ملخص
مثل وعد بلفور، الخطوة التنفيذية الأولى لإقامة "وطن لليهود في فلسطين"، وذلك على رغم ما تشير به بعض المصادر التاريخية، إلى جذور ومحاولات غربية أبعد من بلفور، التي كان من بينها دعوة القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت في عام 1799 علانية إلى "إقامة دولة لليهود على أرض فلسطين"، حين وجه ندائه الشهير لليهود في أبريل (نيسان) من ذلك العام باعتبارهم "ورثة أرض إسرائيل الشرعيين"، تلاه هذا التحرك دعوة الرئيس الأميركي جون آدمز عام 1818 إلى "استعادة اليهود لفلسطين وإقامة حكومة مستقلة لهم"، ثم إصدار رئيس وزراء بريطانيا اللورد بالمرستون في عام 1839، تعليمات إلى القنصل البريطاني في القدس وليام يونغ، بمنح اليهود في فلسطين الحماية البريطانية لضمان سلامتهم، وصيانة ممتلكاتهم وأموالهم.
لم تكن محطة إعلان إسرائيل قيام دولتها في الـ14 من مايو (أيار) عام 1948 بداية اندلاع "الصراع الأزلي" بين اليهود والفلسطينيين على تلك البقعة الجغرافية الواقعة جنوب شرقي البحر المتوسط حتى وادي الأردن بمساحة تقترب من نحو 27 ألف كيلو متر مربع، إذ وفق المؤرخين والكتابات المعنية تعود الجذور الأولى لخطواته التنفيذية إلى ما يعرف تاريخياً بـ"وعد بلفور"، الصادر في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1917، حين راسل وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر جيمس بلفور رئيس الجالية اليهودية في بريطانيا اللورد والتر دي روتشيلد (أحد أضلاع عائلة روتشيلد الثرية) برسالة قصيرة، عبر فيها عن "دعم وتأييد بلاده لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين".
فرسالة "بلفور" تلك، التي لم تتحدث صراحة عن تأييد الحكومة البريطانية لإقامة دولة لليهود في فلسطين، إذ جاء نصها كالتالي "يسرني أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته بالتصريح التالي، الذي يعبر عن التعاطف مع طموحات اليهود الصهاينة التي جرى تقديمها للحكومة ووافقت عليها، إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل أقصى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بأي عمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر"، إلا أنها أدت دوراً أساسياً في إقامة الدولة العبرية بعد 31 عاماً من تاريخها، أي في عام 1948.
وبينما يمر الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي بـ"أشد وأخطر مراحله" وفق توصيف كثر، على وقع الحرب التي تشنها الدولة العبرية على غزة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وتهديدات مسؤوليها المستمرة بضم الضفة الغربية والقطاع، في مقابل ما يعتبره بعضهم "صحوة غربية" من خلال تعزيز الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، لا يزال "وعد بلفور" موطن الشجب الأكبر والأكثر إثارة للجدل بالنسبة إلى الفلسطينيين باعتباره "وعد من لا يملك لمن لا يستحق"، وعليه تحاول "اندبندنت عربية" تقليب أوراق التاريخ والوثائق بحثاً عما إذا كان وزير الخارجية أرثر بلفور، قد وضع في اعتباره قيام الدولة الفلسطينية مع إعلانه في عام 1917.
سياق وتبعات "وعد بلفور"
كان وعد وزير الخارجية البريطاني أرثر بلفور في عام 1917 لليهود في فلسطين، جزءاً من السياق التاريخي والجيوسياسي العالمي الحاكم في ذلك التوقيت، حيث ذروة الحرب العالمية الأولي بين دول الحلفاء ودول المحور، وهي الحرب التي دارت في الفترة ما بين 1914 و1918، ومهدت لتغييرات سياسية كبيرة، من بينها تقاسم المنتصرين (بريطانيا وفرنسا) تركة الإمبراطورية العثمانية، التي كانت فلسطين تحت ولايتها.
في تلك الحرب ووفق ما يقول المؤرخون، كان هناك نشاط مكثف للمفاوضات والمعاهدات والاتفاقات السرية لترتيب الأوضاع ما بعد الحرب، وعلى رأسها اتفاق "سايكس - بيكو"، فضلاً عن ولادة الوعد المكون من 67 كلمة، الذي جرى الإعلان الرسمي له في شكل خطاب موجه من وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى لورد روتشيلد رئيس الاتحاد الصهيوني في بريطانيا يوم الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 1917.
