ملخص
الحرب في بيروت لم تكتب سطرها الأخير، بل اختبأت بين الحجارة والأسقف المتصدعة، كان لا بد من العودة إلى المباني التي بقيت على حالها، ترفض النسيان كما ترفض الزينة.
بيروت لا تزال تحتفظ بندوب الحرب في مبانيها المهملة، من "بيت تابت" و"البيضة" إلى "برج المر" و"بيت بيروت".. مبانٍ تذكر بأن الحرب لم تطوَ فعليّاً، بل بقيت معلقة على الواجهات.
لم تكن بيروت يوماً مجرد عاصمة. كانت مرآة… وعاصفة. مَرسى أحلام ومسرح اشتباك. مساحة صغيرة على المتوسط تختزن في جغرافيتها ما لا تسعه خرائط المنطقة كلها. 50 عاماً مرت على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ولم تنج المدينة من فخ الذاكرة. تذكر بلا انقطاع. تذكرنا أن الحرب لم تطوَ، بل أعيد طيها بعناية… وعلِّقت على جدران منسية.
في فندق "فينيسيا"، كان السياسيون ينسجون خيوط التفاهم، قبل أن تتحول الردهات إلى أصداء طلقات. في "برج المر"، صعد القناصة درجات الخراب، وكتبوا على الواجهة درساً في القنص والانقسام. في "بيت بيروت"، بقيت الشظايا في مكانها، كأنها تنتظر شهوداً متأخرين على زمن لم يحاكم أحد عليه.
مبانٍ لا تزال على قيد الرصاص، تحتفظ بندوبها بغيرة مؤلمة. لم ترمَّم لأنها لا تريد أن تنسى. لم تهدم لأن في سقوطها إعداماً للذاكرة. في بيروت، لا تدفن الحروب… تترك مفتوحة على مصاريعها، تماماً كما تركت نوافذها يوماً مشرَّعة على العاصفة.
بيروت لا تبحث عن مصالحة، بل عن اعتراف. عن من يصغي لحجارتها وهي تروي حكاية بلد لم يشفَ، ومدينة تصر على أن تكون شاهدة، حتى وإن اختنقت بالغبار.
ولأن الحرب في بيروت لم تكتب سطرها الأخير، بل اختبأت بين الحجارة والأسقف المتصدعة، كان لا بد من العودة إلى المباني التي بقيت على حالها، ترفض النسيان كما ترفض الزينة. أبنية لا تزال تنبض بالأسئلة: لماذا تركت؟ لماذا لم تهدم أو ترمَّم بالكامل؟ هل كانت مجرد ضحايا للرصاص، أم أنها اختيرت لتبقى على هذه الصورة، كشاهد بصري دائم على ما جرى؟
بيت تابت
من بين الشواهد الحية التي بقيت معلقة في ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية، تبرز أبنية لم تهدم ولم ترمَّم بالكامل، بل تركت على حالها، كأنها تحتفظ بأسرار تلك السنوات القاسية. يرى المؤرخ اللبناني عماد مراد أن في بيروت مباني ليست فقط معماراً، بل وثائق صامتة تنبض بما جرى من تقسيم وقتال، ومن محاولة بناء ثم توقف، ومن رماد وخرسانة لم تمحَ.
يروي أن من أبرز هذه الأبنية ما يعرف بـ"بيت تابت" أو "بناية تابت"، التي تعود إلى بدايات تأسيس لبنان الكبير. وقد تميزت بكونها أول مبنى حديث في بيروت، شيِّد بالباطون المسلح بدلاً من الحجر أو القرميد، وكانت نقلة عمرانية غير مألوفة في حينها.
هذا المبنى، الذي مثل رمزاً للحداثة، تحول خلال الحرب إلى مركز قنص استراتيجي، إذ كان يتمركز فيه المسلحون بسبب سماكة جدرانه وقوة بنيته. وبعد الحرب، اشترته بلدية بيروت، وقررت الحفاظ عليه لا كأثر معماري فقط، بل كعِبرة. فقد رمِّم من الداخل فقط، فيما أبقي على شكله الخارجي كما هو، ليبقى شاهداً على ما عاشته العاصمة. وقد تحول اليوم إلى مركز ثقافي ومسرحي يستخدم للأنشطة العامة، ويحمل رسالة بصرية تقول: "انظروا ماذا حل ببيروت".
