ملخص
تنطلق صوفي لافو في دراسة علمية يضمها كتابها "العودة إلى الحياة" Revenir à soi، (الأفضل هنا "العودة إلى الذات") من فرضية مفادها أن مستقبل الإنسان ينزع إلى انقطاع اتصاله بجسده والاعتماد الكلي على التكنولوجيا. صدر الكتاب بالفرنسية عام 2023 عن دار "ألبان ميشال"، بتقديم أستاذ العلوم العصبية في جامعة السوربون، مدير معهد الذاكرة ومرض الألزهايمر ريشار ليفي، وصدرت ترجمته العربية عن الدار المصرية اللبنانية، بتوقيع أريج جمال.
عقب نتاج سنوات من ممارسة علم النفس السريري، وإجراء كثير من التجارب العلمية، تطرح صوفي لافو سؤالاً حول "كيف يفصلنا العالم الرقمي عن أنفسنا"، وقد جعلت منه عنواناً فرعياً للكتاب نفسه.
ترى لافو، وهي طبيبة نفسانية، وموسيقية فرنسية، أن الإنجاز الكبير لتطور الإنسان سيكمن حقاً في التحرر من جسده، "بما أنه يعيقه في طريقه للتخلص من كل قيد مادي، ومن ثم سيعتمد تماماً على التكنولوجيا كي يصبح أخيراً عقلاً فقط" ص 15. ولاحظ ليفي أن دراسة لافو التي تستند إلى المعارف المنبثقة من علوم الأعصاب وعلم النفس التجريبي، تكشف كيف تُباعِد سطوة العالم الرقمي بيننا وبين مشاعرنا العميقة، كيف تقصينا عن التعاطف مع الآخر وعن علاقتنا العضوية بالطبيعة، وتؤكد في الوقت ذاته أهمية الانفتاح على المشاعر السلبية، "فالحزن والألم ينبغي أن يُستقبلا؛ لأنهما يساهمان في التعاطف مع الآخر".
فقر الروابط
تتألف الدراسة من ثلاثة أجزاء، جاء أولها تحت عنوان "الدماغ في خدمة الابتكار، وفي ثناياه ثلاثة فصول: "الابتكار التكنولوجي كوسيلة للبقاء على قيد الحياة"، "التطور المدهش للإنسان الحديث"، و"هل يجري اختيار المديرين والقادة وفقاً لذكائهم؟". والجزء الثاني "الأرض الخصبة للسطوة الرقمية"، يتضمن أيضاً ثلاثة فصول: "خوارزميات الدماغ"، "النظريات التي نضعها عن العالم هي التي تسمح لنا بتغييره"، و"السقوط في فخ العالم الرقمي". وحمل الجزء الثالث عنوان "العودة إلى داخل الجسد من أجل ما هو أكثر من البقاء"، ويضم الفصول التالية: "في البدء كانت الصلة"، "للجسد مصادر لا يعرفها العقل"، و"مجتمعاتنا والاستغناء عن الإنسان"، أما الخاتمة فعنوانها "عودة للحياة".
وتقول المؤلفة: "نحن نبحث عن الاتصال المستمر، برغم فقر نوعي في الروابط، وانقطاع حسي تام سواء مع الذات أو مع الآخرين، ملاحظة أن وراء الشاشة ليس ثمة رائحة ولا ملمس ولا مذاق، كما أن التواصل غير الشفوي الذي يرتبط بحاستنا السادسة مقيَّد". وترى لافو في مقدمة دراستها التي حملت عنوان "من الاتصال المفرط إلى الانقطاع الكبير"، أن القدرة الكلية التي يتمتع بها العالم الرقمي، غيّرت من شكل تفاعلاتنا والطريقة التي نتصرف بها، إلى حد لم يعد معه لحواسنا أي وزن أمام المحفزات الافتراضية. وتضيف أن الهدف الأسمى في الوقت الراهن وفي المستقبل، ينبغي أن يتمثل في إعادة التواصل بيننا وبين العالم الحي داخلنا ومن حولنا بدلاً من المنافسة التي تستعر بنيران العدوانية وفقدان المعنى.
