ملخص
بعد 50 عاماً على اندلاع الحرب الأهلية، لا يزال لبنان عالقاً بين رصاصة الماضي وانهيار الحاضر فالوجوه تبدلت، لكن الحرب مستمرة بأدوات أخرى حيث الطائفية والفساد والجوع.
في بلد يشبه الذاكرة، لا تزال الحرب تمشي حافية في الأزقة، وتترك آثار خطواتها على الجدران والقلوب معاً. لم تطو صفحة الحرب الأهلية في لبنان فعلياً بل طويت على عجل، وبحبر باهت سرعان ما تلاشى تحت ثقل الطائفية والانهيار. ورغم مرور 50 عاماً على اندلاعها، لم تعلن تلك الحرب نهايتها بوضوح بل اكتفت بتبديل الوجوه، وتغيير السلاح، واستبدال خطوط التماس بأخرى أكثر خفاء.
من بوسطة عين الرمانة انطلقت الشرارة الأولى في 13 أبريل (نيسان) 1975، حين تحولت حافلة الركاب إلى رصاصة جماعية فجرت المخاوف المكتومة، ومزقت شرايين العيش المشترك. تلك البوسطة لم تكن مجرد حادثة، بل كانت إعلاناً صريحاً عن دخول لبنان في نفق طويل من الدم والانقسام. واليوم وبعد خمسة عقود، تعود مشاهد النزوح والقلق لتطل برأسها، من خلدة إلى الجنوب، ومن المخيمات إلى قلب العاصمة. الخوف واحد والوجع يتكرر وكأن البوسطة لم تتوقف قط… بل غيرت فقط مسارها والركاب.
الذاكرة اللبنانية مدججة بالمفقودين والأحلام المؤجلة. لا الحرب رحلت تماماً، ولا السلم استقر فعلاً. بلد معلق بين رصاصة قديمة وشظية مستقبل، يبحث عن نفسه في ركام الذكريات، ويتلمس خريطة نجاته في شهادات من عبروا الجحيم وخرجوا منه أحياء، بجسد مدمى أو بندبة ناطقة أو حتى بصمت ثقيل يسكن العين.
في هذه السلسلة، تنقب "اندبندنت عربية" في ذاكرة الحرب من خلال روايات أناس عاشوها لا كأرقام ولا مجرد شهود، بل كأبطال مغمورين قذفوا إلى الصفوف الأمامية. منهم من قاتل ومنهم من اختبأ، ومنهم من أنقذ أو انتظر أو صمت. نساء ورجال، أمهات وطلاب، مقاتلون ومواطنون… كل منهم يحمل جزءاً من رواية لم تكتب بعد عن بلد لم يخرج بعد من ركامه، وعن بوسطة لا تزال تدور في الذاكرة بلا محطة نهائية.
زاهية: الرصاصة التي لم تقتلني
في صباح رمادي من عام مشتعل، تفتح زاهية ذاكرتها على جرح لم يشف، وطلقة لم تخرج من جسدها ولا من حياتها. اليوم تبلغ 62 عاماً، لكنها تعود بالزمن إلى لحظة كانت فيها في ربيع عمرها، في الـ27 تحديداً، حين كانت بيروت تشتعل من جهتين، ويستعر الجنون الأهلي على كل مفترق.
"كنت في زيارة إلى منزل أهلي في الأشرفية، شرق بيروت، حيث أمضيت الليلة مع والدتي وأخوتي، كما اعتدنا بين الحين والآخر. ومع بزوغ صباح تهدئة نادرة، قررت أن أعود إلى بيتي في غرب بيروت، حيث ينتظرني زوجي وأطفالي. حملت طفلي الصغير على صدري، وانطلقت مع أختي وزوجها وأولادنا عبر شوارع موحشة لا يسكنها سوى الخوف، حيث كل حجر يخفي قناصاً، وكل زاوية تخفي احتمال موت".
المشهد كان صامتاً، وكأن المدينة حبست أنفاسها أو ربما تهيأت لانفجار جديد. على الطريق، كانت خطواتهم خفيفة، مشبعة بتوتر الغياب والحنين… ولكن القدر كان أسرع من الحذر.
