ملخص
مع اندلاع الحرب في السودان، أصبحت النساء المعيل الأساس للأسر بسبب غياب الرجل نتيجة النزوح أو الوفاة أو الالتحاق بالنزاع، وتحمل عدد من النساء المسؤوليات الكبيرة وأثبتن قدرتهن على التكيف وتحقيق النجاح على رغم الظروف القاسية، كما واجهت النساء تحديات أمنية شديدة، بما في ذلك الاعتداءات الجنسية والعنف الجسدي، مما دفعهن للمشاركة في إعادة تأهيل أنفسهن ومجتمعاتهن، وعلى رغم الصعوبات أثبتت المرأة السودانية قدرتها على الصمود والمضي قدماً في مسيرتها.
مع اندلاع الحرب في السودان، تبدّلت الأدوار الاجتماعية والاقتصادية بصورة كبيرة، فبعدما كانت المرأة السودانية تؤدي أدواراً مهمة في تسيير شؤون الأسرة الحياتية إلى جانب الرجل، أصبحت نسبة كبيرة من النساء السودانيات اليوم المعيل الأساس لأسرهن بسبب التحاق الأزواج بالنزاع المسلح أو وفاتهم،أو تعرّضهم للاعتقال والأسر، وبالفعل تحملن المسؤوليات في ظل هذه الظروف القسرية بشجاعة وثبات، في حين قاد اليأس بعضهن إلى المرض والاستسلام.
تضحية ومسؤوليات
سليمة الباقر، أحد النماذج الحيّة للنساء المكافحات، نزحت إلى مدينة ربك عاصمة ولاية النيل الأبيض قادمة من ضواحي إقليم كردفان بعدما اشتد القتال هناك نهاية العام الماضي، لذا لم يكن لها خيار غير النزوح القسري وبخاصة بعد مقتل زوجها في الحرب، تاركاً لها خمسة أطفال ترعاهم وحدها، فاضطرت إلى العمل في مختلف المهن الشاقة على رغم أنها سيدة شابة، إذ بدأت تبيع المأكولات الشعبية في إحدى الأسواق بالمدينة، مقدّمة بذلك نموذجاً حيّاً في التضحية والرعاية، متخلية عن كل مظاهر الراحة من أجل تربية أبنائها.
وتابعت "لم أتخيل يوماً أن تنقلب حياتي بهذه الصورة، إذ أصبحت أرملة ومسؤولة عن خمسة أطفال وليس لدي أحد يمكن أن يتحمل معي جزءاً من هذه المسؤولية، فأوضاع أهلي لم تسمح بأن يتحمّلوا مسؤولية أطفالي، مما جعلني أبحث عن مصدر رزق، لذا عملت في كل ما توفر من أشغال، من عاملة نظافة إلى غيرها، ومنذ ثلاثة أشهر قررت أن أبدأ العمل بائعة للمأكولات الشعبية في أقرب سوق إلى منزلي، ومنذ ذلك الحين تحسّنت حالي المعيشية".
أما المواطنة سمية أحمد، فقد التحقت عند وصولها بورتسودان هرباً من مدينة ود مدني عقب سيطرة "الدعم السريع" عليها بأحد مخيمات النزوح لمدة 10 أشهر، لكنها استطاعت بكل عزيمة وجلد أن تنقل حياتها وأبناءها من وضع مأسوي إلى حياة تتسم بالرفاهية ورغد العيش.
تقول عن تجربتها "للأسف تخلى عني زوجي تاركاً لي أربعة أطفال جميعهم دون الـ10، وكان حملاً ثقيلاً علي في ظل هذه الظروف القاهرة، لكنني كنت على يقين بأن هناك دائماً ضوءاً في نهاية النفق، وفعلاً لم أنكسر وقررت السفر إلى مصر وبعد معاناة وصبر وتحمل لأكثر من عام لوصولي إلى القاهرة بدأت أعمل في مجال تصميم الثوب السوداني، إذ وجدت الطلب عليه كبيراً جداً، نظراً إلى أن غالبية النساء السودانيات الموجودات في مصر فقدن ملابسهن بسبب النزوح بعد اشتعال الحرب بصورة مفاجئة".