حالة حرب
وترى لافو أن الأدوات الرقمية باتت تستولي على انتباهنا إلى درجة فصلنا عن بيئتنا المباشرة؛ "وليس غريباً بعد ذلك أن نفشل إلى هذا الحد في الحفاظ عليها؛ إذ إننا لم نعد نوليها انتباهنا، وقد تكون هذه المأساة الكبرى للتطور غير الواعي لكل الأدوات الرقمية المتاحة أمامنا". وتؤكد أن الانفصال عن الذات هو سؤال فلسفي إلى حد كبير، وتتساءل: مم نريد أن نهرب؟ وما المعنى من وراء ذلك الهرب؟ وترى أنه في نهاية المطاف، أن يعثر المرء على معنى لوجوده، ليس هدفاً مقدساً عند جميع الناس"، مشددة على أنها تعرض في هذا الكتاب "رأياً شخصياً جداً، وحميماً جداً، بخصوص الذي أمنحه لحياتي. صحيح إن الهرب بلا توقف، قد يعني البقاء، لكنه لا يعني أبداً الحياة" ص 179.
وتقول إنه حين نهرول في السباق على المكافأة، بينما رؤوسنا مدفونة داخل شاشاتنا الضبابية، كيف سنفكر إذاً في الاتصال بالطبيعة؟ معتبرة ن تلك هي تروس العالم الرقمي، الذي يتعجل تجريدنا من إنسانيتنا، ومن ثم "نحن في حالة حرب ضد نظام الانتباه لدينا. إذاً، فلنربكه هذا النظام، كي تتضح الرؤية، فلنتصل مجدداً بإحساساتنا، فلنكف عن الهرب، ولسوف نعثر بصورة طبيعية على الصلة مع أنفسنا ومع الآخر، ومع الطبيعة". وترى لافو أننا بذلك سوف نستعيد الثقة في ملكاتنا، "سوف نبحر رفقة الشك، ومن دون أن نُطَالب بالمعرفة المسبقة لكل شيء، وبهذا سوف نحيا أخيراً".
كوكب افتراضي
ولاحظت المؤلفة كذلك أن إعادة تعريف الصعود الاجتماعي مع إعادة توجيه تعطشنا للمنافسة في اتجاه لذة الاتصال بالذات وبالآخرين، من شأنه تجديد الشعور بلذة الوجود في العالم ومن دون أن يتطلب منا ذلك تشكيله باستمرار ليصير على هوانا. وأوضحت في هذا الصدد أن العالم الرقمي باعَد بيننا وبين الشعور بالاندهاش؛ "صرنا كما لو أننا روبوتات موصولة إلى آلات. وتقول: "لقد أضعنا شيئاً من قدرتنا البدائية والحيوانية على البقاء، واتجهنا في المقابل إلى استراتيجيات تنهض على الاستدلالات المنطقية؛ مفادها: إحاطة أنفسنا بسبل الأمان، وتقليل الشعور بالشك، وزيادة الشعور بالراحة، والتنصل من هشاشتنا إلى حد أصبحنا معه ننظر إلى المرض والموت كصور للإخفاق". وتضيف:" ينجذب عقلنا إلى كل ما هو مجرد، ولم يعد غريباً أن نأمل في غزو كوكب آخر بمجرد أن تنتهي علاقتنا بكوكبنا الحالي. بل والأسوأ، ابتكار كوكب افتراضي يظل فيه دماغنا على مدار الـ 24 ساعة موصولاً إلى موزع دوبامين، مثل فأر يدور بلا توقف على العجلة التي تلقمه السكر".
وخلصت صوفي لافو إلى أن الولع بالميتافيرس وأشكال الذكاء الاصطناعي مثل Chat GPT "هو الانعكاس الملموس للوقوع في فخ السير نحو فنائنا". وذكرت في هذا السياق أن جسد الإنسان ينبغي أن يظل "الداعم الأساسي في استقبال الحياة، وإليه ينبغي أن نعود"، معتبرة أن هشاشة الإنسان ليست ضعفاً، بل هي قوة تهيئنا لحسن التصرف بما يتيح لنا تقدير وجودنا معاً. إنها تذكرنا بما يكملنا، بتكافلنا وتسمح لنا بالاستناد؛ أحدنا إلى الآخر، مثل أحجار حيَّة لعالم تحت التأسيس". ورأت أن التراجع أمام تحيزاتنا المعرفية، والانفصال عن الفضاءات الرقمية التي تستولي على انتباهنا وتُضل دماغنا؛ يعني أن نمنح أنفسنا فرصة الانفتاح على لحظات لم نعشها من قبل، فرصة اللقاء الحقيقي مع الآخر، واكتشاف فرادتنا الشخصية، وإمكانية أن نؤسسس ما نشعر معاً أنه "صالح" للذات والعالم.