وتستذكر زاهية، "بينما كنت أستند إلى أحد الجدران لألتقط أنفاسي، شعرت بحرارة تمزق صدري، ثم بدأت أتهاوى بصمت والدم يبلل الجدار خلفي. طفلي في حضني لم يتحرك، لم يبك. وفي الملجأ، وبعد دقائق في الملجأ، تلقت والدتي خبر إصابتي عبر أثير محطة لبنانية يذاع ضمن قوائم الضحايا. صرخت والدتي وانهار إخوتي من الصدمة، بينما كنت في تلك اللحظة أتنفس بصعوبة داخل سيارة إسعاف، موصولة بماكينة أوكسيجين. وعند وصولي إلى المستشفى وبعد تلقي الإسعافات اللازمة، أخبرني الطبيب أنه لا يستطيع إجراء عملية لإزالة الرصاصة، نظراً إلى اقترابها من الشرايين الدقيقة للقلب، وأنني سأضطر إلى التعايش معها مدى الحياة. وعندما بدأت أتماثل للشفاء، دخل أحد عناصر "حزب الكتائب اللبنانية" إلى المستشفى، مذهولاً من نجاتي، واقترب مني وسأل: شو عامل بيك لتنجي (ما الذي جعلك تنجين؟) فأجبته: أبي كان أباً للفقراء، لا يترك محتاجاً إلا وساعده، يقتطع من طعامنا ليطعم الجائع، وينزع معطفه شتاء ليدفئ المشردين. في تلك اللحظة، أدركت أن الحياة كتبت لي، ربما بدعاء محتاج أو بكرم والد لم يملك سوى طيبة قلبه".
هي لم تنجُ فحسب، بل كتبت لها حياة جديدة برصاصة بقيت تسكنها كوشم صامت. لم تخرج من جسدها، ولم تغادر ذاكرتها، بل رافقتها في كل يوم كأنها تذكير يومي بأنها عبرت من الظلام إلى الضوء.
وتختم زاهية، "مرت الأعوام، وظلت الرصاصة ساكنة في جسدي. قال الأطباء إن استخراجها قد يعرض حياتي للخطر، فتركتها حيث هي، تتحرك داخلي مع الوقت حتى استقرت في منتصف رقبتي، كندبة لا تزول، وكعلامة خالدة على أنني عبرت من الموت إلى الحياة، من بيروت الشرقية إلى بيروت الغربية، من أم جريحة إلى امرأة شاهدة. واليوم، وبعد مرور كل هذه الأعوام، لا تزال تلك الرصاصة تهمس لي كل ليلة: ’نجوت… لكنك لم تنسي’".
"حنش بيروت"
يسترجع أحد القياديين السابقين في حزب "المرابطون"، المدعوم آنذاك من قوات الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، أيام الحرب الأهلية في بيروت، حين كان يعرف في الأزقة الضيقة والمواقع المشتعلة بلقب "حنش بيروت". لم يكن الاسم مجازاً.
الرجل الذي عايش التحولات الميدانية وكان جزءاً من الجبهة الوطنية، يروي اليوم قصته بنبرة تجمع بين الاعتزاز والخذلان، ويقول "خسارتي الأكبر لم تكن في ساحة المعركة، بل حين طلب منا أن نسلم سلاحنا للجيش اللبناني ونضعه في مستوعبات النفايات. أنا كنت أملك ترسانة كاملة. لم أتجاوب. حصلت عمليات دهم، ودهموا بيتاً قرب منزلي كنت قد خبأت فيه نصف شاحنة من الذخائر… استلمها الجيش، قطعة قطعة، كأنهم ينزعون عني جلد الحرب".
لكن المفارقة التي تقض مضجعه اليوم، أنه يرى أن ما نعيشه الآن أسوأ من جحيم الأمس. "في الحرب الأهلية، كنا نعرف العدو من الصديق، كنا نعرف من يطلق النار ومن يرد. اليوم؟ الفساد مستشر في كل مفصل، الكهرباء بالكاد تصل، والدولة غائبة. لم نعرف المجاعة في بيروت حتى في أسوأ أعوام الحرب، أما الآن فالبطون فارغة، والكرامة مستنزفة". يتنهد، ثم يضيف، "في ذلك الزمن، كانت الملاجئ فعلياً مأوى للناس. اليوم، الأبنية تشيخ، والملاجئ تحولت إلى مقابر مؤجلة".
لم تكن نجاته من محاولتي اغتيال سوى فصول جانبية في كتاب الحرب الطويل. ويقول، "مرة، كنت واقفاً على شرفة أحد الأبنية، مرت رصاصة قناص قرب رأسي، شعرت بحرارة الدخان ترتفع من شعري. ومرة أخرى، بينما كنا ننسحب بموجب اتفاق، ركضت إلى مبنى آمن، فأصابني القناص في كعب حذائي… تركت الرصاصة أثراً في كاحلي وذكرى لا تنسى في رأسي".
