسوق كلمة "التنمية" التي نسمعها صباح مساء في الإعلام المسموع والمرئي والمكتوب، ونقرأها في كتب الاقتصاد وفي خطب الساسة المتحمسين ويتعلمها الصغار في كتب المدرسة، هذه الكلمة قد هُجرت من دلالتها الحقيقية لتسكن "اللا دلالة"، فلا أحد يمكنه أن يقتنع بوجود علاقة بين كلمة "التنمية" في الخطاب ودلالتها في الواقع، فما يشير إليه الخطاب اللغوي مستعملاً كلمة "تنمية" يتعارض مع ما يشترط فيه أن تكون عليه الـ"تنمية" في الواقع المقصود. إن هذا التعويم الدلالي لكلمة "تنمية" هو فعل أيديولوجي يراد به زرع الضبابية في ذكاء المتلقي.    

وفي السياق نفسه من غربة الكلمات عن دلالاتها، وفي باب الأدب والحياة، نقرأ لنقاد الشعر خصوصاً مصطلحاً كثيراً ما يتكرر، يحدث هذا منذ قرن في الثقافة الإبداعية الشعرية العربية، إنه مصطلح "الحداثة". فتراهم يقحمون هذه الكلمة في كل شيء وفي كل مناسبة ومن دون مناسبة، توظف "الحداثة" بصورة غزيرة في الجهاز المفاهيمي للنقد الأدبي في مقاربته للإبداع الشعري والسردي، وتستعمل أيضاً في المقاربات السوسيولوجية لتوصيف الحياة الاجتماعية ونظام سير المؤسسات، وحين نحفر جيداً في عمق هذه الكلمة، ونحاول أن نقبض على رأسمال دلالتها في الواقع، لا نجد لها ظلاً ولا وجهاً ولا وزناً. كلما كثر الحديث عن الحداثة في الفكر العربي اعلم أن ذلك لترذيل الحداثة نفسها، فالحداثة فلسفة حياة كاملة ومعقدة، وأعتقد أن مجتمعنا لا يزال بعيداً من تبني مثل هذه الفلسفة لا في الكتابة ولا في المؤسسات ولا في نظم السياسة، لذلك توظَّف هذه المفردة من خلال استعمالات متعددة ومتناقضة، وفي ذلك تفرغ من دلالتها ومن روحها.

ومن الكلمات التي تحضر بكثرة في الخطابات العربية، يحدث هذا منذ مطلع القرن الـ20، هي كلمة "المقاومة"، إذ يستعملها كل طرف أو تيار سياسي بدلالة يريد توكيدها، وبهذا الغموض في الاستعمال يزيَّف الوعي وتزيَّف المقاومة نفسها، فكلما رحلت الكلمة من دلالتها الأصلية تفقد صدقها وتنشر ضبابية في العلاقة ما بين الخطاب والسلوك. فاليساري يستعمل مصطلح "المقاومة" لتحقيق رسالة محددة، ويستعملها "الإسلامي" لتحقيق أخرى متعارضة، حتى اختلط مفهوم المقاومة بالطائفية وبالإرهاب، وأصبح استعمال هذه الكلمة وارداً على كل لسان وفي كل موضع، وجراء ذلك وتحت كلمة "المقاومة" تتحرك قوى تخريبية وإرهابية تعمل من خلال أدبياتها على خلط الأوراق والتي تبدأ من عتبة اللغة.

وتكون كلمة "فلسطين" في الخطاب العربي المعاصر هي الكلمة الأكثر تداولاً والأكثر حضوراً والتي تعرف تناقضاً بيناً في دلالتها، حتى وإن بدا لنا أن الأمر واضح والإجماع عليها شاملاً، إلا أننا لو دققنا حضور واستعمال هذه الكلمة بكل أطيافها السياسية والتاريخية والدينية، سنجدها تحمل دلالات تختلف من خطيب إلى آخر، وذلك حسب المرجعية الأيديولوجية والسياسية التي ينتمي إليها هذا المتكلم، لقد كانت كلمة فلسطين، ذات زمن، تحمل دلالة تحيل على تلك الأرض التي جغرافيتها ما بين البحر والنهر، لكنها ومع الزمن السياسي والعسكري المتغيرين تحولت إلى قطعة تعرف ما بعد الخامس من يونيو (حزيران) 1967، ثم أصبح لها معنى آخر في أوسلو وهي في زمن غزة والضفة الغربية تتلبس دلالة جديدة، أمام عجلة ما يجري في الواقع أصبح المواطن العربي لا يستطيع القبض على مفهوم كلمة "فلسطين"، وأمام هذا الالتباس انتقلت الكلمة إلى خطاب حماسي إحساسي فائض، وصادق دون شك، لكنها لا تملك لها دلالة في الواقع.

إن كل خيبة في الواقع المعيش تبرر في الخطاب السياسي من خلال انتهاك الدلالات الأصيلة وتشويهها.

إذا كانت كلمة "تنمية" في اللغة جوفت من معناها من خلال المراوغة السياسية الاقتصادية التي يتولاها خطاب الأنظمة العربية، وكانت كلمة "حداثة" قد عُوِّم مفهومها من قبل "النخب" الثقافية المنفصلة عن واقعها، فإن كلمة فلسطين تُرحل من دلالتها التاريخية والجغرافية من طريق "الحرب" و"الإبادة" و"الحصار" وتغيير البنية التحتية، فاللغة لها أيضاً بنيتها التحتية التي تقوم عليها، واهتزت هذه القاعدة واهتزت الدلالة لها ومعها.

هناك قاموس طويل من الكلمات التي أصبحت لا تحمل أية دلالة من مثل ذلك كلمة "الزعيم" و"السلفية" و"الالتزام" و"الديمقراطية" و"الحرية" و"حقوق الإنسان" و"الانتخابات" و"المساواة" وغيرها، وبعض هذه الكلمات قد نجدها فقدت دلالتها أيضاً في اللغات الأجنبية نظراً إلى اختراقات سياسية وأيديولوجية وتضارب المصالح بين هذه القوة وتلك.

حين نسمع الخطب الحماسية العربية، في السياسة وفي الاجتماع وفي الإبداع، المليئة بقاموس لغوي معروف لكن لا وجود له في الواقع، قاموس فاقد لدلالاته ومعانيه، فإننا نشعر وكأن اللغة العربية تتمدد كجثة في كفن، لكن لا أحد يعمل على دفن هذا القاموس لأن في بقائه الفارغ من الدلالة ومن الروح يكمن سر بقاء قوة سياسية ودينية وإبداعية، وكأن هناك قوة ما تريد للإنسان العربي أن يعيش متصالحاً مع جثة خطاب مليء باللغو لا اللغة.

المزيد من آراء