في كتابه المعنون "القضية الفلسطينية خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة"، الصادر عام 2012، يقول المؤرخ الفلسطيني محسن محمد صالح "في ذروة الحرب العالمية الأولى حيث نشاط الاتصالات والمعاهدات السرية، تحركت بريطانيا على ثلاثة اتجاهات تفاوضية، الأول التفاوض مع الشريف حسين بن علي أمير الحجاز، في ما عرف بمراسلات حسين مكماهون في تموز (يوليو) 1915 – آذار (مارس) 1916، لدفعه لإعلان الثورة العربية على الدولة العثمانية، في مقابل وعود باستقلال معظم المناطق العربية. والثاني كان ما يعرف باتفاق سايكس بيكو في أيار (مايو) 1916، الذي أعاد تقسيم الأراض التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية لا سيما بلاد الشام والعراق بين بريطانيا وفرنسا. فيما تمحور الثالث في التفاوض مع المنظمة الصهيونية العالمية حول مستقبل فلسطين، وقد دفعهم إلى ذلك حاجتهم إلى استخدام النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة، لدفعها للمشاركة في الحرب إلى جانب بريطانيا وحلفائها، وهذا ما حدث فعلاً في آذار (مارس) 1917، فضلاً عن وجود النفوذ اليهودي الصهيوني في بريطانيا وفي السلك الحكومي نفسه. وهكذا يمكن القول إن بريطانيا أصدرت وعدين متناقضين، واحداً للعرب عام 1916 وآخر لليهود عام 1917، تنكرت للأول وقامت بتنفيذ الثاني".
ويتابع "جرى الاتفاق بين بلفور وحاييم وايزمان، على ضرورة قيام الحركة الصهيونية بوضع مشروع للتصريح المطلوب، وانكب الصهاينة على صياغة التصريح. وعليه فقد تم تقديم ستة مشاريع صيغ للتصريح من الحركة الصهيونية، إلى أن صدر تصريح بلفور في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 1917"، مشيراً إلى أنه خلال اتفاق "سايكس بيكو" عام 1916 اتفق ممثلا الحكومة الفرنسية الدبلوماسي فرنسوا جورج بيكو والبريطانية مارك سايكس على وضع فلسطين تحت إدارة دولية من دول عدة بينها بريطانيا وفرنسا، وذلك قبل أن يجتمع رئيسا الحكومتين الفرنسية جورج كليمنصو والبريطانية ديفيد لويد جورج بعد انتهاء الحرب لتعديل الاتفاق وتوقيع ما يعرف بمعاهدة "سان ريمو" في أبريل (نيسان) 1920، التي تخلت بموجبها باريس عن فلسطين واعلن الانتداب البريطاني عليها، والذي مهد لتنفيذ وعد بلفور، بحسب الموسوعة البريطانية.
من جانبه، ووفق ما كتبه أستاذ التاريخ في معهد "كوليج دو فرانس" هنري لوران، فإن "اتفاق سايكس بيكو كان شبه موقت، وسرعان ما عوضه اتفاق سان ريمو"، متابعاً أنه "تحدث النص الأول عن إقامة دولة أو دول عربية عدة على الأراضي التي قسمت إلى منطقتي نفوذ فرنسية وبريطانية، ولم يشر إلى دولة يهودية ولا إلى لبنان". وأضاف "وكان يفترض أن تكون فلسطين، وكذلك الموصل، جزءاً من منطقة النفوذ الفرنسية، لكن باريس تخلت عنها في 1918 تحت ضغط بريطانيا، وتخلت عن كيليكيا (في تركيا الحالية) عندما حرر القوميون الأتراك، بقيادة مصطفى كمال، الأناضول بين 1919 و1922".
وتماشياً مع الاتهامات العربية بتحميل "سايكس بيكو" مشكلات وأزمات المنطقة، يقول جان بول شانيولو، المؤرخ ومؤلف "اطلس الشرق الأوسط"، إنه "على المستوى الرمزي، ترتبط اتفاقات سايكس بيكو بفكرة قوية في الذاكرة الجماعية لشعوب المنطقة، هي الإهانة، إذ نجد بعد عقود مشكلات مختلفة، لكن جذورها موجودة في مكان ما في اتفاقات سايكس بيكو".