ويختم روايته بشيء من السخرية المرة، "كنا نطلب من السكان مساعدتنا في توزيع الطحين والخبز والدواء، ونتفق على طلاء المصابيح بالأسود، أو نضع أوراق الجلاد الأزرق على الزجاج كي لا يظهر الضوء ليلاً للمقاتلين. اليوم، لا نحتاج إلى التمويه… لأن لا كهرباء أصلاً!".
زوجة المقاتل… و"السيمينوف!"
بدورها، تقول ناديا، زوجة أحد المقاتلين السابقين، إنها لم تكن بعيدة يوماً من أجواء المعركة، حتى وإن لم تحمل السلاح علناً. فقد أصر زوجها، حين اشتدت الحرب في منطقة تلة الخياط على تدريبها على استخدام سلاح "السيمينوف"، فكه وتركيبه، وتصغيره وإخفاءه، تحسباً لأي لحظة قد تضطر فيها للدفاع عن نفسها وأطفالها. تتذكر ضاحكة، "كان يشرح لي كيف أطلق النار، وكأنني سأنزل إلى ساحة القتال بعد الغداء مباشرة. كنت أحفظ موقع الذخيرة كما أحفظ علب البهارات في المطبخ!".
لكن مشهداً واحداً بقي محفوراً في ذاكرتها. ففي أحد الأيام، حملت ابنها الرضيع وتوجهت لزيارة والدتها. وما إن نزلت من السيارة، حتى لمحت عبوة ناسفة مزروعة قرب العجلة الخلفية، معدة لاستهداف شخصية دبلوماسية عربية كانت تسكن في المبنى نفسه. تقول، "شعرت بأن الأرض تهتز تحت قدمي، ليس بسبب الانفجار، بل من شدة المفاجأة. لا سلاح في يدي، ولا فكرة عما أفعل. فقط رضيع على صدري، وهاجس واحد في رأسي: ماذا لو انفجرت الآن؟ حينها فقط أدركت أنني، رغم التدريب والجاهزية، لست مقاتلة… أنا أم، وأمومتي كانت هاجسي الوحيد".
ذاكرة التهجير والأسر
من ناحيته، يروي شاهد من أبناء برج حمود، طالباً عدم الكشف عن اسمه، تفاصيل عاشها حين كان لا يتجاوز العاشرة من عمره. يقول، "كنت في الصف الثاني ابتدائي، حين بدأت الحرب الأهلية تقتحم تفاصيل حياتنا اليومية. لم تكن ناراً مستعرة طوال الوقت، بل جولات تتخللها لحظات هدوء وهمي، ثم تعود لتندلع من جديد. بدأت الجولة الأولى من مخيم تل الزعتر، ومعها بدأت تظهر مظاهر التأييد للفلسطينيين من أحياء مثل النبعة وبرج حمود، بسبب وجود بعض الأحزاب اليسارية والأنصار داخل هذه المناطق".
يضيف، "حصار تل الزعتر دام 90 يوماً. وعندما سقط انهارت معه النبعة وبرج حمود. دخل المسلحون إلى الأحياء ودهموا المنازل، وجمعونا جميعاً في كنيسة الأرمن باتجاه أراكس. شعرنا للحظات أننا أسرى. كانوا يوزعون الطعام مرتين في اليوم: عند الساعة العاشرة صباحاً، ثم عند الخامسة عصراً، وكنا نرتجف كلما نادوا اسم أحد، لأن من ينادى عليه غالباً لا يعود".
ويتابع، "لاحقاً بدأ الأرمن بالدخول إلى المنطقة، وكانت مشاهد التهجير المسيحي من الدامور قد حصلت، فصار التهجير مقابلاً للتهجير: يخرجون مسلحاً فلسطينياً من برج حمود، ويسكنون مكانه عائلة مسيحية. يوم أفرج عنا، ذهبنا إلى مركز الكتائب لنحصل على تصاريح مرور. هناك رأيت مشهداً لن أنساه: عسكري يصرخ على الضابط الذي أوقفنا ويقول له: "شو عم تعمل؟ (ماذا تفعل؟) عم تذل العالم؟ (هل تذل الناس؟)"… وعرفت لاحقاً أن هذا العسكري كان الرئيس الراحل بشير الجميل".
يختم بصوت فيه مرارة الذاكرة، "في تلك اللحظة فهمت أن المشكلة لم تكن بين مسلم ومسيحي كما كانوا يقولون… كانت أعمق من ذلك. كانت بين اللبناني الذي أراد أن يبقى في بلده، والفلسطيني الذي حاول أن يصادره".
