لا دور للإيديولوجيا في ثورات ما سمي "الربيع العربي" على قياس "ربيع الشعوب" في أوروبا. ولا كل الدور لوسائل التواصل الاجتماعي في إطلاق الحراك الشعبي وتنظيمه. فالمسألة هي أن تكون الظروف ناضجة أو لا تكون. وهي كانت ناضجة في تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن، ومؤخراً في السودان والجزائر. لكنها بدت غير ناضجة في العراق على الرغم من البطالة والفساد والمحاصصة الطائفية والفقر و"الحيتان الكبيرة" والنفوذ الخارجي. كذلك في مصر، حيث شهد الشارع محدودية تأثير مقاول غاضب هرب إلى الخارج وبدأ التحريض على مهمة مستحيلة هي "ثورة مقاولة". أما في ثورات "ربيع الشعوب" في أوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن الإيديولوجيا لعبت دوراً مهماً رافق صدور "البيان الشيوعي" بتوقيع كارل ماركس وفريديريك إنغلز. لكن الأنظمة القديمة تغلبت على الثورات. واستمر البؤس والظلم، بحيث قالت أم ماركس بعد صدور كتابه "الرأسمال": "ليت كارل جمع الرأسمال بدل الكتابة عنه".
وبدايات "الربيع العربي" كانت واحدة: حراك شعبي سلمي يرفع شعار "خبز وحرية وتغيير ديمقراطي" في مواجهة أنظمة شمولية فشلت في التنمية الاقتصادية ونوعية التعليم وتمكين المرأة، و"نجحت" في القمع وطول بقاء الحكام في السلطة. لكن المسار تباين وقاد إلى نهايات مختلفة. فالحراك في تونس ومصر والسودان والجزائر بقي سلمياً على الرغم من التضييق على المتظاهرين وسجن الناشطين منهم وإطلاق الرصاص وغاز الأعصاب. وما حدث في ليبيا واليمن وسوريا هو جر الحراك السلمي إلى "عسكرة الثورة" في مواجهة عنف السلطة، بحيث تحول المشهد إلى حروب أهلية دخلت فيها دول وقوى وتداخلت معها حركات تكفيرية إرهابية. والقاسم المشترك بين هذه الثورات أمران على الأقل. الأول أن الحراك الشعبي تجاوز الأحزاب الموالية وحتى المعارضة، وكان أحياناً بلا قيادة، وهذه ميزة من ناحية ومشكلة من ناحية أخرى. والثاني أن الحراك، باستثناء ما جرى في تونس، اصطدم بالجيش أو اصطدم بطموحات الجيش وموقعه في النظام حتى حين لم يمارس الجيش قمع المتظاهرين وحماهم أحياناً من قوى الأمن الداخلي. وهكذا رأينا خمسة نماذج.
النموذج التونسي كان الاستثناء: هرب الديكتاتور ونجحت القوى المدنية في العبور إلى الديمقراطية عبر مرحلة انتقالية. والفضل يعود لعاملين: أولهما وجود مجتمع مدني قوي من تراث الرئيس الحبيب بورقيبة. وثانيهما "أن من حظ تونس كون جيشها صغيراً ومحترفاً" كما قال الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. لكن الانتخابات النيابية والرئاسية الأخيرة كشفت عجز السلطة الجديدة عن تلبية مطالب الناس. إذ سجل المرصد التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حدوث 5574 تحركاً احتجاجياً في الأشهر السبعة الأولى من عام 2019.
النموذج الليبي والسوري واليمني هو انشقاق الجيوش والحروب الأهلية وتنامي التنظيمات الإرهابية ودخول القوى الإقليمية والدولية على خط الحرب، بحيث جرى تدمير العمران والنسيج الاجتماعي وترتيب نوع من وصاية القوى الأجنبية على السلطة والمعارضة.
النموذج المصري هو رفض الجيش ضرب المتظاهرين، وحرصه على استراداد "الأمانة" من الرئيس مبارك الذي حاول توريث نجله، ثم استعادة السلطة من الإخوان المسلمين بثورة شعبية وانقلاب عسكري. ولا أحد يجهل أن الجيش هو صاحب النظام الذي هندسه الرئيس جمال عبد الناصر.
النموذج السوداني جاء حلاً وسطاً: اتفاق الجيش والثورات على تقاسم السلطة في مرحلة انتقالية. والفضل يعود إلى تاريخ السودان منذ الاستقلال، حيث قام الشعب بثلاث ثورات أسقطت أنظمة عسكرية عام 1964 و1985 و2019.
النموذج الجزائري هو استمرار النظام مهما تغير الرؤساء. فالسلطة منذ الاستقلال للجيش. جيش الحدود قام بأول انقلاب عام 1962 على الحكومة الجزائرية المؤقتة التي فاوضت فرنسا على الاستقلال. وزير الدفاع الكولونيل بومدين انقلب عام 1965 على الرئيس أحمد بن بللا. وحين فازت التيارات الإسلامية في الجولة الأولى من الانتخابات قام الجيش بإلغاء الجولة الثانية واعتقال قادتها. والحراك الشعبي السلمي المستمر هو في نظر الجيش مجرد موسيقى تصويرية لاستعادة الأمانة من الرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة بعدما أمسك بها شقيقه سعيد و"العصابة" وجرى البحث في إقالة رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح. فالجيش رفض المرحلة الانتقالية التي يطالب بها المتظاهرون السلميون. وهو يتجاهل أن الحراك كان من أجل التغيير الديمقراطي في النظام، لا فقط ضد العهدة الخامسة لبوتفليقة. وما يصر عليه هو انتخابات من دون أي تغيير في الدستور وبنية النظام تأتي برجل يمارس الجيش السلطة الحقيقية من خلاله. والشعار واضح: الجيش في السلطة، والرئيس في المنصب.
لكن اللعبة صارت معقدة جداً. فالأحزاب على هامش الحراك الشعبي. وما عاد سهلاً على الجيوش استمرار اللعبة القديمة وسط تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية عميقة قادت إلى الحراك الشعبي.