وزادت أحمد "نجاحي في هذا المجال لم يكن صدفة، فأنا منذ طفولتي أحب تصميم الأزياء وكنت أتمنى أن أكون مصممة للثوب السوداني، لكنني تزوجت في سن صغيرة ولما أستطع أن أقوم بهذا العمل حتى جاءت الحرب ومررت بهذه الظروف القاسية، إذ كنت وأبنائي في أوقات كثيرة خلال فترة وجودنا في معسكر النزوح ببورتسودان وبداية المجيء إلى القاهرة تمر علينا ساعات طويلة من دون طعام وشراب، حتى وجدت الدعم من إحدى صديقاتي وقمت بتصميم ستة أثواب نالت إعجاب كثير من السيدات وتم شراؤها في لحظات، ومن ثم كبر مشروعي حتى أصبحت أمتلك منصة لبيع الثياب من طريق الإنترنت وأقوم بتوزيعها بصورة واسعة".
صمود وجلد
سليمة وسمية ليستا الوحيدتين اللتين عانتا فقد الزوج والنزوح والعمل القسري، فهناك ملايين السودانيات اللواتي فقدن أزواجهن ومصادر دخلهن، وأصبحن يقاتلن يومياً في ظل ظروف قاسية تعرّضن فيها لكل أنواع الضغوط والابتزاز والاستغلال.
ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، فإن عدد النازحين داخلياً وخارجياً في السودان قد تجاوز 11 مليون شخص بحلول أواخر عام 2024 ، وتشكل النساء والأطفال النسبة الكبرى منهم.
وتصاعدت حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد النساء والفتيات بصورة كبيرة منذ اندلاع الحرب، وتشير التقارير إلى أن النساء اللواتي فقدن أزواجهن هن الأكثر تأثراً، إذ شكّلت النساء النسبة الأعلى في موجات النزوح، التي بلغت نحو 6 ملايين امرأة وفتاة في أواخر العام ذاته.
سارة منوفلي، ناشطة اجتماعية، تحدثت عن تجربتها الشخصية وتجارب النساء السودانيات خلال الحرب، قائلة "بصراحة وصدق، النساء السودانيات أثبتن دوماً أنهن صامدات وصابرات ومكافحات عبر التاريخ، فالسودان كدولة فقيرة كثيرة الحروب وضعت المرأة السودانية دوماً في قلب التحديات العظيمة، التي تبدأ من اختيار الزوج إلى إنجاب الأطفال وتربيتهم، وصولاً إلى مواجهة قوانين المجتمع وحقوق الأم وما بعد الطلاق".
وأضافت منوفلي "أكبر التحديات جاءت مع الحرب، فما عشته عايشته كثير من الأمهات منذ اندلاع النزاع، إذ خرجت بأطفالي إلى الولاية الشمالية ومكثنا أربعة أشهر في بيت العائلة الكبير مع تحديات التربية وغياب المدارس، بعد ذلك انتقلنا إلى عطبرة للحاق بوالدهم (زوجي)، وهناك اضطررنا إلى السكن في منزل يفتقر لأدنى مقومات الحياة بسبب ارتفاع الإيجارات وذلك لمدة خمسة أشهر، ثم سافرنا إلى مصر عبر طريق صحراوي وعر ومخيف ومليء بالأخطار والهواجس نظراً إلى صعوبة الحصول على تأشيرة دخول والسفر جواً".