مقاتل من غير خيار
من جهته، جورج حايك مقاتل قواتي من الأشرفية، لم يكن يحب الحرب لكنه وجد نفسه فيها. ويقول، "في بدايتها، انتظمت بها مثل كثير من أبناء جيلي، بعدما وجدت الفصائل الفلسطينية المسلحة في مناطقنا، تحت شعار مقاومة إسرائيل، لكنها سرعان ما وجهت سلاحها إلى الداخل حيث صدور المسيحيين في الأشرفية وغيرها. كان القنص يحصل، والخطف على الحواجز يجري بعشوائية ومن دون برمجة. لم يكن هناك وقت للتفكير، بل فقط غريزة للدفاع عن النفس. من دون خلفية سياسية، حملت ووالدي وأقاربي السلاح، وانضممنا لاحقاً إلى أحزاب كالقوات اللبنانية، حراس الأرز، والوطنيين الأحرار، ليصبح القتال منظماً بقدر ما تسمح به الفوضى".
ويروي جورج، "تدربنا في الجبال وفي مناطق داخل الأشرفية، لأن ما كان يحضر أكبر من مجرد اشتباكات. فبينما كان اتفاق القاهرة ينص على توجيه السلاح الفلسطيني إلى الجنوب، سمعنا بشعارات تذاع تقول إن ’طريق القدس تمر من جونيه’، مما عزز قناعتنا أن المشروع لم يكن مقاومة، بل محاولة لجعل لبنان وطناً بديلاً. ومع مرور الأعوام، شعرت أن المسيحيين الذين عدوا أنفسهم ركناً أساساً في بناء هذا الوطن باتوا مهددين. خسرنا أصدقاء لنا، أقاربنا، ورأينا أمام أعيننا التهجير والمجازر، من الدامور إلى حرب الشحار". واليوم، ينظر إلى الخلف ويقول، "سامحنا، لكننا لن ننسى، لأن النسيان يعني إعادة الكارثة".
لبنان بعد الحرب... نظام طائفي هش وذاكرة لا تهدأ
على رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الأهلية رسمياً، لا يزال لبنان يعيش في ظلالها الثقيلة، فالاتفاق الذي أنهى الصراع، أي اتفاق الطائف عام 1989، لم يطبق بالكامل، ولم يتمكن من بناء سلام مستدام. فالنظام الطائفي الذي فجر الحرب لا يزال قائماً، بصور مختلفة، وأدوات أكثر تعقيداً وخطورة.
في حديث إلى "اندبندنت عربية" يرى المتخصص في مجال العلوم السياسية ورئيس قسم الدراسات الدولية والسياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية الدكتور عماد سلامة، أن "الحرب في لبنان لم تطوَ فعلياً، بل تغيرت أدواتها". ويقول، "انتهت الحرب رسمياً باتفاق الطائف، نعم، لكن التنفيذ بقي ناقصاً. لم ينشأ مجلس الشيوخ، ولم تلغَ الطائفية السياسية، ولم يستكمل انسحاب الجيش السوري كما نص الاتفاق. كما أن بقاء سلاح المقاومة خارج الدولة، وما تلاه من نفي وسجن واغتيالات في حق شخصيات معارضة، أبقى الجراح مفتوحة وجعل الحرب مستمرة ولكن بوسائل سياسية وأمنية واجتماعية".
لا يقتصر الأمر على الماضي غير المنجز، بل يتعمق أكثر في الحاضر المتعثر، إذ يعد سلامة أن "النظام الطائفي لا يزال ثابتاً لأن القوى السياسية المستفيدة منه لا تملك حافزاً لتغييره"، لافتاً إلى أن "كل الدعوات إلى إصلاح النظام اصطدمت بجدار الانقسام الداخلي الحاد، والتدخلات الخارجية المستمرة، من إيران وسوريا من جهة، والدول الغربية من جهة أخرى"، معتبراً أن "هذا الواقع عطل كل إمكانات الانتقال نحو دولة مدنية ديمقراطية قائمة على المواطنة".
ويلفت الدكتور سلامة إلى أن "الأحزاب السياسية الحالية، التي يفترض أنها تعمل ضمن مؤسسات الدولة، لا تزال بمعظمها نتاج مباشر للحرب الأهلية، وسلوكها السياسي لا يزال يحمل في جوهره منطق الميليشيات، رغم تغيير الأشكال. هذه الأحزاب تعيد إنتاج الانقسام الطائفي، وتخضع المصلحة الوطنية لحسابات فئوية ضيقة، مما يسهم في عرقلة بناء الدولة وتعطيل مؤسساتها.
