ملخص
تشهد الساحة الأدبية السورية حالاً من السجال بعد إصدار الأمانة العامة للشؤون السياسية في وزارة الخارجية السورية قراراً يقضي بتعيين مجلس تسيير أعمال لاتحاد الكتاب العرب، برئاسة الشاعر محمد طه عثمان، وبحل المجلس القديم الذي كان تابعاً للنظام البعثي السابق.
بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على سقوط النظام السوري "الأسدي" أصدرت الأمانة العامة للشؤون السياسية في وزارة الخارجية السورية قراراً يقضي بتعيين مجلس تسيير أعمال لاتحاد الكتاب العرب (أتم تأسيسه عام 1969)، برئاسة الشاعر محمد طه عثمان، وحل المجلس القديم. فتح هذا القرار جدلاً واسعاً في أوساط الكتاب السوريين، لا سيما بعدما أصدر رئيس الاتحاد السابق "البعثي" محمد الحوراني بياناً أعلن فيه "رفضه القاطع تشكيل لجنة جديدة بديلة للجنة المنتخبة من دون الرجوع إلى قواعد الانتخاب الأصولية، ومن دون أي سند شرعي أو تفويض قانوني من الهيئة العامة"، وأكد البيان: "أن ما حدث لا يمثلنا ولا يعبر عن إرادتنا بل نراه سابقة خطرة تهدد استقلالية الاتحاد وتضعف ثقة أعضائه به".
ومعروف ان اتحاد الكتاب العرب مؤسسة أنشئت بناءً على المرسوم التشريعي الرقم 72 الصادر عن مجلس الوزراء السوري عام 1969، وحل وقتها محل "رابطة الكتاب السوريين" التي أعلنت عام 1951. وكان الاتحاد تابعاً لوزارة الثقافة السورية، وهذا ما يقره بيان الاتحاد التأسيسي ونظامه الداخلي، لكن كان من يقوده فعلياً هي "القيادة القطرية لحزب البعث"، ومع أن الاتحاد ضم أعضاء مستقلين بين صفوفه، إلا أن هذا لم يمنعه من توجيه تهمة "النيل من هيبة الدولة" لعشرات الكتاب من أعضائه، وهي تهمة استند فيها الاتحاد إلى قانون العقوبات السوري الصادر في يونيو (حزيران) عام 1949 في عهد الرئيس أديب الشيشكلي، والمادة تلك ما زالت معتمدة في القانون السوري ولم تُلغَ حتى الآن.
شكل اتحاد الكتاب على مدى أكثر من نصف قرن الواجهة الأساسية للثقافة الرسمية في البلاد، والأداة الرقابية الضاربة للنظام البائد على المخطوطات والكتب والصحف والدوريات. الرقابة المسبقة على النشر كانت تنحصر في كتاب الاتحاد الذين هيمنوا على لجان القراءة ودائرة المطبوعات و"الهيئة السورية" للكتاب في وزارة الثقافة، وعملوا على تكريس ذائقة خشبية موحدة في الرواية والقصة والمسرح والشعر، مما جعل أطناناً من إصدارات الاتحاد تتراكم في مستودعاته الرطبة، طعاماً للقوارض والجرذان. فمعظم تلك الإصدارات كتبها ضباط متقاعدون أو مخبرون تم تنسيبهم إلى الاتحاد بتوصيات مباشرة من مكتب الثقافة والإعلام في القيادة القطرية لحزب البعث، في وقت طُرد فيه وجُمدت عضوية كل من نبيل سليمان وسليم بركات وحنا مينة وسعد الله ونوس وسواهم.
