ملخص
استمرار حرب السودان، ما مآلات انتشار السلاح بهذه الطريقة؟ وآثاره في استقرار الوضع داخل العاصمة؟ وما القرارات التي يمكن أن تتخذ للحد من أخطاره؟
مع استعادة الجيش السوداني أخيراً العاصمة الخرطوم من قبضة قوات "الدعم السريع" التي سيطرت عليها قرابة عامين، بدأت أعداد كبيرة من المواطنين في العودة من أماكن نزوحهم داخل البلاد وخارجها صوب الخرطوم وسط فرحة عارمة لا توصف، لكن في الوقت نفسه يساور القلق كثر من المواطنين من مغبة انتشار السلاح بصورة كبيرة في ظل وقوع عدد من حوادث السلب والنهب تحت تهديد السلاح، فضلاً عن تداول شرائه وبيعه كالسلع التي تباع في الأسواق بصورة علنية.
فما مآلات انتشار السلاح بهذه الطريقة؟ وآثاره في استقرار الوضع داخل العاصمة؟ وما القرارات التي يمكن أن تتخذ للحد من أخطاره؟
تفتيش ومداهمات
أشار الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة السودانية سابقاً الفريق السر أحمد عمر إلى أن انتشار السلاح يعد متلازمة معروفة أثناء وبعد الحروب، فقد صاحب تحرير الجيش أي منطقة تنظيفها من الأسلحة، بخاصة الثقيلة والخطرة، وكذلك المقذوفات بشتى أنواعها التي لم تنفجر، فضلاً عن الألغام والأسلحة الخفيفة. وأضاف عمر "بالطبع القوات المسلحة لها فرق هندسية وفنية متخصصة مهمتها التعامل مع كل هذه الأسلحة لحماية المدنيين من أخطارها، إضافة إلى نشر الوعي بين المواطنين والتنبيه لخطورتها والتبليغ عنها، في حين يأتي دور الشرطة، بوحداتها المتخصصة كالمباحث والشرطة الأمنية وقوات الاحتياط والدوريات، كل حسب تخصصه، في الكشف والضبط والمنع والتعامل". وتابع أيضاً "لكن من المفترض الإعلان عن مدة محددة لتسليم الأسلحة طوعاً لمن بحوزته سلاح بصورة قانونية، على أن يتزامن معها التفتيش والمداهمات لأماكن الاشتباه، كما يجب التعامل بحزم مع هذا الأمر وتشكيل محاكم سريعة لحسم أي تفلت أو حيازة أو مخالفة".
آثار سلبية
في السياق قال العميد شرطة معاش الفاتح موسى عثمان "من المعلوم أن أي دولة تندلع فيها حرب تشهد آثاراً سلبية ومدمرة، منها النزوح واللجوء والنهب والسلب والاغتصاب، وقد يكون انتشار السلاح أقل ضرراً بالنسبة إلى خسائر الأرواح والأموال والدمار الذي تحدثه الحرب، لكن آثاره السلبية في المجتمع واستقرار البلاد ليست سهلة، لأنه يستخدم في جرائم عديدة منها القتل خارج القانون وعمليات النهب وحدوث بعض المشكلات الأمنية داخل المدن والبلاد عامة، وبالتأكيد أن عودة مؤسسات الدولة لأعمالها من ضمنها الشرطة والأمن والمباحث وغيرها من أدوات الأجهزة الأمنية، قد تحد من ظاهرة انتشار السلاح في أيدي المواطنين بصورة عشوائية وغير قانونية". ولفت إلى أنه "لذلك لا بد من تفعيل الشرطة العسكرية لما لها من إرث متين وإمكانات وانتشار واسع في كل ولايات السودان ما يجعلها تسهم بفاعلية للحد من هذه الظاهرة، كما يجب أن يكون هناك دور للنظار والعمد التابعين للإدارات الأهلية في جمع السلاح من الأفراد الذين اضطروا إلى أن يحملوه لحماية مناطقهم سواء مع الجيش أو 'الدعم السريع' بالتنسيق مع الجهات الحكومية المتخصصة". وبين عثمان "أنه صحيح أن ظاهرة انتشار السلاح حالياً في غاية من الخطورة، لكن ما يحمد أنها محصورة في مناطق الصراع فحسب، ولم يصل انتشاره للمناطق الآمنة في شرق وشمال ووسط البلاد". وقال أيضاً "في تقديري، على رغم ما حدث من مآسٍ ومجازر وحروب شرسة لم يشهدها العالم قبل ذلك لا في الحرب العالمية الأولى أو الثانية ولا في الحرب الإسرائيلية - الفلسطينية وغيرها، إلا أن ما يتمتع به السودانيون من قيم وتقاليد وأعراف سمحة تساعد كثيراً في الحد من هذه الظاهرة". ونوه العميد شرطة معاش إلى أنه "من المؤكد أن الحكومة السودانية لديها الآليات والإمكانات والموروث والمقدرة على الحد من هذه المشكلة على رغم ما تمر به البلاد من ظروف صعبة بسبب الحرب، ونأمل من الأمم المتحدة أن تقدم يد العون والمساعدة في علاج هذه الظاهرة المقلقة لما لديها من إمكانات وخبرات تراكمية في هذا الجانب".
