ملخص
يرى محللون أن من شأن محور "موراغ" أن يقطع أوصال قطاع غزة ويفرض واقعاً جديداً في جنوبه، كيف لا وهو يشكل نقطة ارتكاز استراتيجية بسبب موقعه الجغرافي في منطقة "مصبح" شمال شرقي رفح، ويمتد طوله الذي يبدأ من البحر غرباً حتى شارع صلاح الدين شرقاً، وصولاً إلى الحدود الفاصلة بين غزة وإسرائيل.
مسافة قصيرة تلك التي تفصل بين خان يونس ورفح جنوب قطاع غزة لا تتجاوز 10 كيلومترات، لكن ياسر الزعنون (28 سنة) يعجز عن زيارة شقيقته هدى للاطمئنان عليها، بعدما فقدت زوجها في قصف إسرائيلي وإيصال بعض أرغفة الخبز لها ولأطفالها الجوعى الذين يعيشون في خيمة متهالكة.
ففي أعقاب انهيار وقف إطلاق النار قبل بضعة أسابيع واستئناف الحرب، شق الجيش الإسرائيلي طريقاً جديداً لفصل مدينة خان يونس عن مدينة رفح وأطلق عليه اسم محور "موراغ" أو "فيلادلفيا 2"، وهو رابع محور تقوم إسرائيل بإنشائه داخل القطاع بهدف فصل محافظاته الخمسة بعضها عن بعض بما يتيح إمكان فرض وقائع ميدانية جديدة وبسط السيطرة الأمنية الكاملة.
كان الجيش الإسرائيلي قد أقام مسبقاً محور "نتساريم" الذي يفصل وسط وجنوب القطاع عن شماله ومحور "مفلاسيم" الذي يفصل محافظة الشمال عن مدينة غزة، ومحور "فيلادلفي" على الحدود مع مصر، الذي تعتبره إسرائيل خطوة رئيسة لمنع تهريب الأسلحة إلى غزة.
وفقاً لما أعلنه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قبل أيام، فإن الجيش الإسرائيلي يقوم "بتجزئة قطاع غزة والسيطرة على مساحات فيه، للضغط على ’حماس‘ من أجل إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم"، فيما كشفت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن أن خطة السيطرة على محور "موراغ" التي أعلن عنها نتنياهو، صدمت قيادة المنظومة الأمنية للجيش التي تكتمت عليها للحفاظ على أمن الجنود في المنطقة، خصوصاً أنها لم تنل بعد مصادقة المؤسسة العسكرية.
واقع جديد
أُسس "موراغ" في سبعينيات القرن الـ20 كموقع عسكري، فيما كان يعرف بمجمع مستوطنات "غوش قطيف" عند الطريق الواصل بين رفح وخان يونس، وسرعان ما تحول عام 1982 إلى منطقة سكنية اشتهرت بمزارع الخضراوات والزهور، إلا أن مستوطنة "موراغ" وكجزء من الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من قطاع غزة في خطة "فك الارتباط" عام 2005، فككت وأخلي سكانها قسراً كغيرها من مستوطنات "غوش قطيف" الـ21.
ويرى محللون أن من شأن محور "موراغ" أن يقطع أوصال القطاع، ويفرض واقعاً جديداً في جنوبه، كيف لا وهو يشكل نقطة ارتكاز استراتيجية بسبب موقعه الجغرافي في منطقة "مصبح" شمال شرقي رفح، ويمتد طوله الذي يبدأ من البحر غرباً حتى شارع صلاح الدين شرقاً، وصولاً إلى الحدود الفاصلة بين غزة وإسرائيل نحو 12 كيلومتراً، في حين لا يبعد عن محور "فيلادلفي" على الحدود المصرية في أقصى جنوب قطاع غزة سوى نحو خمسة كيلومترات، ووفقاً لتحليلات إسرائيلية ومحلية فإن محور "موراغ" من شأنه اقتطاع مساحة 74 كيلومتراً مربعاً من مساحة قطاع غزة، التي تعادل 20 في المئة من إجمال مساحة القطاع البالغة 360 كيلومتراً مربعاً.
كارثة اقتصادية
بالنسبة إلى سكان رفح، الذين أصبحوا معزولين عن عمقهم في الجهة الشمالية من القطاع، فإن خطورة محور "موراغ" لا تكمن فقط بأنه سيصبح أحد أهم شرايين الحياة لنقل الأفراد والبضائع بين جنوب القطاع وشماله، لكون مدينة رفح تضم وحدها اثنين من أهم ثلاثة معابر تعمل في القطاع، وهما "كرم أبو سالم" المخصص لنقل البضائع والمساعدات من إسرائيل للقطاع، إضافة إلى معبر رفح الفاصل بين القطاع ومصر، الذي يخصص لنقل الأفراد والبضائع من وإلى القطاع.
