ملخص
لعله من الغريب والمثير معاً أن يجري مثل هذا التقارب الروسي - الأميركي في توقيت مواكب لما تشهده الساحة الأوروبية من تحركات، منها ما يستهدف دعم الصفوف وحشد الجهود الرامية إلى تصعيد المواجهة مع روسيا، وتعزيز مواقع أوكرانيا ودعمها عسكرياً وبشرياً بقوات أوروبية تحت ستار ما يسمى بقوات "حفظ السلام"، وهو ما رفضته روسيا شكلاً ومضموناً.
مثلما استهل رحلة "تقاربه" مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب باتخاذ قراره حول الإفراج عن المواطن الأميركي مارك فوغل المدرس السابق في المدرسة الأنغلو أميركية في موسكو الذي حكم عليه بالسجن لمدة 14 عاماً بتهمة تهريب المخدرات وحيازتها بصورة غير قانونية مقابل الإفراج عن المواطن الروسي ألكسندر فينيك الذي كان متهماً بغسل الأموال، عاد الرئيس فلاديمير بوتين إلى اتخاذ قرار مماثل في شأن العفو عن المواطنة الأميركية كسينيا كاريلينا التي حكم عليها بالسجن لمدة 12 عاماً بتهمة "الخيانة العظمى"، وفقاً لما ذكرته مصادر جهاز الاستخبارات الروسية، وذلك باستبدال المواطن الروسي أرتور بيتروف الذي اتهمته الولايات المتحدة بتهريب الإلكترونيات الدقيقة، بها، والذي كان محكوماً عليه بالسجن لمدة 20 عاماً.
ويتكوف ودميتريف
كانت عملية تبادل السجناء بداية ما قد يسمى عملية التطبيع التدريجي للعلاقات بين البلدين التي كشفت عن دلائل عدة وأماطت اللثام عن عدد من "شخصياتها المحورية" غير المعلنة، ومنهم رئيس صندوق الاستثمار المباشر الروسي كيريل دميتريف الذي زار أخيراً واشنطن في مهمة عاجلة تجمع بين السياسة والاقتصاد. وكان دميتريف طرفاً ثانياً مع المبعوث الشخصي للرئيس ترمب لروسيا والشرق الأوسط ستيف ويتكوف في كلتا المهمتين السياسية والاقتصادية، وهو ما تناولته "اندبندنت عربية" في تقريرها السابق من موسكو.
ومن اللافت في هذا الصدد أن الرئيس الأوكراني "المنتهية ولايته" فلاديمير زيلينسكي سبق وطالب بإعفاء ويتكوف من مهمة الوساطة في القضية الأوكرانية، نظراً إلى وقوعه في شرك "أحابيل" بوتين، على حد قوله. وهو ذات الاتهام الذي كثيراً ما روج له الديمقراطيون الأميركيون في حق دونالد ترمب منذ سنوات ولايته الأولى.
وكم كان مثيراً للاهتمام المحلي والعالمي ما يجري من فعاليات يمكن إدراجها ضمن عملية التقارب وتطبيع العلاقات بين البلدين مواكبة من حيث المعنى والدلالات مع ما جرى من مشاورات بين وفدي وزارتي خارجية البلدين في إسطنبول، وهي المشاورات الثانية التي تناولت "تنقية" علاقات البلدين مما لحق بها من شوائب تمثلت في مصادرة ممتلكات البلدين، وعدد من مقارهما الدبلوماسية والقنصلية، وتقليص عدد أفراد البعثتين الدبلوماسيتين في كل من الولايات المتحدة وروسيا، إلى جانب التخلص من كل مظاهر "الإرث السام" للإدارة الأميركية السابقة، على حد قول المراقبين الروس، وذلك فضلاً عن الاجتماع المقرر إجراؤه في العاصمة العمانية مسقط بين موفدي كل من الولايات المتحدة وإيران، بوساطة روسية غير مباشرة، لبحث المسائل المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني.
