ملخص
تخسر النساء حقوقهن المكتسبة في الولايات المتحدة. وفي معرض هجوم ترمب على سياسات التنوع والمساواة والدمج ألغى مصطلح "المرأة" من كل المواقع الإلكترونية والهيئات العامة في الولايات المتحدة الأميركية فأزال كل السياسات الخاصة بـ"النساء في مواقع القيادة" أو أي إشارة إليهن
حين خاطب دونالد ترمب غرفة مليئة بالنساء المجتمعات داخل البيت الأبيض قائلاً "سوف أشتهر بلقب رئيس التخصيب"، أيقظت العبارة أموراً كثيرة مرعبة في ذهني. فهذا الرجل عينه الذي تباهى على برنامج أكسيس هوليوود بأن النساء يسمحن له بأن "يمسكهن من أعضائهن التناسلية"، ونسب لنفسه الفضل في إبطال حكم [قانون الإجهاض] رو ضد وايد في وقت ألغى فيه بغتة إمكان الحصول على وسائل منع الحمل حول العالم وقدم الدعم لنائب حقر النساء اللاتي يتمتعن بنفوذ كبير في الولايات المتحدة بوصفهن "زمرة مالكات قطط لم ينجبن ويشعرن بالتعاسة في حياتهن الخاصة".
وها هو الرئيس يتفاخر الآن بسياسات مبهمة هدفها زيادة إمكان اللجوء إلى التلقيح الاصطناعي. وقد قال خلال فعالية نظمت لمناسبة شهر تاريخ المرأة "نخبئ للمرأة هدايا كثيرة وضخمة أيضاً، من أجل المرأة، بين قضايا التخصيب والقضايا الأخرى التي نتكلم عنها أيضاً".
وأكد للحضور بأسلوبه الخطابي المعهود، أسلوب مقدم برامج الألعاب الموغل في المبالغة وغياب الترابط [المنطق المتماسك] "سيكون الأمر، سيكون رائعاً"، مضيفاً "سوف أشتهر بلقب رئيس التخصيب، وهذا ليس سيئاً. هذا ليس سيئاً. منحوني ألقاباً أسوأ بكثير. في الواقع، هذا يروق لي، أليس كذلك؟ إنه يروق لي".
في الأوقات العادية، يعتبر تسهيل الحصول على علاجات الإخصاب أمراً يستدعي الاحتفاء لكن عدداً كبيراً من الأميركيات لا يشعرن بهذه "الروعة" إزاء تعامل ترمب مع أجساد النساء. وكما تقول كلوي، المعلمة البالغة من العمر 35 سنة التي تسكن بارك سلوب في بروكلين "من المرعب أن تكوني امرأة تعيش في أميركا في الوقت الراهن ومع ذلك من المفترض بالنساء أن يشعرن بالامتنان لهذه الفرصة الإضافية بإنجاب طفل في رحم هذه الفوضى؟ أميركا في زمن ترمب تبدو أقرب إلى رواية حكاية الجارية يوماً بعد يوم".
خلال رحلتها إلى أستراليا في فبراير (شباط) هذا العام، حملت كلوي معها إلى الولايات المتحدة مخزوناً من حبوب منع الحمل يكفيها عاماً كاملاً. وتقول "لا نعلم ما الذي سيتغير تالياً في الولايات المتحدة في مجال الحقوق الإنجابية للمرأة".
بعد قضائي آخر أربعة أشهر في نيويورك، سمعت هذه المقارنة غير مرة. وكما قالت الكاتبة الحائزة جائزة بوليتزر مارغريت آتوود في ذي أتلانتيك "أنا من اخترع جمهورية جلعاد لكن المحكمة العليا هي التي تحيلها إلى حقيقة".