وتابعت المتحدثة "وصلنا إلى مصر لنواجه واقعاً مختلفاً في المدارس والنظام التعليمي، وعلى رغم الصعوبات نستمد قوتنا من إيماننا، ونفكر في التكيّف مع الواقع وخلق مساحات جديدة للحياة، نحن، السودانيات، نتميّز بالعزة والأنفة ولا ننكسر بسهولة ونضحي في كل مرحلة من مراحل عمرنا، والدافع دائماً ينبع من داخلنا، ومن مسؤولياتنا تجاه أسرنا".
وأردفت "الصدمة النفسية كانت كبيرة في البداية، وأصابتنا بالشلل الفكري، ولكن مع مرور الوقت بدأنا ننهض ونصارع من أجل البقاء، فقد واجهتنا تحديات جديدة على صعيد النزوح واللجوء من مغادرة منازلنا دون أن نأخذ ملابس كافية إلى إدارة المرحلة اقتصادياً وتربوياً واجتماعياً".
وزادت الناشطة الاجتماعية "من واقع وجودي في مصر، لاحظت أن السودانيات عملن في كل المجالات، حتى في الأسواق والأعمال الهامشية، لتأمين حاجات أسرهن، رأيت نساء يتحمّلن مسؤولية آبائهن المسنّين، وأخريات يعملن في المصانع لأكثر من 12 ساعة يومياً، ثم يعدن للقيام بواجباتهن المنزلية، لقد أثبتن أنهن قادرات على تخطي كل العقبات، ومواصلة الحياة على رغم قساوتها."
تحديات أمنية
كذلك شكلت التحديات الأمنية أبرز الأمور التي عانتها النساء في السودان، إذ تعرضن للعنف اللفظي والجسدي ونتج من ذلك انتهاكات جسدية بالغة لم تُحصَر بعد، لكن كانت الاعتداءات الجنسية هي الأكثر انتشاراً وسطهن.
وشكَّل غياب الحماية تحدياً كبيراً للناشطات الحقوقيات، إذ تعرضت 113 سيدة في مدينة نيالا للاغتصاب، فيما واجهت 72 حالة المعطيات نفسها في مدينة الجنينة، وفي مدينة الخرطوم، تعرضت مئات من الفتيات والسيدات للعنف ذاته، الذي وصفته منظمة الأمم المتحدة بأنه أداة من أدوات الحرب من قِبَل القوات المتنازعة.
وفي السياق، قالت المديرة الإقليمية لمنظمة "صيحة"، هالة الكارب إن "العنف الجنسي في دارفور أدى إلى تقليص أدوار النساء المنتِجات في المنطقة"، مشيرة إلى أن الغرض من العنف نفسه هو تقليص أدوارهن الاجتماعية والسياسية وتحويلهن إلى ضحايا.
وعن ضرورة الأخذ بالاعتبار الاعتداءات التي تعرضت لها السيدات بمختلف الأعمار، تقول الناشطة الاجتماعية خادم الله طه إن "تقديم يد العون وتوفير الدعم النفسي والتأهيل المتكامل من أولى الخطوات التي قمنا بها ولا نزال نقوم بها لاستخراج مئات الحالات من الصدمة النفسية التي تعرضن لها وبخاصة مسألة العنف الجنسي، خصوصاً أننا في مجتمع حساس ينظر إلى هذا الأمر كوصمة اجتماعية وعار، لذلك كان لا بد من العمل على تأهيل الحالات في سرية تامة وحث اللواتي لم يملكن الجرأة الكافية للعلاج على الالتحاق بالعلاج حتى لا تسوء حالتهن النفسية".
وتابعت طه قائلة "هذه الحالات نجم عن الكثير منها ولادة أطفال، لذلك كان لا بد من توفير الرعاية للأم وللأبناء، والعمل على توعية المجتمع الذي تعيش فيه هذه الحالات، خصوصاً المجتمعات المغلقة، وقد أسهمنا في تقديم العلاج النفسي للكثيرات منذ اندلاع الحرب وحتى هذه اللحظة بجهود فردية".