وتركزت البنود الرئيسة في اتفاق "سايكس_بيكو"، على أن "فرنسا وبريطانيا العظمى مستعدتان لأن تعترفا وتحميا دولة عربية برئاسة رئيس عربي في المنطقتين "أ" (داخلية سوريا)، و"ب" (داخلية العراق)، المبينة في الخريطة الملحقة بهذا الاتفاق، ويكون لفرنسا في منطقة "أ" ولإنجلترا في منطقة (ب) حق الأولوية في المشاريع والقروض المحلية، وتنفرد فرنسا في منطقة "أ"، وإنجلترا في منطقة "ب"، بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية".
وكان خط سايكس على الخريطة يقابله على الأرض خط أفقي ممتد من عكا على البحر الأبيض المتوسط إلى كركوك (250 كيلومتراً)، وتقسم مناصفة الشمال (أ) بلون أزرق، والجنوب (ب) بلون أحمر إلى بريطانيا. وتفصل فلسطين بلون بني (إدارة عالمية)، يعين شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة، وفق ما جاء في المادة الثالثة من الاتفاق.
وفق تمحيص "اندبندنت عربية"، للكتابات والمذكرات والوثائق حول "سايكس_بيكو" وتداعياتها، تجمع غالب الروايات على "وضع ذلك الاتفاق في دائرة الاتهام والمساءلة لما تشهده المنطقة منذ صياغتها وحتى الآن من تداعيات"، إذ شبه بعضها ما جرى بين الدبلوماسيين الكبيرين (الفرنسي والبريطاني) بأنه "لا يعدو سوى أنه كان لعبة يمارسانها عبر شق خريطة المنطقة إلى شطرين تستحوذ كل بلد على شطر منها من دون أية مراعاة أو حساب لمواطني وأهل هذه المناطق".
ففي كتابه "خط فوق الرمال"، الصادر في عام 2011، يصف المؤرخ جيمس بار اتفاق "سايكس بيكو" قائلاً، "لم يكن الخط الفاصل بين منطقتي نفوذ بريطانيا وفرنسا عقلانياً، بل كان فكرة بسيطة: كل شيء هنا عبارة عن رمال، لا داعي للأخذ في الاعتبار أراضي القبائل ومسارات الأنهار وقنوات الاتصال الجغرافي. إنه خط هندسي خالص، كل شيء جرى بصورة عرضية".
يضيف "تم تطوير التفاهم الفرنسي - البريطاني على تقاسم الهلال الخصيب إلى اتفاق (كامبيون – غراي) في مراسلات بين سفير فرنسا لدى لندن بول كامبون، ووزير الخارجية البريطاني إدوارد غراي، وانضمت إلى الاتفاق روسيا وإيطاليا، وحينها قال سايكس إنه يريد أن يرسم خطاً يبدأ بـ(ألف) عكا وينتهي بآخر (كاف) من كركوك".
من زاوية أخرى، يعتبر المفكر عبدالوهاب المسيري، في موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية"، أن "الهدف من سايكس بيكو كان بالأساس توطين اليهود في فلسطين، إذ ارتبط الآباء المؤسسون للحركة الصهيونية، وعلى رأسهم ليونيل والتر روتشيلد، بالمصالح الرأسمالية الإمبريالية البريطانية والفرنسية، التي كانت تريد توسيع رقعة نفوذها في الشرق، وكانت تفكر بحماسة شديدة في التركة التي سيتركها رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية)".
ومثل وعد بلفور، الخطوة التنفيذية الأولى لإقامة "وطن لليهود في فلسطين"، وذلك على رغم ما تشير به بعض المصادر التاريخية، إلى جذور ومحاولات غربية أبعد من بلفور حول هذا الشأن، التي كان من بينها دعوة القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت في عام 1799 علانية إلى "إقامة دولة لليهود على أرض فلسطين"، حين وجه ندائه الشهير لليهود في أبريل (نيسان) من ذلك العام باعتبارهم "ورثة أرض إسرائيل الشرعيين"، تلاه هذا التحرك دعوة الرئيس الأميركي جون آدمز في عام 1818 إلى "استعادة اليهود لفلسطين وإقامة حكومة مستقلة لهم"، ثم إصدار رئيس وزراء بريطانيا اللورد بالمرستون في عام 1839، تعليمات إلى القنصل البريطاني في القدس وليام يونغ، بمنح اليهود في فلسطين الحماية البريطانية لضمان سلامتهم، وصيانة ممتلكاتهم وأموالهم.