ويحذر من خطر آخر لا يقل أهمية، ألا وهو "الشرخ الجيلي في الذاكرة السياسية". ففي رأيه أن "الأجيال التي عايشت الحرب تعيش في ظل حذر دائم، وتخشى تكرار المأساة، بينما الأجيال الشابة، التي لم تختبر ويلات الحرب، تنتظم في الحياة السياسية بخطابات حادة وغير مدروسة، وغالباً ما تفتقر إلى الوعي الكامل بأخطار الانقسام". هذا "التفاوت في الوعي الجمعي"، كما يصفه، "ينعكس مباشرة على الخطاب السياسي والسلوك المدني في المجتمع اللبناني".
ويؤكد سلامة أن "الجماعاتية السياسية لا تزال تحكم المشهد اللبناني، وهي أحد أبرز تعبيرات العجز عن بناء دولة المواطنة. ما لم يتم تجاوز الحسابات الفئوية الضيقة، وبناء شراكة وطنية حقيقية على أساس المصلحة العامة، سيبقى لبنان أسير التوازنات الهشة، وستبقى الحرب، وإن بغير سلاح، حاضرة في تفاصيل حياتنا".
حين كان زمن الحرب… أقل قسوة من زمن الانهيار
من ناحية أخرى، كثر اليوم، خصوصاً من الجيل الذي عايش الحرب الأهلية، لا يترددون في المقارنة، "أيام القذائف كانت أهون من أيام المصارف". فبين 1975 و1990، وعلى رغم الحصار والخطف والانفجارات، لم يذل اللبناني على أبواب المصارف، ولم يحرم من دوائه وكهربائه ومائه كما اليوم. "الحرب كانت دامية، نعم، لكنها لم تكن مهينة كما هذا الانهيار البطيء، حيث العدو هذه المرة ليس خارجياً بل هو نظام يعيش فينا".
اقتصادياً، يرى المحلل المالي والاقتصادي بلال علامة أن "الحرب اللبنانية لا تزال حاضرة بكل تفاصيلها. الفرز المناطقي، الانقسام الطائفي، التدخلات الخارجية، وضعف الدولة… كلها مؤشرات تنذر بإمكانية نشوء صراع جديد، وإن كان بصيغ مختلفة عن الحرب العسكرية المباشرة. نحن أمام حرب اجتماعية – اقتصادية – مناطقية تعيد رسم خطوط التماس بأدوات معاصرة".
ولفت الانتباه إلى أن "لبنان في بداية الحرب الأهلية كان يتمتع بمقومات اقتصادية واجتماعية وسياسية أقوى بكثير، بحيث إن الدخل الفردي كان مرتفعاً، الدولار كان يساوي ليرتين و75 قرشاً، والقدرة الشرائية قوية، والاقتصاد اللبناني كان لا يزال يملك عناصر صمود. لكن مع تعقد الصراع، وامتداده إلى تدخلات خارجية كالإسرائيلي والسوري، وغياب الاستقرار، بدأ الانهيار يتسلل إلى مفاصل الدولة والاقتصاد".
ويعد علامة أن "اتفاق الطائف كان مفصلياً في تاريخ لبنان، وكان يمكن أن يؤسس لحال استقرار دائمة، لكنه طبق جزئياً، وابتداء من عام 1992 بدأ الانقلاب على جوهره، وجرى تحوير بنوده، مما أعاد إنتاج الانقسامات القديمة بصورة أكثر تعقيداً"، مشيراً إلى أن "هذه الانقسامات انعكست داخل المؤسسات، فصار كل قطاع، من التعليم إلى المصارف، أسيراً لطائفة أو حزب، مما عمق الاحتكار والانقسام المجتمعي".
ويرى علامة أن "الصورة قاتمة. لبنان يعيش أسوأ مراحله اقتصادياً. أكثر من 80 في المئة من الشعب تحت خط الفقر، والمجتمع فقد مقوماته الأساسية. الدولة منهكة، والعلاقات مع المحيط العربي الذي كان يدعمه اقتصادياً وسياحياً تراجعت بشدة"، محذراً من أن "ما نعيشه الآن أخطر من الحرب نفسها. في الأقل في الحرب كنا نملك اقتصاداً وحياة يومية شبه طبيعية… أما اليوم، فلدينا دولة مفلسة ومجتمع مفكك وانهيار شامل بلا أي أفق للنجاة".