خطة أمنية
من جانبه أوضح الباحث القانوني أحمد موسى عمر أن انتهاء العمليات العسكرية يمثل نهاية مرحلة عسكرية وبداية مرحلة أمنية، "وهي مرحلة مهمة، فبين نهاية الحرب وبداية الاستقرار هناك كثير من العمليات الأمنية أهمها عملية حصر السلاح وجمعه، وهي عملية معقدة وباهظة الكلف ومهمة في الوقت عينه". وتابع عمر أنه يوجد حالياً عدد من المناطق المحررة بعدما أحكم الجيش سيطرته عليها من قبضة "الدعم السريع"، "والتي تحولت، بالمفهوم العسكري، مناطق آمنة، إلا أنها تظل مناطق تحتاج لجهد أمني كبير وتمشيط مكثف، إذ إن بقاء السلاح في أيدي عدد من المواطنين عديمي الخبرة العسكرية وخارج مظلة الرقابة الأمنية يشكل تهديداً أمنياً كبيراً". وزاد الباحث القانوني "كذلك ينصرف الأمر على عدد من المجموعات العسكرية خارج القوات النظامية، فعلى رغم السيطرة المعلوماتية على حركة السلاح في أيدي هذه المجموعات، فإن المطلوب خطة أمنية كبيرة محكمة لجمع السلاح واتخاذ تدابير عسكرية وأمنية لمعالجة الخلل المتوقع".
مسرح صراعات
إلى ذلك قال المحلل السياسي عروة الصادق "ما نراه في الفترة الأخيرة من انتشار السلاح بصورة علنية وبيعه في الأسواق وتحوله إلى سلعة متداولة بين الأفراد والجماعات، يجعل من الصعب الحديث عن استقرار فعلي أو عودة آمنة للحياة الطبيعية في البلاد، بخاصة العاصمة الخرطوم، فالسلاح في أيدٍ غير منضبطة يفتح الباب أمام تكرار الفوضى وعودة الصراعات في أي لحظة، ويمكن الجماعات المتطرفة والعصابات الخارجة عن القانون من فرض واقعها على الناس بقوة السلاح، بعيداً من القانون والدولة". وتابع "وجود السلاح بهذه الصورة يهدد أمن المجتمع، ويعطل عمل مؤسسات الدولة، ويقوض سلطة القانون، كما يحرم الناس من الشعور بالأمان، ويجعل العاصمة مسرحاً محتملاً لصراعات مسلحة متكررة، سواء بدوافع دينية متطرفة أو مصالح إجرامية، مما ينذر بانهيار أوسع ما لم يتم احتواؤه عبر إجراءات رسمية لم تتحرك سلطة الأمر الواقع نحوها". وواصل الصادق "يوازي خطر انتشار السلاح في الداخل نشاط محموم ومتزايد تقوم به جماعات وشركات خدمات لوجيستية تتورط في تهريب السلاح والمركبات القتالية عبر المنافذ البرية والبحرية، تحت غطاء العمل التجاري أو الإغاثي، وهذه الشبكات التي تعمل أحياناً بتنسيق مع جماعات مسلحة أو بدعم من جهات خارجية، تستغل ضعف الرقابة على الحدود والانشغال بالحرب، لإدخال شحنات متطورة من الأسلحة والمعدات التي تستخدم لاحقاً في دعم النزاعات الداخلية وتقوية نفوذ الفصائل القبلية والأيديولوجية والتكوينات غير النظامية. إن بقاء هذه الأنشطة من دون مراقبة أو محاسبة لا يهدد فقط أمن العاصمة، بل يفتح البلاد على احتمالات دائمة للفوضى ويجعل من السيطرة على الميدان أمراً موقتاً وهشاً". وأضاف أيضاً "على رغم استمرار الحرب، فإنه من الممكن اتخاذ إجراءات جادة ومباشرة لحصر السلاح بيد السلطة وحدها، منها إعلان العاصمة منطقة منزوعة السلاح، وتجريم حيازته من دون ترخيص، فضلاً عن تفعيل وحدات أمنية متخصصة بمهام التفتيش والمصادرة، بالتوازي مع حملات توعية مجتمعية تشرح للناس خطر بقاء السلاح في الأحياء والمنازل". ولفت إلى ضرورة "إنشاء سجل قومي للأسلحة وربطه بجهاز أمني متخصص، وضبط طرق التهريب ومنافذ دخول السلاح، إضافة إلى تنفيذ برامج إعادة دمج للمقاتلين السابقين وتوفير بدائل معيشية واقتصادية لهم حتى لا يتحولوا إلى وقود للجريمة المنظمة أو الجماعات المسلحة، لكن لن يتحقق كل ذلك في ظل الإصرار على استمرار الحرب". وأكد المحلل السياسي أن الخطر لا يكمن في السلاح فحسب، بل في الصمت تجاهه، وإذا لم تتحرك الدولة الآن وبحزم، فإن كل مكاسب استعادة المناطق ستبقى شكلية، وسيبقى شبح الفوضى ماثلاً فوق رؤوس الجميع، كما أنه لا يمكن لأي عاصمة أن تنعم بالسلام في ظل تعدد البنادق واختفاء القانون.