لماذا دعمت لندن الحضور الصهيوني؟
قبل إصدار وزير الخارجية البريطاني بلفور لوعده "بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين"، تكشف المراسلات والاجتماعات التي تكشفت لاحقاً، عن تمهيد سابق من الحكومة الإنجليزية برئاسة لويد جورج آنذاك مع المنظمة الصهيونية في بريطانيا لتمهيد إصدار "الوعد الذي يدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين"، التي كانت خاضعة وقتذاك لحكم الدولة العثمانية.
وبحسب ما كتبه المؤرخ الفلسطيني محسن محمد صالح، فقبل نحو شهر من إعلان بلفور لوعده، قدما أبرز قيادات الحركة الصهيونية في لندن، وهما حاييم وايزمان ووالتر روتشيلد، مذكرة للحكومة البريطانية والولايات المتحدة الأميركية في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) في العام ذاته، لدفع الرئيس الأميركي أنذاك وودرو ويلسون لإصدار بيان يؤيد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو ما جرى بالفعل في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) حين أصدر الرئيس الأميركي تصريحاً قال فيه إنه يؤيد إقامة "كومنولث يهودي في فلسطين"، وذلك بعد أن عرضت الحكومة البريطانية نص تصريح بلفور على الرئيس ولسون، ليتشكل الموقف النهائي للحكومة البريطانية في جلسة خاصة عقدت في الـ31 من أكتوبر (تشرين الأول)، ثم لاحقاً أقرته كل من فرنسا وإيطاليا رسمياً.
في هذا الاجتماع (اجتماع الحكومة البريطانية في الـ31 من أكتوبر)، ووفق ما نقلته هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، فقد كانت حكومة لويد جورج تجتمع لمناقشة إصدار الوعد الذي يدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، بينما يقف القيادي الصهيوني حاييم وايزمان خارج غرفة الاجتماعات مترقباً ما سيحدث. مضيفة، مع انتهاء الاجتماع الحكومي، خرج السياسي البريطاني مارك سايكس من الغرفة، مهنئاً القيادي الصهيوني قائلاً له "دكتور وايزمان.. المولود ذكر"، وهو ما عكس لحظة تتويج لسنوات عديدة من الاتصالات والمفاوضات بين الساسة البريطانيين وزعماء الحركة الصهيونية في بريطانيا.
وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن موضوع مصير الأراضي الفلسطينية كان قيد البحث في دوائر الحكم في بريطانيا بعد دخولها الحرب العالمية الأولى مباشرة، وذلك بعد أن جرى أول لقاء بين حاييم وايزمان، زعيم الحركة الصهيونية لاحقاً، وبلفور عام 1904، وتناول اللقاء موضوع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
لكن وأمام ذلك المشهد، يتبادر تساؤل في شأن أسباب لندن في ذلك التوقيت التمسك بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، من دون النص على إقامة دولة والأخذ في الاعتبار عدم القيام بأي "عمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين"، في إشارة إلى السكان العرب الذين كانوا يمثلون غالبية في ذلك التوقيت (قدر عدد اليهود في فلسطين قبل سقوط الدولة العثمانية بنحو 50 ألفاً داخل فلسطين، ومع الانتداب البريطاني وصل إلى 650 ألفاً عام 1948، حتى أصبحوا يشكلون 29.5 في المئة من السكان، كما ازدادت أعداد المستعمرات إلى 60).
للإجابة عن ذلك، تقول هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، إن "وعد بلفور" كان أوضح تعبير عن تعاطف بريطانيا مع مساعي الحركة الصهيونية إلى إقامة وطن لليهود في فلسطين، إذ طلب فيها بلفور من روتشليد إبلاغ زعماء الحركة الصهيونية في المملكة المتحدة وأيرلندا بموقف الحكومة البريطانية من مساعي الحركة. وعلى رغم أن الرسالة لا تتحدث صراحة عن تأييد الحكومة البريطانية لإقامة "دولة لليهود في فلسطين"، لكنها أدت دوراً أساسياً في إقامة دولة إسرائيل بعد 31 عاماً من تاريخ الرسالة، أي عام 1948، كما أسهمت في تشجيع يهود القارة الأوروبية على الهجرة إلى فلسطين خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، في وقت كانت القارة تشهد صعوداً للتيارات القومية المعادية للسامية.