في الرواية الدستوبية [خلاف اليوتوبيا] التي ألفتها مارغريت آتوود، تحل جمهورية جلعاد محل الولايات المتحدة، وهي ديكتاتورية دينية تشكل مجتمعاً تحرم فيه المرأة من حقوقها وترغم على القبول بعبودية تكون فيها أداة للإنجاب فحسب بينما يمسك الرجال بزمام السلطة والنفوذ. صحيح أن الولايات المتحدة لم تبلغ هذه المرحلة بعد لكن نقاط التشابه الدستوبية بين المسلسل والحياة الواقعية تتضح أكثر يوماً بعد يوم. فإدارة ترمب مهووسة بـ"أزمة الخصوبة"، وغالباً ما تؤلب النساء على بعضهن بعضاً. وتستخدم شخصيات بارزة عدة في الإدارة المرة تلو الأخرى خطاباً يختصر النساء بوظيفتهن البيولوجية، أي الإنجاب.
في سبتمبر (أيلول) 2024، كتبت جويس فانس، التي عينها باراك في السابق أوباما نائباً عاماً [مدعية عامة] في الولايات المتحدة، في نشرتها الناجحة على سبستاك التي تصدر تحت عنوان الخطاب المتحضر، أن منشورات ترمب عن المرأة على "تروث سوشيال" تعكس "حماسة رجل يتخيل مستقبلاً يشبه فيلم زوجات ستيبفورد (الذي يصور نموذج الزوجة الخانعة والمطيعة) من جهة وحكاية الجارية من جهة أخرى".
أثناء حملته الانتخابية عام 2024 أعلن ترمب أنه "أبو التلقيح الاصطناعي"، فيما اعترف بلا مبالاة أنه لم يكتشف إلا أخيراً ما التلقيح الاصطناعي أساساً. وفي ظل هذا النظام الجديد، يقر ترمب بـ"أهمية البنى العائلية وبأن السياسة العامة في بلادنا يجب أن تسهل على الأمهات والآباء المحبين أن يرزقوا بأطفال"، داعياً واضعي السياسات إلى "حماية القدرة على الانتفاع من التلقيح الاصطناعي". لاحظوا استخدام عبارة "الأمهات والآباء المحبين". في الوقت الحالي، سبع ولايات فقط - هي كولورادو وديلاوير وإيلينوي وماين وماريلاند ونيو جيرسي ونيويورك - تفرض أن تشمل إعانات التلقيح الاصطناعي الأزواج مثليي الجنس وفقاً لتقرير الموقع الإخباري "ستايتلاين"، الذي لا يتوخى الربح.
والشخصية التي تغذي هذا الخطاب المتعلق بتدني معدلات الخصوبة في أميركا هي الملياردير والأب إيلون ماسك الذي لديه 14 طفلاً (أنجب بعضهم من خلال التلقيح الاصطناعي)، والمؤمن بأن "انهيار معدلات الولادة أكبر خطر يواجه الحضارة على الإطلاق". وقد قال ماسك إن انخفاض معدلات الخصوبة حول العالم "ليس أزمة فحسب، بل هو الأزمة بحد ذاتها". وقد بلغ الخبر مسامع نائب الرئيس جي دي فانس الذي أعلن فور توليه منصبه "أريد ولادة مزيد من الأطفال في الولايات المتحدة الأميركية".
وليس كل هذا التشجيع القومي على زيادة الولادات سوى توجه يصب في صالح مرامي الأصولية المسيحية اليمينية المتطرفة، وقد ضمت (بعض فئات) الكنيسة صوتها إلى صوت الدولة في توجيه النساء إلى أن واجبهن الأخلاقي والوطني يقضي بأن ينجبن. وفي ذلك أيضاً إشارة إلى حائكي نظرية المؤامرة المتعلقة بـ"الاستبدال الكبير" من اليمين المتطرف، الذين يعلون صوتهم حول "انقراض العرق الأبيض" ويثيرون المخاوف من "إزاحة" الغالبية البيضاء على يد سكان غير بيض.
وتسأل كلوي "نعم، أرى بعض محتوى 'الزوجات التقليديات' على صفحاتي في وسائل التواصل الاجتماعي لكن هل النساء هن من يعملن على إبراز هذا المحتوى؟ جميعنا نعلم من الذي يتحكم بخوارزميات منصات التواصل الاجتماعي... ليسوا من النساء".
