السيارات الفارهة المتراصة بعشوائية في شارع عبيد في حي روض الفرج (شمال القاهرة) تلفت انتباهك في الحي الشعبي العريق، لتدرك أنك وصلت إلى مطعم "صبحي كابر".
"صبحي كابر" ليس مجرد مطعم للمأكولات المصرية المعروفة بل هو أشهر من نار على علم، ليس فقط في حي روض الفرج، بل في العالم العربي، إذ تجد هناك أرقى وأغلى أنواع السيارات التي تقبل على المكان بدءًا من الظهيرة وحتى ساعات مبكرة من صباح اليوم التالي.
تسمع هناك صوت "طشة" الملوخية التي لا تقارن بغيرها، وتتذوق تتبيلة "محشي" لن تجد مثلها إلا في كتب التاريخ الشعبي العريق، دخان الشواء الذي ينم عن وجبة لحوم مشوية لا تزحزحها عن عرشها إلا شوربة الكوارع الرهيبة التي تأتي بحرارة آب (أغسطس) في قمة زمهرير شباط (فبراير)، ليلتف المصريون والسياح العرب حولها في مشهد لا تخطئه عين في هذه البقعة الشعبية من العاصمة المصرية. ولأنها العاصمة المصرية، فإنه لا يصح تجاهل الحديث عن "صبحي كابر"، المطعم الشعبي الذي بدأ بعربة كفتة مشوية صغيرة في المنطقة نفسها ليتحول إلى مطعم متعدد الأطباق.
العربة المُتنقلة كانت البداية
صبحي السيد عطوة، 50 عامًا، من مواليد حي روض الفرج أيضًا. حازت أكلاته البسيطة على العربة المتنقلة برواج كبيرن وإعجاب بالغ بين السكان وغيرهم من الزوار القادمين من خارج روض الفرج. وبعد قليل من التفكير وكثير من الادخار، افتتح مطعمًا في الحي نفسه محققًا نجاحًا كبيرًا، لاسيما بين الزبائن الـA Class. ومن المطعم الصغير إلى مطعم متعدد الطوابق وعشرات العاملين والعاملات من أبناء المنطقة، أصبح "صبحي كابر" وجهة شعبية للجميع.
يقول المهندس تامر الرفاعي وزوجته، إنهما دائما ما يدعوان شركاء العمل الذين يترددون على مصر من فرنسا وهولندا على أكلة مصرية أصيلة عند "صبحي كابر". يضيف الرفاعي: "بينما يمضي هؤلاء الضيوف وقتهم بين لقاءات العمل والإقامة في فندق خمسة نجوم، فإن صبحي كابر يختصر مصر في أكلة شهية وموقع شعبي وتعامل عن قرب مع المصريين، إنها سياحة من نوع خاص".
"كبدة البرنس".. سحر الكراسي الخشبية
وتحت هذا النوع الخاص من السياحة، يندرج مطعم "كبدة البرنس" لصاحبه ناصر البرنس، والذي بدأ من "عربية كبدة"، إحدى أشهر المشاهد في الشارع المصري في المناطق الشعبية. لكن هذه المرة المنطقة الشعبية هي حي "إمبابة" الذي يلقبه البعض "جمهورية إمبابة" في إشارة إلى تخمتها السكانية، وشعبيتها المفرطة.
وإذا كان صبحي كابر طور من نفسه فانتقل بزبائنه وعماله إلى مطعم متعدد الطوابق في روض الفرج، فإن جانبًا من شهرة البرنس تكمن في الكراسي الخشبية القديمة المتراصة في عرض الشارع دون تطوير أو تحديث، وإن كان قد تخلى عن العربة وافتتح مطعمًا لتوسع العمل وتزايد الزبائن القادمين من خارج "الجمهورية" من أجل الكبدة غير المسبوقة المذاق. الغريب أن اسم "البرنس"، وموقع المحل، والبيئة المحيطة تقف على طرف النقيض من شكل الزبائن وسياراتهم المتراصة ولغتهم الأرستقراطية.
فمريم وعمر وسامر ورامي أربعة أصدقاء في أوائل العشرينيات من العمر من طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة، المعروفة بجامعة الصفوة، يترددون على "البرنس" طلبًا للكبدة الرهيبة وأيضًا للتجربة الفريدة "على حد وصفهم". فجميعهم من سكان حي مصر الجديدة الراقي، حيث لا مجال للحديث عن "كبدة" مخصوصة أو "لية" (الشحم المتدلي من مؤخرة الخروف) الغارقة في الملوخية أو حتى "مخ" مقلي يحمل شعار "كبدة ومخ زين والفاتحة للحسين"!
تقول مريم إن هذه النوعية من المأكولات موجودة في مطاعم راقية حيث تسكن، "لكن مذاقها في إمبابة أو شبرا أو القلعة أو غيرها من الأحياء الشعبية، بالإضافة إلى الموقع يجعل الأمسية "incredible". (مدهشة )
"مسمط" الناصرية وحب الاستطلاع
سيد يعمل في "مسمط" بسوق الناصرية في حي السيدة زينب الشعبي. والمسمط مطعم متخصص تقدم فيه أسقاط الماشية كالكرشة والكوارع، أو ما يسمي في رواية أخرى من قبيل التندر "إكسسوارات البهائم". يقول: "نسبة كبيرة من زبائنا ليسوا من حي السيدة زينب، ويتردد علينا كل الطبقات الاجتماعية، بالضبط كما يأتي السياح لمشاهدة الأهرامات والمعابد ليعيشوا ثقافة مختلفة ويتذوقون طعاما مختلفا. يضيف سيد: "لا أعتقد إنهم يأتون لأكل اللسان والمخ والطحال وغيرها فقط، بل وربما للمرة الأولى في حياتهم، هم يأتون كذلك بدافع حب الاستطلاع، إن ترددهم على المطاعم الشعبية في الأحياء الشعبية نوع من السياحة الداخلية".
من الجلابية بارتي إلى الأطباق الشعبية .. تتعدد الموضة في الأوساط الراقية
السياحة الداخلية عبر الأطباق الشعبية في مواطنها الأصلية ليست ظاهرة حديثة أو حادثة فريدة، ففي الثمانينيات اجتاحت الأوساط الراقية صرعة "جلابية بارتي"، حيث كان شباب وشابات الأثرياء ينظمون حفلاً شعبيًا يرتدي فيه الجميع الملابس المرتبطة في الأذهان بالأحياء الشعبية وسكانها.
تتذكر نيفين سمير، مهندسة، 52 عامًا، أنها شاركت ذات مرة في "جلابية بارتي" منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وسمعت نادلا ينعت الحضور بـ"البله" و"الخرف" لرغبتهم في التشبه بالموروث الشعبي، ورد عليه زميله بالمثل الشعبي المصري "اللي معه قرش محيره، يجيب حمام ويطيره".
وفي العام الـ19 من الألفية الثالثة، تقلصت هذه الحفلات لتفتح العيون على نوع جديد من السياحة الداخلية بين المصريين وغيرهم من الأشقاء العرب، حيث يشد الرحال إلى مطاعم تخصصت في أكلات شعبية خالصة ومصرية حتى النخاع، تجذب الجميع من كل حدب وصوب قد لا تتقن صُنعها المطاعم الفاخرة .