ملخص
في روايته "حكاية في المصائر"، يبحر الكاتب المصري حمدي النورج في عوالم مادية وروحية، متتبعاً تناقضات النفس البشرية بين صدق وزيف، ودنو وسمو، وقيم دنيوية، ومثالية روحية، فيرصد عبر ثلاثة أبطال، في ثلاث حكايات شكلت نسيجه الروائي، تجربة إنسانية غنية بالتوترات الوجودية.
تتشارك الحكايات والشخوص ثيمة البحث عن الحقيقة، يفتش عنها "أبو الضيف" في التاريخ، ويسعى خلفها "عثمان" في الصحراء، ويتقصاها "عماد" عبر تفرس الوجوه. وكما تتشارك الشخوص سعيها إلى الحقيقة، تتشارك أيضاً العزلة، وإن تباينت دوافعهم بين إقبال ووصل، وهرب واضطرار، وإجبار واستبعاد. وبينما تتابع الأحداث في نسق أفقي طبيعي إلى الأمام، في زمن يشي حظر التجوال بأنه تلا ثورة يناير، يتنوع أسلوب الحكي بين سرد مركزي يقوده راو عليم، وسرد ذاتي بصوت شخصية الصحافي "أبو الضيف"، إضافة إلى مساحة يسيرة بصوت إحدى الشخصيات الثانوية "أميرة السباعي"، ليجمع الكاتب عبر هذا التنوع بين رؤية موضوعية وشاملة للأحداث من جهة، وصدقية وحميمية الطرح من جهة أخرى، متيحاً فهماً أعمق لشخصياته، وإن حرم شخصيتي الباحث والمتصوف من استخدام صوتهما الخاص إلا عبر الحوار، وربما كان أجدى أن يتيح لهما مساحة من السرد الذاتي، تسمح باستجلاء اضطراباتهما الداخلية العاصفة.
بطولة مكانية
لم يكن المكان في الحكايات الثلاث داخل رواية "حكاية في المصائر" (دار إضاءات - القاهرة) مجرد وعاء للسرد، وإنما لعب دوراً رئيساً في فك شيفرة الحدث، وتوسيع دلالاته الرمزية، فكان اختيار حي المعادي (جنوب القاهرة) في حكاية الصحافي "أبو ضيف"، وسيلة لإبراز صراع الهويات، إذ حوى ذلك الحي الراقي، المعبد اليهودي "مائيير عاينيم"، وكذا فيلا "الباشا"، الذي جهله الكاتب، ولم يصرح باسمه، لكن ما أورده من معلومات حول سماته الجسمانية، وشهرته، وموقع بيته بالقرب من المعبد اليهودي، إضافة إلى خلفيته العسكرية، أحال إلى كونه نفسه المثقف المصري البارز ثروت عكاشة. وكما أبرز المكان هويات وثقافات متباينة، كان أيضاً وسيلة الكاتب لإبراز التفاوت الطبقي الهائل، والهوة الشاسعة بين شرائح الشعب المصري. أما في حكاية "عثمان"، فكانت الصحراء وسيلة لتمرير دلالات صوفية، فالبطل خرج إليها طالباً الخلوة، التي تنكشف فيها الحجب، ويحظى المحب بالوصال: "انطلق من الوادي الضيق إلى جوف الصحراء التي رآها واسعة تصلح لحلمه، حقق رغبة راسخة منذ زمن التعلم الأول في سلوك الاعتزال والاختلاف. قال له شيخه: إن الخلوة تجلب الجلوة، والجلوة مستحضر من عالم الصفاء. والصفاء في الابتعاد. ابتعد كي تحب" ص 4.
وفضلاً عن الغاية الصوفية، التي أحالت إليها الصحراء باعتبارها معادلاً للزهد، ومسرحاً للتجربة الروحية، حيث الانقطاع عن صخب الحياة والانغماس في التأمل، فقد كانت وسيلة لتمرير المفارقات، وتجسيد تناقضات العالم، فالمكان الذي يقصده العابد الزاهد، هو ذاته الذي يقصده المهربون، وطلاب الدنيا من المنقبين عن الذهب، والخارجين عن القانون. هذه التناقضات أبرزتها مرة أخرى الفضاءات المكانية في حكاية الباحث "عماد"، التي انطلقت أحداثها من مطار دبي بما يمثله من حداثة صارخة، ثم انعطفت إلى الأحياء الفقيرة في مصر، التي يعيش بها المهمشون: "غاص في شارع الفجالة، حتى وصل إلى العتبة ثم إلى ميدان السيدة ثم درب الجماميز. جرى من دون أن تستوقفه رائحة دهانات الدوكو ومطاعم الفول والطعمية، استمر حتى صعد لاهثاً إلى أعلى، ثم اختفى تحت بطانية مهترئة" ص 71.