مبنى البيضة
ينتقل مراد في حديثه إلى مبنى آخر ما زال اسمه عالقاً في ذاكرة المدينة، هو مبنى "البيضة" في ساحة الشهداء، والذي كان في الأصل مركزاً تجارياً يعد الأكبر في الشرق الأوسط وقتها. بني في ستينيات القرن الماضي خلال عهد الرئيس شارل الحلو، وأثار تصميمه يومها انقساماً في الرأي العام البيروتي.
البعض اعتبره غريباً عن النسيج المعماري للعاصمة، بينما رأى فيه آخرون – داخل لبنان والعالم العربي – نموذجاً مذهلاً للحداثة العمرانية. في زمنه، كانت بيروت في ذروة ازدهارها، وكانت تعيش انفجاراً في الفن والاقتصاد والمعمار، رغم بدايات التوترات السياسية والأمنية. ومع اندلاع الحرب، تحول المبنى إلى نقطة تماس، وتعرض لتدمير جزئي، لكنه حافظ على شكله بفضل صبته الإسمنتية المتينة، وما زال حتى اليوم قائماً كأثر رمادي صامت، يروي قصة الصعود والانهيار معاً.
طرحت مشاريع ترميم متعددة لإعادة تأهيله، لكنها بقيت من دون تنفيذ، وكأن المدينة قررت أن تتركه كما هو، ليبقى هو الآخر رمزاً للحرب، يهمس لا يصرخ، ويتكلم بلا صوت.
برج المر
أما ثالث الرموز، فهو برج المر، المبنى الذي كان يوماً أعلى برج في بيروت، بناه النائب والوزير السابق ميشال المر في أوائل السبعينيات، قبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب. برج إسمنتي ضخم، أراد المر أن يكون بصمته في المدينة، كغيره من أثرياء تلك المرحلة الذين كانوا يسعون لتخليد أسمائهم في المعمار.
لكن المشروع لم يكتب له أن يعيش، فالحرب اندلعت قبل أن يفتتح، وتحول المبنى خلال خمس عشرة سنة إلى موقع مثالي للقنص، نظراً إلى إطلالته الشاملة على العاصمة. انتهت الحرب، ولم يرمم البرج ولم يهدم، بل بقي كما هو، كتلة ضخمة من الخرسانة المسلحة تتأمل بيروت من الأعلى، وتحمل في طوابقها الفارغة صدى سنوات طويلة من القنص والعنف والجمود.
يقول مراد إن هدمه اليوم يكاد يكون مستحيلاً بسبب حجمه، إذ يتكون من 35 طابقاً فوق الأرض، وسبعة طوابق تحتها، ما يجعله من أكثر المباني تعقيداً من حيث المعالجة الهندسية والمالية.
ذاكرة حية ومسؤولية غائبة
بدوره، يرى المهندس المعماري منذر قمبريس أن "هذه المباني ليست مجرد بقايا عمرانية، بل ذاكرة حية يجب التعامل معها بحس وطني ووعي معماري"، مؤكداً أن "إعادة إحياء الأبنية المتضررة من الحرب يجب أن تتم من خلال ترميمها بما يحفظ حالتها التاريخية، مع الحفاظ على طابعها الجمالي والمعماري، لا بهدف تجميلها، بل لأن في ذلك خطوة نحو مصالحة الناس مع ذاكرتهم".
ويقول قمبريس إن "كثيراً من هذه الأبنية كانت ذات طابع مشترك بين المسلمين والمسيحيين، وكانت تقف في أحياء عرفت بتعايشها، لا بانقسامها. من هنا، فإن ترميمها يحاكي تاريخ بيروت القديمة، ما قبل الحرب، حيث التعايش والتقاطع العمراني والثقافي، ويعيد إحياء روح المدينة التي كانت تجمع ولا تفرق".