فضائح الاتحاد البعثي
كثيراً ما رزح الاتحاد السابق تحت وطأة ملفات فساد كبرى تتعلق بتأجير الجزء الأكبر من مبنى الاتحاد لشركة اتصالات سيرياتيل، إضافة إلى تأجير المطعم الخاص في المبنى. وثمة قضايا محسوبيات ضخمة تتعلق بالجمعية السكنية الخاصة بأعضاء الاتحاد، إضافة إلى حجم تلاعب كبير بموازنة الاتحاد ومصاريفه في الطباعة والتنسيب ومهام السفر ودفع مكافآت وهمية لأعضائه. هذا الأمر رتب تركة ثقيلة على أعضاء مجلس تسيير الأعمال الجديد، لا سيما في ظل رغبة البعض في توحيد عمل الاتحاد مع رابطة الكتاب السوريين التي أُسست في القاهرة عام 2012 برئاسة المفكر الراحل صادق جلال العظم.
نظم الاتحاد "البعثي" كثيراً من الندوات واللقاءات في تمجيد قادة الحرس الثوري الإيراني، وكان أبرزها الأمسية الشعرية التي عقدها الاتحاد في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2020 في بيت الشاعر نزار قباني في دمشق القديمة، واعتبر هذا النشاط أول لقاء يضم شعراء إيرانيين وسوريين، ألقوا خلاله قصائدهم في رثاء قائد فيلق القدس قاسم سليماني والضابط والعالم النووي الإيراني محسن فخري زادة، وجاءت الأمسية وقتذاك تحت عنوان "مؤتمر نهج الشهيدين". هذا النشاط يعد واحداً من عشرات الأنشطة التي أوضحت الدور الدعائي المباشر للاتحاد لسياسة النظام البائد، وكيف تحول من مؤسسة مجتمع مدني - كما كان يفترض أن يكون - إلى مقر وممر للعسس الثقافي الممعن في تنفيذ سياسة السلطة، والابتعاد عن كل ما يتعلق بهموم الكاتب والكتابة.
يعول كثير من الكتاب السوريين من أصول غير عربية على إعادة المجلس الجديد النظر في تسمية الاتحاد، واستبدال اسمه باسم أكثر دقة وشمولاً ليصبح "اتحاد الكتاب السوريين". وعن هذا الأمر كتب الأديب منصور المنصور على حسابه في "فيسبوك" فقال "الكتابة لا تختزل في هوية قومية واحدة، ولا تقاس بانتماء إثني، بل بروحها وعمقها، وبما تضيفه إلى الوجدان الإنساني. وإن كانت اللغة العربية قد بلغت أرفع ذرى تعبيرها الأدبي في عصرنا، فإن ذلك لا يمكن تجاهله من دون ذكر اسم الشاعر والكاتب الكردي الكبير سليم بركات، الذي قدم للغة العربية ما يعجز عن تقديمه كثر ممن يتحدثونها منذ الولادة. إن حصر الفضاء الأدبي السوري تحت مظلة ’العرب‘ فحسب، هو تجاهل مؤسف وغريب لثراء هذا البلد وتنوعه العميق. فإلى جانب الكتاب العرب، هناك كتاب كرد وآشوريون وسريان وأرمن يكتبون بالعربية أو بلغاتهم الأصلية، ويشكلون جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي السوري".
تبدو فكرة تأسيس اتحادات للكتاب من مخلفات حقبة الحرب الباردة بين معسكرين اشتراكي ورأسمالي، إذ عمد كلا المعسكرين بعد الحرب العالمية الثانية إلى حشد كتاب ومثقفين ضمن روابط واتحادات لم يكن لهم هاجس سوى حيازة المناصب والتشريفات وتكريس السردية السياسية لأحزابهم، أما الكتابة فكانت، في مكان آخر. واقع أرخى بظلاله على جيش من كتاب ما سمي "الأدب الملتزم" في العالم العربي. وقد أطاح تعميم ثقافة الالتزام والسرديات الكبرى الكثير من الأدباء، وجعلهم بين حدي التكفير أو التخوين، فتم إقصاء الكثيرين منهم بتهمة التطبيع مع العدو، فيما ضُيق على آخرين ونُفوا خارج البلاد تحت شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة". وباتت الأمسيات الشعرية والندوات الأدبية رديفاً للبندقية، باعتبار أن "الكلمة أقوى من الرصاصة" في عرف اتحاد كتاب النظام البائد وأجهزة استخباراته.