وفي أوساط من يواجهون مشكلات في الخصوبة والأطباء المتخصصين بهذا المجال، ومتخصصي الاقتصاد والاجتماع القلقين من انخفاض معدلات الولادات، تركيز ترمب على التلقيح الاصطناعي والخصوبة بشكل عام معه جميل ومرير[أليم] في آن معاً. في الواقع، يشكل تراجع معدلات الإنجاب مشكلة اقتصادية حقيقية، إذ تجابه البلدان تبعات الشيخوخة وتراجع عدد السكان وتقليص حجم القوى العاملة قياساً إلى نسبة المتقاعدين وغيرهم ممن يحتاجون إلى الدعم.
وفي الولايات المتحدة، بلغت معدلات الولادة أدنى مستوياتها عند 1.6 أي إنها أدنى من 2.0 وهو المستوى المطلوب كي تحافظ البلاد على كثافتها السكانية. لكن معظم المتخصصين في علم السكان لا يستسيغون الترهيب والكلام عن "القنبلة الزمنية السكانية الموقوتة" وينصحون بتبني استراتيجية طويلة الأمد تقوم على تحسين الخدمات الاجتماعية ومنها إمكان توفير الرعاية الطبية وتحسين مخصصات الأمومة والأبوة، وتوفير خدمات غير مكلفة لرعاية الأطفال بغية تحفيز عدد أكبر من الناس على الإنجاب.
تشغل البروفيسورة غيتا نارغند منصب كبيرة الاستشاريين في مجال الطب الإنجابي في مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي في لندن، وهي المديرة الطبية في عيادة كريايت للخصوبة Create Fertility. وباعتبارها مسؤولة عن المساهمة البريطانية في تقرير دولي يتناول سياسة الخصوبة والتراجع السكاني، تقول إن السياسات الشاملة المواتية للأسرة، من قبيل تقديم خدمات بكلفة أقل لرعاية الأطفال وزيادة فترات إجازات الأبوة وتوفير الحوافز المالية لإنجاب الأطفال هي التي ستخلف الأثر الأكبر في معالجة الأزمة السكانية.
وتقول نارغند "إن العقم مشكلة طبية أما العقم السياسي فهو الآثار المترتبة على قرارات اتخذها من يصنعون السياسات تعوق إمكانية الاستفادة من خدمات المساعدة على الإنجاب بشكل عادل يراعي المساواة بين الناس، أو تخلق ظروفاً اقتصادية واجتماعية تشكل رادعاً أمام تكوين أسرة".
وتضيف أن "الحل يكمن في اجتراح سياسات صديقة للأسرة منها توفير خدمات رعاية الأطفال بكلفة معقولة ومنح إجازات أبوة منصفة واتخاذ إجراءات مرنة في مكان العمل. وعلى واضعي السياسات الحرص على تمتع كل أبناء المجتمع بفرص متساوية من ناحية الانتفاع من خدمات المساعدة على الإنجاب، بما في ذلك الأمهات غير المتزوجات ومجتمع الميم". وترى نارغند أنه فيما تعد زيادة فرص الانتفاع من التلقيح الاصطناعي أمراً إيجابياً، لا يعتبر هذا الأمر منطقياً سوى إن اندرج في إطار إصلاحات وخدمات دعم واسعة النطاق وطويلة الأمد.
لكن مطالبة النساء بإنجاب أطفال أكثر تزامناً مع تقويض دور المرأة على نحو ممنهج، ليس هدية بقدر ما هو نظام سيطرة سام [هدية مسمومة]. تقول لي صديقتي نينا، التي تبلغ من العمر 29 سنة وتعمل في قطاع الطاقة المتجددة "هذا أكثر وقت أقلق فيه من خسارة وظيفتي فيما تسلب المرأة في معظم مناطق البلاد إمكان الخضوع لعملية الإجهاض، والانتفاع من فحص الصحة الإنجابية والحصول على وسائل منع الحمل، ولم أشعر يوماً كامرأة بهذا القدر من التهميش والتهديد. يحكمنا اليوم أكثر رئيس كاره للنساء في تاريخ الولايات المتحدة. ونشهد على تسريح أعداد ضخمة من الموظفين من قطاعات كانت تاريخياً صديقة للمرأة مثل التعليم والرعاية الصحية والقطاع غير الربحي [الإدارات العامة، التعليم، مرافق عامة]. أشعر برغبة أقل من أي وقت مضى في أن أصبح أماً في زمن ترمب".