تصعيد أوروبي
لعله من الغريب والمثير معاً أن يجري مثل هذا التقارب الروسي - الأميركي في توقيت مواكب لما تشهده الساحة الأوروبية من تحركات، منها ما يستهدف دعم الصفوف وحشد الجهود الرامية إلى تصعيد المواجهة مع روسيا، وتعزيز مواقع أوكرانيا ودعمها عسكرياً وبشرياً بقوات أوروبية تحت ستار ما يسمى قوات "حفظ السلام"، وهو ما رفضته روسيا شكلاً ومضموناً، وذلك على وقع ما أعلنه ترمب من تصريحات، ثمة ما يشير إلى أنها لقيت قبولاً من جانب زعماء بعض بلدان الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمهم رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان ورئيس حكومة سلوفاكيا روبرت فيتسو ممن يعارضون تقديم الدعم المادي والعسكري لأوكرانيا.
وفي محاولة للحد من وتائر تلك السياسات أوفدت موسكو كيريل دميتريف مبعوثاً شخصياً من جانب الرئيس بوتين تمهيداً للقاء قريب، من المرتقب أن يجمع الرئيس الروسي، مع نظيره الأميركي في السعودية، حسب تصريحات دميتريف.
وتقول المصادر إن الكرملين استعد لهذا اللقاء المرتقب بين بوتين وترمب بصورة مختلفة، إذ إن كل ذلك جرى قبل يوم من إصدار بوتين تصريحاً للبنك الأميركي "غولدمان ساكس إنترناشيونال" ببيع الأصول الروسية باهظة الثمن المعلقة بصورة يائسة، وذلك نظراً إلى أن المال والصفقات "بيئة مألوفة لدونالد ترمب ومستشاريه"، حسب تعليقات مراقبين كثر. كما أن ذلك جرى أيضاً في أعقاب زيارة الرئيس الفنلندي ألكسندر ستاب وما جرى تسريبه من أخبار ومعلومات حول ما جرى خلال ممارسته لعبة "الغولف" مع نظيره الأميركي، ولا سيما ما يتعلق منها بأن روسيا تماطل في قبولها للوساطة الأميركية الخاصة بتسوية الأزمة الأوكرانية. ونذكر أن ترمب أعرب عن شكوكه في شأن "صدقية" بوتين وغضبه، ومن وتيرته البطيئة في التعامل مع ما يطرحه ترمب من مقترحات، وذلك ما بدا في ما أعلنه من تصريحات اتسم بعضها بالحدة والتهديد ببعض "العقوبات الثانوية"، التي لم تعرها موسكو اهتماماً يذكر.
ويقول مراقبون كثر إن "إدارة دونالد ترمب تواصل زيادة تعاونها مع فلاديمير بوتين. غير أن السخط الصاخب لم يتعد بعد الكلمات، التي تظل أشبه بغلالة من الدخان تعزيزاً لعلاقات البيت الأبيض مع الكرملين. ومن اللافت أن كل ذلك كان ولا يزال يجري على خلفية الحرب المستمرة في أوكرانيا".
وثمة ما يشير إلى أن ما صدر من تصريحات خلال مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونيخ في فبراير (شباط) الماضي يمكن أن يكون من هذا القبيل، وإن جاء في توقيت سابق لعدد من الفعاليات التاريخية التي يتوقف المراقبون عندها، بوصفها خطوة على طريق إذابة تراكمات الجليد، وإزالة ما تناثر منها على طريق البلدين منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية.
المعاني والدلالات
مثلما استهل الجانب الروسي خطواته على طريق حسن النوايا بما اتخذه بوتين من قرارات حول العفو عن السجين الأميركي كما أشرنا عاليه، وما رد به الجانب الأميركي من خطوات مماثلة، كان خطاب نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في مؤتمر الأمن الأوروبي في فبراير الماضي، نقطة تحول في علاقات بلاده مع بلدان الاتحاد الأوروبي، بما تضمنه من اتهامات لها "بخيانة القيم الديمقراطية".
