تلتقي كرة القدم والإسلام السياسي والموسيقى في شيء أساسي مشترك وهو التعامل المباشر مع الجماهير، أي التأثير من خلال التجمهر، وفي الحالات الثلاث تتم مخاطبة الحشود اعتماداً على "اللغة" و"الجسد" و"الآلة".
كرة القدم من "اللعب" إلى "الحرب"
تلتفُّ جماهير كرة القدم في الملاعب الصغيرة كما في الملاعب الكبيرة، في المباريات المحلية كما في المنافسات الوطنية أو الدولية، تلتفُّ حول مجموعة من القيم الثقافية والسلوكية المتمحورة أساساً حول العنف وفكرة الفحولة الكاذبة والكراهية ورفض الآخر، ويتم تفريغ "اللعب" الذي هو قريب من "الشعر" و"الطفولة"، وفيه تتحقق المتعة الفردية والجماعية في الوقت نفسه، يتم تفريغ اللعب من كل هذه القيم وشحنه بقيم أخرى لا علاقة لها بـ "اللعب" بل هي أقرب إلى "قيم الحرب".
ففي كرة القدم يصبح "اللعب" توأماً "للحرب" من دون أن يفصح عن ذلك، يتم الاستعداد لحرب كرة القدم كما يتم الاستعداد للحرب الأخرى الكلاسيكية المدمرة، ويبدأ بشحن الجماهير بـ "إحساس" الاستعداد لمواجهة "الغريب" "العدو- الخصم"، وهو استعداد سيكولوجي ورمزي خطير، وفي هذه الحرب "حرب كرة القدم" يأخذ الانتصار على الخصم طبيعة "الاقتصاص" و"الاغتصاب"، ويأخذ مفهوم "الانتصار" معنى "إبادة" الخصم الذي من المفروض هو شريك في "اللعب"، أي شريك في إنتاج "المتعة والإمتاع"، والفوز في حرب كرة القدم يعني "إهانة" الخصم وسلبه هويته، وتبدو خطط اللعب وكأنها معمولة "للثأر" من الخصم "اللاعب" لأمر نائم ومستيقظ في اللاوعي الجماعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد أضحت كرة القدم "أفيون العصر" بامتياز، أفيون يتولى تسويقه بعض الأنظمة العربية والمغاربية، وبشكل رسمي ومسموح به، والغرض من ذلك هو تنويم العامة وتلهيتها عن التفكير في طرق البحث عن تغيير عالمها التعيس تغييراً حقيقياً. وهي من كل ذلك تريد أن تغطي على سلسلة هزائمها وإخفاقاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والثقافية بانتصارات وهمية وواهمة على جبهة حرب كرة القدم. وبقدر ما يعيش المواطن حالة هزيمته الاجتماعية بعنف يمارس المشاركة في حرب كرة القدم بعنف مضاعف، وذلك للتفريغ عن كبت فردي متعدد مادي وثقافي وجنسي، هو انتحار في شكل احتفال.
يذهب المواطن إلى مشاهدة كرة القدم لفريق يناصره وكأنما هو ذاهب إلى جبهة الحرب، مدججاً بثقافة العنف ومستعداً للقتل (القتل الرمزي) ومستعداً للاغتصاب (الاغتصاب الرمزي).
لا يقتصر العنف الفردي والجماعي في كرة القدم على الجانب الجسدي منه فقط، فقد أصبح هذا أمراً شائعاً ويومياً، بل ومرات كثيرة متسامحاً معه وكأنه من توابل المنافسة، وهي طريقة لتعميم ثقافة التوحش، طريقة للتصالح مع ثقافة التوحش، ولكن العنف الأكثر خطورة هو العنف الرمزي الذي يحمل مضموناً يقترب من أيديولوجيا النازية حيث شعارات "الفريق الأفضل" على وزن "الشعب الأفضل" والفريق الأقوى على قياس "الأمة الأقوى"، و"إبادة" الآخر على وزن "إبادة اليهود".
الإسلام السياسي والتجمهر... من الروحانية إلى الأيديولوجيا
يبدو أن الإسلام السياسي كما عرفه العالم العربي والمغاربي منذ تأسيس جماعة "الإخوان المسلمون" العام 1928 ولا يزال متغلغلاً فيه، يعاني منه، شبيه في تجمهراته وتجمعاته بتجمعات جماهير كرة القدم، على مستوى الاستعدادات السيكولوجية الفردية أو الجماعية، فالتجمهر الذي يحصل في ساعات أداء صلاة تحت مظلة سياسية إخوانية أو جهادية أو سلفية أو قاعدية أو داعشية في المساجد أو في الساحات العمومية أو الملاعب الرياضية يسعى إلى شحن قيم هدفها زرع الفتنة ورفض الآخر، رفض فكرة العيش معاً، يتم التعبير عن ذلك من خلال خطاب مكتوب (المناشير واللافتات) أو الخطب الشفوية (الأناشيد والشعارات)التي تتداول في هذه المناسبات الدينية.