ويعني بقاء الجيش في المحور حرمان القطاع من أهم موارده الزراعية في رفح التي تعتبر بالنسبة إلى الغزاويين من أهم مصادر الغذاء والخضراوات المتبقية في القطاع، وتغطي المساحات الخضراء أراضي مدينة رفح، وبخاصة منطقة المواصي غرباً، التي أسهمت نسبياً في كسر موجة المجاعة على القطاع، كما أن إسرائيل ستكثف السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في محيط محور "موراغ" لإنشاء منطقة عازلة.
ودانت الرئاسة الفلسطينية مخطط إسرائيل لتقسيم القطاع، محذرة من سعيها إلى استدامة احتلال القطاع. وأكدت في بيان "رفضها الكامل ما أعلنه نتنياهو بإقامة ما يسمى محور موراغ لفصل رفح عن خان يونس وتقسيم جنوب القطاع"، وأضافت أن "هذا المخطط الإسرائيلي مرفوض ومدان، وهو مخالف للشرعية الدولية والقانون الدولي الذي أكد دوماً أن قطاع غزة هو جزء أساس من أرض دولة فلسطين المحتلة عام 1967"، مطالبة "المجتمع الدولي، بخاصة مجلس الأمن الدولي، بالتدخل العاجل والفوري لوقف العدوان الإسرائيلي المتواصل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس".
منطقة عازلة
قبل تصريح نتنياهو المفاجئ عن خطة محور "موراغ" في الـ20 من مارس الماضي لم ينشر الجيش الإسرائيلي أي معلومات حول الخطة، إلا أن مصدراً أمنياً قال لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية إن معظم منطقة المحور مدمرة، وإن الجيش يخطط لتحويل المسافة بين محوري "فيلادلفي" و"موراغ" في جنوب قطاع غزة ومدينة رفح والأحياء المحاذية لها، التي تشكل خمس مساحة القطاع، إلى "منطقة عازلة" وضمها تدريجاً بعد طرد السكان من هذه المنطقة، الذين يقدر عددهم قبل الحرب بنحو 200 ألف نسمة.
وأكدت الصحيفة أن الجيش بعد استئناف الحرب، الشهر الماضي، طالب السكان الباقين بالرحيل عن هذه المنطقة باتجاه منطقتي خان يونس والمواصي غرباً، موضحة أن القرار بتحويل رفح إلى "منطقة عازلة" جاء في أعقاب قرار المستوى السياسي الإسرائيلي باستئناف الحرب وعلى خلفية تصريح رئيس الحكومة بأن إسرائيل "ستأخذ مناطق كبيرة في القطاع".
وفيما يوسع الجيش الإسرائيلي حالياً "محور موراغ" من خلال تدمير المباني على طول هذا المحور، ليكون عرضه مئات الأمتار وحتى أكثر من كيلومتر في مواقع معينة، أكدت مصادر أمنية للصحيفة، أنه لم يتقرر بعد ما إذا سيُسيطر على هذه المنطقة كلها "كمنطقة عازلة" بحظر دخول مدنيين إليها مثلما هي الحال في مناطق عازلة أخرى في القطاع، أم سيُسوى جميع المباني فيها بالأرض وتُمحى مدينة رفح من الوجود.
ووفقاً لخريطة أصدرها الجيش قبل أيام، فقد ضاعفت القوات الإسرائيلية حجم المنطقة العازلة، ووسعها في بعض الأماكن، لتشمل مساحة ثلاثة كيلومترات داخل غزة، وقبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 كانت هناك منطقة عازلة قائمة بالفعل، تقدر بحو 300 متر داخل قطاع غزة، تسمح للناس بالدخول ضمن استثناءات مختلفة ومحدودة.
ضغط "حماس"
يحذر مراقبون من أن عزل مدينة رفح ليس مجرد امتداد لمنطقة عازلة قائمة، بل سيحول القطاع إلى جيب داخل إسرائيل، ويبعده كلياً عن الحدود المصرية، وتشير مصادر أمنية إسرائيلية في الجيش لصحيفة "يديعوت أحرنوت" إلى أن هدف هذه الخطة يتركز في ممارسة ضغط جديد على "حماس"، خصوصاً في ظل الاعتقاد الإسرائيلي السائد عند المنظومة الأمنية أن قيادة "حماس" ربما توجد في منطقة رفح، وتزايد الإدراك في الجيش أن "إسرائيل لن تحصل على دعم دولي ولا حتى من الولايات المتحدة لحرب مستمرة على غزة".
وبحسب إفادات جنود إسرائيليين، وثقتها منظمة "كسر الصمت" اليسارية، فإن فرقة غزة العسكرية رسمت خريطة لأماكن في "المنطقة العازلة" المحيطة بالقطاع بموجب ألوان أحمر وأصفر وأخضر، التي تدل على أن أكثر من 80 في المئة من المباني في هذه المنطقة قد دمرت بالكامل، وتشمل هذه الألوان مباني سكنية ودفيئات وحظائر ومصانع.