كما أن ما أقدم عليه الجانبان الروسي والأميركي من مفاوضات في الرياض للمرة الأولى منذ اندلاع المواجهات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، اعتبر كخطوة مهمة ليس فقط على طريق تطبيع العلاقات الثنائية، بل وكمقدمة مناسبة لعملية "التسوية الأوكرانية"، وإن جاءت من دون مشاركة أوكرانيا نفسها. ونذكر في هذا الصدد ما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترمب في انتقاداته لتصريحات كييف حول مفاوضات السلام مع روسيا، إلى جانب وصفه للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بأنه "ديكتاتور".
وثمة ما يشير إلى أن الرئيس الأميركي استعاد بعضاً من تراث سابقيه، وإن أعاد صياغته على نحو يتناسب مع متغيرات الساحة الدولية واختلافات العصر. فما درج العالم على متابعته من أوجه الصراع غير المعلن بين الولايات المتحدة والصين من جانب، وروسيا من جانب آخر، مثلما كان الحال عليه إبان سنوات حكم الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون، باتت الولايات المتحدة مضطرة معه إلى مراعاة متغيرات العصر.
ويتذكر المراقبون أن الرئيس السابق نيكسون كشف عن خياره حول ضرورة الاقتراب أكثر من العدو الذي يعتبره أقل خطورة. ومثلما بدأ نيكسون مرحلة التقارب مع الصين لكسر التحالف السوفياتي الصيني، نرى الآن محاولات التقارب بين الولايات المتحدة وروسيا، وذلك لأن إدارة ترمب تعتقد أن الصين أكثر خطورة، حسب تقديرات الخبراء في الشؤون الدولية.
الصين والحلم المؤجل
ولعل ذلك يمكن أن يكون تفسيراً مناسباً لما نراه من تحول في السياسة الأميركية وما يعلنه الرئيس الأميركي الحالي من تصريحات تشير إلى فك الارتباط مع بلدان الاتحاد الأوروبي، انطلاقاً من تبنيه للرأي القائل بضرورة أن تضطلع هذه البلدان بمسؤولية حماية نفسها بنفسها، بما يعني الانصراف إلى الاهتمام أكثر بالشأن الأميركي داخلياً وخارجياً.
ولم يكن ذلك يعني سوى أن الحرب في أوكرانيا مسألة خارجة عن دائرة اهتمام الولايات المتحدة، ولا تهم الأميركيين ممن يعتبرون أن ذلك ليس من مشكلاتهم "لأنه يحدث في مكان بعيد، في الخارج، دع الناس في الخارج يحلون مشكلاتهم بأنفسهم" على حد اعتقاد ترمب، الذي ظل يقول للأوروبيين ولفترة طويلة: "يا رفاق، ابدأوا في التعامل مع أمنكم بأنفسكم".
ومن اللافت في هذا الصدد أن ترمب يظل وإدارته يذكرون جيداً كيف أن الوفد الألماني في الأمم المتحدة، وعلى سبيل المثال ضحك كثيراً عندما استمع إليه وهو يقول خلال خطابه إن "التيار الشمالي-2" كان فكرة سيئة. وبصورة عامة فإن الحرب في أوكرانيا في مفهوم عديد من الأميركيين ليست مشكلتهم.
ومن هذا المنظور يعود الرئيس الأميركي إلى سابق رؤيته لأولويات بلاده التي تتركز في اعتبار الصين الحلم المؤجل والهدف الرئيس لسياساته الخارجية في شقيها الاقتصادي والاستراتيجي. ولإبعاد روسيا أكبر دول العالم من حيث المساحة الجغرافية بعيداً من تحالفاتها مع الصين صاحبة أكبر كتلة سكانية في العالم يبدو ترمب حريصاً على تلبية ما يطلبه بوتين في إطار المعقول، وهو ما سبق واعترف به حين أعلن صراحة عن موافقته على عدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وضرورة تمسكها بوضعيتها الحيادية، فضلاً عن اعترافه بما استولت عليه روسيا من أراضٍ منذ اندلاع الحرب مع أوكرانيا، وهي شبه جزيرة القرم والأقاليم الأربعة في جنوب شرقي أوكرانيا، وذلك ما عاد الرئيس الأوكراني زيلينسكي إلى رفضه، بعدما كان على استعداد للاعتراف به في السابق.