ويعطي مثالاً على ذلك "بيت بيروت" الواقع في السوديكو، الذي ترك على حاله ليحكي قصة المدينة في سنوات الحرب، من دون أن يطمس أو يعاد تشكيله، بل ليكون شاهداً دائماً على ما جرى. لكن التحدي لا يتوقف عند إعادة الترميم، بل في غياب المؤسسات التي كان يفترض أن تقوم بهذا الدور. ويحمل قمبريس المسؤولية الأساسية لـ "وزارة الثقافة، التي من واجبها حماية الأبنية التاريخية"، معتبراً أن "الحفاظ على هذه المباني هو أيضاً حفاظ على ذاكرة ما قبل الحرب، وهي الذاكرة التي قد تطمسها آثار الحرب لو ترك الأمر للإهمال"، مشيراً إلى أن "تجربة باريس بعد الحرب العالمية الثانية، حيث حفظت الواجهات المعمارية القديمة، واستمر في صيانتها حتى اليوم، لتبقى المدينة محتفظة بوجهها الحضاري والتاريخي".
ويؤكد أن "آثار الحرب لا تزال قائمة، ليس فقط في الأبنية المدمرة، بل في البنى التحتية الكاملة للعاصمة"، معتبراً أن "المشكلة تتجاوز وزارة الثقافة لتصل إلى غياب وزارة التخطيط، التي يعتبرها حجر الأساس لأي إعادة إعمار فعلية"، مضيفاً أن "مجلس الإنماء والإعمار لم يتعامل مع بيروت كوحدة شاملة، وأن غياب التخطيط الحضري جعل آثار الحرب تتراكم بدل أن تعالج".
برأيه، "لا يمكن إزالة آثار الحرب الأهلية من حياة اللبنانيين من دون إعادة إحياء وزارة التخطيط، التي يجب أن تكون مسؤولة عن إعادة بناء بيروت ومعالجة التوزع العمراني وبنية المدينة". ورغم كل ذلك، يصر قمبريس على "أهمية الحفاظ على بعض الأبنية المتضررة كما هي، من دون تجميل، لأنها تذكر اللبنانيين دائماً بما مروا به".
ويقول إن "مشهد "بيت بيروت" في السوديكو بات علامة ثابتة، يمر بها الجميع، وتذكرهم بالحرب، ليس لتحريك الألم، بل لحماية الذاكرة. هذه الأبنية، برأيه، يجب أن تحافظ على وضعها المتعب، لتكون حاضرة دائماً كتحذير وكعبرة، حتى لا تتكرر المأساة. فكما يقول: نحن بحاجة إلى ذاكرة واضحة، نراها كل يوم، لا كي نبكيها… بل كي لا نعيشها من جديد".
بيروت تكتب من جراحها
وسط مشهد عمراني متشظٍ ومدينة لا تزال تتلمس طريقها بين الذاكرة والنسيان، يفتح الإعلامي زافين قيومجيان نوافذ بيروت على جراحها المعمارية، في قراءة تعيد للأبنية المهملة صوتها، وللخرسانة معناها.
الإعلامي والكاتب وأستاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية زافين قيومجيان يرى في حديث خاص لـ"اندبندنت عربية" أن "كل مبنى في المدينة لديه قصة، فبيروت، مثلها مثل المدن الكبرى، تتكون من طبقات متداخلة، تتجدد أحياناً وتتهالك أحياناً أخرى، لكنها في كل الأحوال تحتفظ بجروحها كعلامات باقية في الذاكرة". وبالنسبة إليه، "لا يمكن النظر إلى الأبنية المهجورة أو المتآكلة على أنها خراب فحسب، بل هي جزء من تاريخ المدينة ومن هوية ناسها".
يؤكد زافين أن "غياب خطة مركزية واضحة لإعادة الإعمار هو أحد الأسباب التي جعلت هذه المباني تبقى على حالها لعقود". يقول: "المدن فيها دائماً أحياء تموت وأحياء تعيش، مبانٍ تنهار وأخرى تبقى. وهذا جزء من منطق الحياة المدنية. لكن في بيروت، لكل مبنى ظروفه: هناك ملكيات متنازع عليها، شركات أفلست، ورثة متعددون، أو حتى جهات أجنبية تملك العقارات ولا تتخذ قرارات بشأنها. وبالتالي فإن الجمود الحاصل ليس دائماً ناتجاً عن الإهمال، بل هو نتيجة شبكة معقدة من التعقيدات العقارية والمالية والسياسية".