ثنائيات متقابلة
لم يكن المكان وحده وسيلة الكاتب لإبراز التناقضات، إذ اعتنى بالتقاط مزيد منها عبر الأحداث والشخوص، وأضاء عبر تلك التناقضات ثنائيات كلاسيكية متقابلة، مثل ثنائية الخير والشر، والحق والباطل، والعارف والغافل، والمعلن والمسكوت عنه، والقديم والجديد، والزهد والطمع، والهدوء والصخب، والاندماج والانعزال، والحب والبغض، والخوف واللامبالاة، والثراء وشظف العيش. وكما نقل عبر تلك الثنائيات ملامح الواقع، وسنن الكون، وطبائع الحياة، مرر عبرها أيضاً أسئلة وجودية، ورؤى فلسفية عن الحقيقة، والمصير، والموت والحياة. كما كانت مدخله لرصد عدد من التحولات، ولا سيما في حكاية "عثمان"، إذ تحول أفراد القبيلة من الحكمة والصلاح، إلى الرعونة والفساد، ومن الاتزان، إلى الفوضوية والانفلات، ومن البساطة، إلى المدنية العشوائية، ومن الوئام إلى البغض والصراع: "إنهم يخرجون للإغارة والسطو، على أهل الصحراء والرعاة، وكل المارة، لم يعد للقبيلة عمل إلا انتظار أبناء الرماح، تحول سلوك النسوة شيئاً فشيئاً، لا عمل إلا انتظار كل ما هو منهوب" ص 76.
ووظف النورج ما رصده من تقابلات وتحولات، في إدانة بعض الظواهر الاجتماعية، وإضاءة عدد من قضايا الواقع، ومشكلاته الإقليمية والمحلية، مثل الدعاية العالمية وصناعة الكذب والعنف والوحشية والحروب وانهيار منظومة القانون الدولي والهجرة غير الشرعية وتهريب الذهب والمخدرات والبشر والسلاح والتفاوت الطبقي والقبضة الأمنية وانتهاك حرية الفرد وعمالة الأطفال والإهمال وحوادث القطارات وانسحاق المثقف وتخليه عن دوره: "طبقة لم تجد مكانها على السلم، ولذلك ينعدم تأثيرها إلا في موقعها الثقافي، طبقة ليست قادرة على إحداث التغيير، لا هم يعبرون عن سلوك المهمش، ولا هم يتصدون بالنقد أو النصح للطبقة العليا، إنها الطبقة المتأرجحة البائسة" ص 58.
نزوع صوفي
يكشف السرد عن نزوع صوفي، يحاول الكاتب من خلاله مواجهة واقع فاسد وإعادة إنتاج المعنى المفقود، وفي الوقت نفسه إضفاء قداسة على تجربة واحد من أبطاله، "عثمان". ويتجلى التوجه الصوفي في اختيار الفضاء المكاني للسرد، واللغة، والتأملات الفلسفية، والرموز، والأحداث، إذ أحالت الصحراء إلى الرحلة من أجل بلوغ النور الروحي، ولا سيما أن البطل قصدها، آملاً عبر عزلته وانقطاعه، بلوغ المرتبة العليا من الوصال. كذلك عبرت لغة السرد عن النزوع ذاته، الذي بدا في مفردات مثل الخلوة والجلوة والأصل والتجريد والعارف وكشف ودائرة. وإضافة إلى اللغة كانت سمات البطل وسلوكه من زهد، وصوم عن الكلام، وصبر على الجوع، ومناجاة، تحيل إلى النزوع الصوفي الذي دعمه استدعاء شعر أحد أعلام التصوف، عمر ابن الفارض. وعززه أيضاً تجسيد مشاهد تتضمن تواصلاً مع الطبيعة، وخوارق تعكس حالة من الارتقاء، والتنوير الروحي: "رد عليه هاتف من فوق الجبال المطلة عليه في شموخ: أيها الحائر السالك الذي لا يرى أحداً، إن الله لا يهب لكل شخص الطريق، لا غافل على الباب، انظر، كل هؤلاء منتظرون سنوات وسنوات، حتى يسمح لواحد من ألف أن يحظى بالرفقة" ص 6.