وقالت مدير "قسم المناصرة" في منظمة "كسر الصمت"، جويل كرمل، إنه "بمجرد خلق هذا المحيط سيكون هناك دائماً مجال لتوسيعه، وهذا في حد ذاته إشكالية كبيرة للغاية، لأنه يعني بشكل أساس أنه يمكن أن يكون بلا نهاية"، وأضافت "الفكرة من تحديد هذا المحيط هي تسوية كل ما كان موجوداً بالأرض وتدميره تماماً، وبمجرد أن تصبح تلك المنطقة جزءاً من منطقة العمليات العسكرية، فإن أي شخص يدخلها أو يقترب منها يعتبر إرهابياً"، في المقابل قال الجيش الإسرائيلي إنه "لا يسعى إلى إلحاق الأذى بالمدنيين في غزة، وإنه يلتزم القانون الدولي".
في حين أكد أستاذ الدراسات البيئية في جامعة بن غوريون، يعقوب غارب، الذي يدرس أنماط استخدام الأراضي الإسرائيلية والفلسطينية منذ عقود، أن "المنطقة العازلة ومحور نتساريم يشكلان ما لا يقل عن 50 في المئة من مساحة القطاع".
الأصابع الخمسة
عام 1971 اقترح أريئيل شارون، الذي شغل آنذاك منصب قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، إنشاء خمسة محاور عرضية تمتد من الشرق إلى الغرب عبر القطاع، لتقسيم السكان الفلسطينيين إلى معازل منفصلة تمكن إسرائيل من تحقيق السيطرة الأمنية الدائمة على القطاع، وعرفت حينها بـ"خطة الأصابع الخمسة".
الإصبع الشمالي منها يفصل بين مدينة عسقلان وقطاع غزة، ويقع فيها معبر إيرز، فيما يعمل إصبع "نتساريم" لفصل جنوب مدينة غزة عن دير البلح، أما إصبع "كيسوفيم" فيفصل بين دير البلح وخان يونس، في حين رسم شارون إصبع صوفا (محور موراغ) للفصل بين خان يونس ورفح، وفي أقصى جنوب القطاع وضع مخططاً لإصبع "ياميت" الذي يفصل بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية، التي كانت تقع آنذاك ضمن حدود سيناء وتخضع للسيطرة الإسرائيلية، وهو الذي أعيد ترسيمه بعد انسحاب إسرائيل من مستوطنات سيناء عام 1982، ليصبح الحدود الفاصلة بين قطاع غزة ومصر، الذي يعرف اليوم باسم محور صلاح الدين أو "محور فيلادلفي".
ومع مرور الوقت أصبح "محور موراغ - صوفا" الطريق الاستيطاني الأهم في قطاع غزة، كونه يربط كتلة مستوطنات "غوش قطيف" مع إسرائيل، إلا أنه غير من جغرافية قطاع غزة جذرياً، وشكل حتى اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، عائقاً حقيقياً أمام حركة الفلسطينيين الذين منعوا من استخدامه، وأجبروا على الالتفاف عبر طرق ساحلية ضيقة أو انتظار إذن إسرائيلي للعبور، خصوصاً بعدما استخدمته إسرائيل كنقطة انطلاق للتوغلات العسكرية في رفح وخان يونس.
وبحسب تقرير لصحيفة "هآرتس" عام 2005 زرعت الفصائل الفلسطينية أكثر من 100 عبوة ناسفة على جانبي الطريق، وتعرض المستوطنون لإطلاق نار متكرر حتى أغلق المحور في أوقات كثيرة أمام حركة المستوطنين الذين لم يكن بمقدورهم السفر عبره إلا بصحبة حراسة عسكرية مشددة.
وعلى رغم مرور عقدين على تنفيذ إسرائيل خطة "فك الارتباط" عام 2005، وهدم جميع مستوطنات "غوش قطيف"، وإزالة بقايا الحواجز العسكرية والطرق والمحاور التي فصلت القطاع عن بعضه بعضاً، فإن الغزاويين اليوم يخشون أكثر من أي وقت مضى استعادة خطة "الأصابع الخمسة" لشارون، خصوصاً أن الواقع الحالي يثبت لهم بما لا يدع مجالاً للشك أن استراتيجية الحكومة الإسرائيلية ماضية في إعادة تشكيل الواقع الجغرافي والديموغرافي للقطاع عبر تقسيمه إلى مناطق منفصلة، ويرى مراقبون أن من شأن ذلك تسهيل عمليات مصادرة الأراضي وفرض وجود عسكري دائم، من شأنه خلق بيئة معيشية خانقة تحفز الفلسطينيين على مغادرة القطاع بمحض إراداتهم.