وعندما يسأل عن رمزية بعض المباني التي ارتبطت في الذاكرة الجماعية بالحرب الأهلية، يذكر على الفور "برج المر، والتياترو الكبير، وفندق فينيسيا". ويعبر عن رفضه لتحويل هذه الأبنية إلى مجرد عناصر نوستالجيا: "أنا ضد تحويلها إلى نوستالجيا. ليست هذه أماكن جميلة كي نتذكرها برومانسية، هذه جراح. لكن مثل كل جرح يخاط بخيوط جراحية، يبقى مكان القطب جزءاً من الجسد. وهكذا هي هذه الأبنية، تشكل الندوب المعمارية في جسد المدينة، ولا يمكن تجاهلها أو طمسها".
ويتحدث زافين بشغف عن محاولاته لتوثيق هذه الأماكن من زاوية إنسانية معاصرة، بعيداً عن المقاربات الكلاسيكية. في كتابه Beirut Guilty Pleasure، كتب عن عشرة مبانٍ شهدت الحرب وما تلاها، واعتمد في بحثه على الميدان لا على المراجع الشائعة على الإنترنت، التي يعتبر أن كثيراً منها غير دقيق. يقول: "كتبت من الحي، من قلب المدينة، من ذاكرة جيل عاش الحرب. أردت أن أقدم قصة بيروت بطريقة مختلفة، من خلال هذه الرموز التي استوقفتني شخصياً. لم تكن كتابة محايدة، بل كانت محاولة صحافية ذاتية لإعادة رسم هوية المدينة عبر الأماكن التي لا تزال واقفة رغم الحرب والتهميش".
وعند سؤاله عن مدى وعي الجيل الجديد بأهمية هذه الأبنية، يوضح زافين أن "المعرفة ليست شرطاً على الجميع"، قائلاً: "ليس كل الناس يعرفون مدينتهم، ولا ينبغي أن يعرفها الجميع بالضرورة. هناك من يعيش في واقع بعيد، كمن يسير على غيمة، وهناك من يعرف تفاصيل كل حي وزاوية. لكن غياب المعرفة لا يعني بالضرورة غياب الانتماء. ما نحتاج إليه هو وعي جماعي، وتوثيق إعلامي، وربما برامج تثقيفية وسياحية تساعد من يرغب في التعرف على تاريخه وهويته".
ويتابع: "هذه الرموز، مهما بقيت، ستزول في يوم ما، كما زالت رموز سابقة، وسيأتي غيرها. فبيروت، كغيرها من المدن، لا تتوقف عن التحول. هناك جيل يحمل في ذاكرته الحرب الأهلية، وآخر يتذكر حرب 2006، واليوم هناك جيل جديد يعيش ذاكرة حرب 2024. لسنا مضطرين جميعاً إلى أن نحمل أعباء حروب لم نعشها، لكن من الضروري أن نعرفها، ونفهمها، ونوثقها قبل أن تتلاشى من الذاكرة الجماعية".
في نظر زافين، المدينة أشبه بطبقات الأرض. كل طبقة تمثل مرحلة، وكل مرحلة تختزن قصة. بيروت العشرينات غير بيروت السبعينات، وبيروت الحرب غير بيروت ما بعد الطائف، وبيروت اليوم شيء مختلف تماماً. يقول: "إذا أردت أن ترى بيروت الغنية أو الفقيرة، المسلمة أو المسيحية، القديمة أو العصرية، فستجد دائماً مكاناً يجسد كل واحدة منها. فهذه المدينة تتكون من طبقات زمنية وثقافية واجتماعية، ولكل فرد أن يختار الطبقة التي يعيش فيها وينتمي إليها".
ويختتم حديثه: "بيروت قد لا تكون أعظم مدن العالم، لكنها مدينتنا التي تشبهنا. نحبها بما تحمله من ذكريات وجراح، بصبرها وصمودها، بانكساراتها ونهوضها. وكما أن نساء الأرض كلهن جميلات، تبقى الأم والزوجة هما الأغلى على القلب. كذلك هي بيروت… أمنا، وحبيبتنا، ماضينا الذي لا ينسى، ومستقبلنا الذي لا نمل من الحلم به. نحبها، ولا نحب سواها".