دفع الكاتب ببعض الحمولات المعرفية، التي أضفت مزيداً من الواقعية على النص. وقام بتوظيفها على نحو أسهم في التطور الدرامي للأحداث، فمرر معارف حول المعبد اليهودي "مائيير عاينيم" في حي المعادي، واحة عين البرنس في منطقة جبل العوينات، التي تقع عند مثلث الحدود بين مصر وليبيا والسودان، وما تشهده تلك المنطقة من صراعات، تنشب جراء عمليات التهريب، والتنقيب عن الذهب، إضافة إلى معارف أخرى عن الأسرة السنوسية، والحقبة الملكية، بعض العملات المحلية والأجنبية، وحرب 1948. وإضافة إلى ما استدعاه من معارف، عمد إلى استدعاء أجناس أدبية عديدة تنوعت بين الشعر، والقصة القصيرة، مثل قصة الملك الفارسي، الأسد والضبع، العجوز والبحر، وقصة الملوك الثلاثة. وكما انفتح النص على أصناف من الأدب، انفتح أيضاً على السينما، فكان لعين الكاميرا دور كبير في إعادة إنتاج الأحداث، وإكسابها السمة البصرية: "كانت العاصفة شديدة، فتدحرجت منها هوام لا تحصى، وأشتات من الكائنات" ص 13.
الرمز والدلالة
حظي الرمز بحضور كثيف داخل السرد، اتسق مع بروز النزوع الصوفي، الذي جعل بدوره من الرمز، الأداة الأمثل للتعبير عن العوالم الروحية والوجودية، فكانت الأم في القبيلة رمزاً للمعرفة الباطنية، والرحمة، والتجلي، وحكمة الكون. وكان "رماح" الذي استتب له حكم القبيلة، بعد خروج "الفاطمة"، معادلاً للعالم الجديد الغارق في صخب المادية، في حين كان صراع الأسد والضبع، معادلاً لصراع الحق والباطل. وأحال غياب الأسد إلى افتقاد القوة، والهزيمة الروحية. وأحال استدعاء سردية ألف ليلة وليلة، وشهرذاد التي تجسدت من جديد في شخصية "الفاطمة"، إلى الحكمة كوسيلة ممتدة لمواجهة قسوة الحياة، في حين حمل انتهاء الحكايات الشهرزادية، وارتفاع صوت الرصاص، دلالات حول تخلي العالم عن الإنسانية والحكمة، لصالح هيمنة القوة، وسطوة السلاح. أما الأشجار التي نبتت في البئر، والواحة التي تبدت لـ"عثمان"، فحملت دلالات الوصول والعثور على الخلاص. ولم يقتصر الرمز على الدلالة الروحية وحسب، وإنما استخدمه الكاتب لتمرير دلالات سياسية وثقافية واجتماعية، فأحالت الحكاية المختلقة حول "الشيكل"، إلى الدعاية الكاذبة التي تروجها وكالات الأنباء العالمية. وحوت حكايات الكبار والسطو والقصور، إشارات على استشراء القبح والفساد والثروات غير المشروعة. أما الحضور الأنثوي فكان أيضاً مشحوناً بكثير من الرموز والدلالات، إذ تجلت المرأة معادلاً للحكمة والبهجة والحب والنماء والجمال: "حيثما توجد المرأة تنمو الدنيا ويضحك الشجر" ص 38. وتجلى الحضور الرمزي الكثيف مرة أخرى عبر تقنية الوصف، فحمل وصف الغرفة الضيقة، والملابس البسيطة، والبطانية المهترئة، ودلالات حول الطبقة الاجتماعية للشخوص، وفضلاً عن دوره في تعزيز الرمز، وتجسيد ملامح الشخوص والفضاءات، أسهم الوصف في إبطاء حركة السرد، بما يسمح بالتأمل، الذي تحفزه الأجواء الصوفية للنص.