وحين التدقيق في سوسيولوجيا التجمهر إن على مستوى بنية الخطاب أو على مستوى سيكولوجية الفرد والجماعة ومحاولة قراءتها وتفكيكها، سنلاحظ أن تقارباً كبيراً في رمزية مضامين الشعارات المرفوعة في كرة القدم، وما يرفع أو ينشد في تجمعات الإسلام السياسي، فالفلسفة العدمية والروح الإقصائية والتحرش والعنف والغضب والكراهية والأنانية والفحولة الكاذبة وشهية الاغتصاب هي ما يطبع تجمع حرب كرة القدم وحرب الإسلام السياسي.
ففي الإسلام السياسي كما في كرة القدم ترفع شعارات "الأجمل" و"الأقوى" و"الأصلح": "ديننا هو أفضل دين"، "دين الآخرين كذب"، "ديننا هو الذي سينتصر"، "ديننا هو الأقوى"، "على الديانات الأخرى أن تكون خاضعة"، "الفتوحات قائمة"، "الجهاد واجب"، "قتل الخصم" وهو ما يغذي ثقافة الكراهية بمفهومها الفردي والجماعي ويقضي على فكرة إمكان العيش معاً بسلام على هذه الأرض أو فوق كواكب أخرى سيصلها الإنسان لاحقاً.
إذا كان في كرة القدم يتم وبشكل ممنهج تفريغ "اللعب" الجماعي من "المتعة" و"الطفولة" و"الفرح"، ففي الإسلام السياسي يتم تفريغ "الصلاة" من مفهومها الروحي لتدخل في باب الشحن الأيديولوجي والسياسي.
وإذا كان في كرة القدم يتم التسامح مع فكرة إشاعة "العنف" و"الكراهية" و"الاغتصاب" و"التخريب" في ظل "قوانين" "لعبة تحوّلت إلى حرب، ففي الإسلام السياسي يتم تسويغ هذه القيم من خلال "فرض أو ركن" هو الصلاة والتي يتم اجتثاثها من شرط وجودها الروحاني إلى فضاء سياسي يفتح على "الحرب" أيضاً باسم "الجهاد" ضد الكفار، ودفاعاً عن "الله".
وكما في كرة القدم يتم استيلاب شخصية الفرد وتفريغه الكلي من إمكاناته العقلية والفكرية من طريق تذويبه في سيكولوجية القطيع الغارق في الهلوسة والغضب والكراهية، نلاحظ أن المتدين السياسي يصبح هو الآخر آلة يتم التحكم فيها بشكل كلي، وبالتالي يمكن الاستثمار فيه من أجل القيام بتفجيرات أو اغتيالات أو تخريب.
وكما لكرة القدم أئمة أو قادة يصبحون نجوماً، بعضهم لا يتفرج حتى على مجريات المباراة، بل مهمته هو الوقوف في المدرجات عاطياً ظهره للملعب ومتوجهاً بخطاباته للمتفرجين، إذ يتولى شحنهم شيئاً فشيئاً مع مرور وقت المنافسة، وفي هذا الشحن يتم التحضير الجماعي استعداداً لممارسة العنف الجسدي أو المادي أو الرمزي أو العرقي، فكذلك في الإسلام السياسي يمارس الأئمة والقادة مثل هذا التوجيه وهو القيام بغسيل دماغ على الأفراد والجماعات، استعداداً لتحويلهم إلى كائنات من دون عقل مستعدة للانتقام والموت والضرب والتخريب من دون طرح سؤال: لماذا؟.
ويقترب الخطاب المستعمل في تجمهر الإسلام السياسي في بنيته السيكولوجية العدائية من بنية الخطاب المستعمل في حرب كرة القدم، وفي الحالتين هو خطاب يعتمد على الغضب والتعميم والتهديد ويدعم بحركات يدوية مثيرة ومُلهبة للأحاسيس.
الموسيقى... التجمهر الإيجابي
وأما التجمهر حول الموسيقى فهو تجمهر نقيض لتجمهر كرة القدم وتجمهر الإسلام السياسي، فالناس تجتمع حول الأغنية أو السيمفونية لممارسة تصفية القلوب ما قد تسرّب إليها من "أمراض" تجمعات حرب كرة القدم أو الشحن الإيديولوجي الذي يعتمده الخطاب الإسلامي السياسي. وإذا كانت كرة القدم كما الإسلام السياسي تعمل على شحن المواطن بقيم الخوف من الآخر، والبحث عن الانتصار عليه، وإقصائه واغتصابه والإغارة عليه، فإن التجمهر حول الموسيقى هو لأجل محاربة الكراهيات بكل أشكالها العرقية والدينية والوطنية والجغرافية.
من هنا يمكن تفسير تلك الحرب التي يشنها الإسلام السياسي على الفنون والآداب الراقية وعلى رأسها الموسيقى، فهو يعتبرها العدو اللدود له لأنها تعمل على تصفية ما يقوم به من زراعة الأحقاد في القلوب، وبذلك تريد أن تكون الدين الإيجابي الإنساني الذي يعمل على محاربة التوحّش في الإنسان المعاصر.