وتتابع "هناك أكثر من تفسير لإصدار بريطانيا هذا الوعد، أهمها أن لندن أرادت الحصول على دعم الجالية اليهودية في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى (ضد كل من ألمانيا والدولة العثمانية والإمبراطورية النمسوية) لما تتمتع به من نفوذ واسع هناك لدفع الولايات المتحدة للاشتراك في الحرب إلى جانبها"، مشيرة إلى أن هناك تفسيراً آخر، وهو "الاعتقاد بأن العهد القديم من الإنجيل يضمن حق إسرائيل في فلسطين".
وتنقل "بي بي سي" عن البروفيسور أفي شلايم الأستاذ بجامعة أوكسفورد قوله إن "وعد بلفور يمثل قضية مثيرة للجدل بين المؤرخين، فهناك وجهة نظر ترى فيه مشروعاً بريطانياً مسيحياً نبيل الأهداف لمساعدة اليهود في العودة لوطنهم التوراتي حظي بدعم ساسة متعاطفين مع الحركة الصهيونية، بينما يربط فريق آخر من المؤرخين بين الوعد والسياسة الإمبريالية لبريطانيا التي كان من بين أهدافها الحصول على دعم يهود الغرب"، مضيفاً أن الخلاف حول وعد بلفور ليس قاصراً على المؤرخين، بل إن الخلاف ولد قبل صدور الوعد نفسه، إذ أوضح أن "الوعد كان مثار خلاف داخل حكومة لويد جورج، فعندما كان رئيس الوزراء وعدد من المسؤولين يؤيدون إصدار الوعد كان هناك فريق يعارض الأمر. ومن بين أعضاء فريق المعارضين الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة ادوين مونتغيو، الذي كان يرى أن إنشاء وطن قومي لليهود سيقوض من الجهود المبذولة لتحقيق المساواة بين اليهود وغيرهم".
في المقابل ينتشر مبرر آخر في كثير من الأوساط الغربية واليهودية، وهو رغبة "لندن في مكافأة الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان على دوره في مساعدة قوات الحلفاء في حسم الحرب العالمية الأولى لمصلحتهم، من خلال مجهوده الحربي وابتكاراته الكيماوية في مجال تطوير الأسلحة". يشار إلى أن وايزمان كان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية منذ عام 1920 حتى عام 1946، وجرى انتخابه أول رئيس لإسرائيل عام 1949، ويعد من أشهر رموز الحركة الصهيونية بعد تيودور هرتزل.
وعلى رغم تباين الآراء التاريخية حول مبررات منح بريطانيا الوعد ومساعدتها في هجرة اليهود إلى فلسطين في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى، إلا أن محطة الجدل الكبرى في ذلك التوقيت تمثلت في عدم تضمين رسالة بلفور إلى روتشيلد كلمة "دولة" بل تتحدث عن "وطن، وتؤكد على عدم القيام بأي شيء يمكن أن يمس الحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى التي تعيش في فلسطين، وهو ما لم ينعكس في أية سياسية بريطانية ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية".
ففي الـ19 إلى الـ26 من أبريل (نيسان) 1920 عقد الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى مؤتمراً في مدينة سان ريمو الإيطالية لتقسيم الأراضي التي استولوا عليها من الدولة العثمانية، واتفقوا على وضع فلسطين تحديداً تحت انتداب دولة ينتخبونها، فاجتمعوا على بريطانيا. وكان من بين من حضر المؤتمر وفد يهودي ضم الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان وهربرت صموئيل عضو مجلس اللوردات وناحوم سوكولوڤ، الذين أسهموا في تحويل وعد بلفور من خطاب النوايا الحسنة إلى وثيقة قانونية ضمن لوائح الانتداب البريطاني على فلسطين.