فيما يسعد ترمب عند حديثه عن "هدايا للنساء" و"حماية النساء سواء أعجبهن ذلك أم لم يعجبهن"، فقد محا في معرض هجومه على سياسات التنوع والمساواة والدمج مصطلح "المرأة" من كل المواقع الإلكترونية والهيئات العامة في الولايات المتحدة الأميركية فأزال كل السياسات الخاصة بـ"النساء في مواقع القيادة" أو أي إشارة إليهن. لذا يبدو أنه لا يرحب بـ"أيديولوجية الجنسانية" في مكان العمل، لكن لا بأس في خوض ترمب وماسك وجي دي فانس في قضايا جنسانية بعينها إن كان الكلام عن أجساد النساء... ومقدار سيطرة المرأة على جسدها.
تخبرني صديقة أخرى تعمل في قطاع التعليم الثانوي في كاليفورنيا أنها لاحظت بالفعل تحولاً في طريقة معاملة المراهقين مع النساء. "لا يقتصر الأمر على 'المؤثرين' أشباه آندرو تيت، بل إن أكثر الرجال نفوذاً في أميركا اليوم هم أسوأ نماذج ذكرية والأطفال يشاهدونهم كل يوم في فيديوهات جديدة".
تكثر حالات الاعتداءات السافرة ذات الطابع المعادي للمرأة- ومنها تهجم ترمب الشخصي على منافسته القديمة، نانسي بيلوزي. إذ قال "إنها شخص سيئ جداً. شريرة. إنها شريرة ومريضة ومجنونة..." ثم حرك شفتيه أمام الميكروفون وقال قولاً بذيئاً إنها "عاهرة". أما لجنة العمل السياسي التابعة لماسك، فقد نشرت إعلاناً تصدرته جملة "كامالا هاريس هي صنو كلمة تبدأ بحرف الشين"، قبل أن يكشف الإعلان لاحقاً أن الكلمة هي "شيوعية". ومن جانبه قال جي دي فانس لتجمع انتخابي في أتلانتا "سنخرج القمامة واسم القمامة هو كامالا هاريس".
تباهى ترمب بدوره في إبطال حكم رو ضد وايد في 2022، متبنياً موقفاً مناهضاً للإجهاض وجدت تحقيقات أنه أسهم في وقوع وفيات كان بالإمكان تفاديها لعدد من النساء الحوامل في تكساس وألاباما وجورجيا. واقتطع في الوقت نفسه عشرات ملايين الدولارات من تمويل عيادات الصحة الإنجابية التي تقدم خدمات تحديد النسل، سواء داخل الولايات المتحدة نفسها أو في الدول التي تعتمد على المساعدات الأميركية.
وتتساءل كلوي "وهل هذا هو العالم الذي يطلب مني أن أرزق فيه بابنة؟ لقد وضعوا حداً للتقدم الذي أحرزناه كمجتمع على امتداد ثلاثة أجيال، للارتقاء بالمرأة وتمكينها وفي سبيل أن نثبت بأن النساء لسن مجرد وعاء يحمل وينجب ويستقبل رغبة الذكر الجنسية. أشعر بأنني ما عدت نداً".
يتماشى إعلان دونالد ترمب بابتهاج عن لقبه الجديد والمرعب، "رئيس التخصيب"، مع النبرة الأبوية التي سمعناها من فمه في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حين هدد بـ"حماية النساء، سواء أعجبهن ذلك أم لم يعجبهن". لو كان الموضوع مطروحاً من دون سياق محدد، يبدو توسيع إمكان الاستفادة من علاجات الخصوبة أمراً إيجابياً، لكن عندما نضعه في سياق هجوم إدارة ترمب الأعم على الحقوق الإنجابية والمساواة بين الجنسين، نراه استغلالياً يرمي إلى فرض الهيمنة وأبوياً بطبيعته... ولا يختلف بشيء عن جمهورية جلعاد.
*جرى تغيير بعض الأسماء
© The Independent