وفي الـ24 من أبريل (نيسان) 1920 أعلن رسمياً إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وتشكلت حكومة مدنية، وأُرسل صموئيل في يونيو (حزيران) من العام ذاته مندوباً سامياً على فلسطين، وعمل على إنشاء مجلس تشريعي يخضع لأحكام الانتداب، لكن الفلسطينيين قاطعوا الانتخابات، ومنذ ذلك الحين تسارعت الخطوات البريطانية في تدعيم وجود اليهود في فلسطين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ففي أغسطس (آب) 1920 وافقت الإدارة المدنية التي عينت داخل فلسطين على أول مرسوم هجرة يهودية، لتبدأ سلسلة التدفقات لليهود بلا توقف. وفي يوليو (تموز) 1921 أعلنت عصبة الأمم (الأمم المتحدة حالياً) مشروع الانتداب البريطاني على فلسطين، وذكرت أن المشروع جاء بناء على الوعد الذي أطلقه بلفور عام 1917، بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، ليكون التاريخ الرسمي لبداية عهد الانتداب، وذلك بعد أشهر من إصدار الحكومة البريطانية مراسيم تحد من انتقال الأراضي، وتعد حيازة الأراضي المحلولة (تلك التي توفي صاحبها، أو لم يزرع فيها لأكثر من ثلاث سنوات)، والأراضي الموات (تلك التي لم تزرع ولم تعمل وليست ملكاً لأحد) موجباً للعقاب الشديد والمساءلة القانونية، وهو ما منح سيطرة أكبر لليهود على الأراضي الفلسطينية.
ووفق الإحصاءات البريطانية، فقد أسهمت حكومة الانتداب البريطاني (1920/1948) من خلال تشجيع هجرة اليهود على موجات كبيرة في تحويل اليهود من أقلية إلى جماعة لها ثقلها العددي في فلسطين، فزاد عدد اليهود من نحو 84 ألفاً عام 1922، إلى نحو 650 ألفاً عشية قيام إسرائيل عام 1948، وأدت تلك الزيادة إلى رفع نسبتهم إلى جملة سكان فلسطين من 11 في المئة إلى 31 في المئة في الفترة ما بين 1922 و 1948، وأسهمت الهجرة في الفترة المذكورة بنحو 400 ألف يهودي، من مجموع الزيادة الكلية لهم والبالغة 566 ألفاً.
خداع العرب سهل الهدف البريطاني
يجمع كثير من المؤرخين والباحثين أن وعد بلفور الذي أسس لوجود الدولة اليهودية في فلسطين ناقض بصورة كلية وعود بريطانيا للعرب في ذلك التوقيت، فبجانب عدم الوفاء باتفاقات حسين ماكموهان، سارعت القوات البريطانية بدخول فلسطين والاستيلاء على القدس بعد وقت قصير من صدور إعلان وزير الخارجية البريطاني وتحديداً في ديسمبر (كانون الأول) 1917، قبل أن تكمل السيطرة على كل جغرافيا تلك المنطقة في أواخر عام 1918، ومن ثم فرض حكومة عسكرية سمحت ببدء تكريس دعائم الوطن القومي لليهود.
في هذه الأثناء، أسس مؤتمر باريس للسلام عام 1919 "عصبة الأمم" (المنظمة الأممية التي سبقت الأمم المتحدة)، وأدخل إلى القانون الدولي مفهوم "الوصاية" المعروف باسم نظام الانتداب، وهو ما شرعن الانتداب البريطاني على فلسطين، وكان لافتاً في ميثاق عصبة الأمم ما نصت عليه مادته الـ22 في أن أراضي الدول المهزومة بعد الحرب العالمية الأولى ستخضع "لوصاية الدول المتقدمة" بالنيابة عن العصبة، إلى حين تتمكن من حكم نفسها بنفسها. وعليه فإن المقاطعات العربية التي كانت تابعة لسلطة الدولة العثمانية هي "دول مستقلة" خاضعة للمساعدة الإدارية لقوة منتدبة. وعلى رغم أن ميثاق عصبة الأمم نص على أنه يجب أن تكون لرغبات المجتمعات "المقام الأول في اختيار الدولة المنتدبة"، جرى منح الانتداب على فلسطين (كما شرق الأردن والعراق) إلى بريطانيا في مؤتمر سان ريمو في أبريل (نيسان) 1920.
واشتملت ديباجة نص الانتداب البريطاني على فلسطين، الذي وافق عليه مجلس عصبة الأمم في الـ24 من يوليو (تموز) 1922 على 28 مادة، تم التأكيد فيها بالتزام بريطانيا بمشروع الوطن اليهودي في فلسطين والعبارات عينها التي شملها وعد بلفور، فمثلاً أقرت المادة الثانية بجعل بريطانيا مسؤولة "عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي"، واعترفت المادة الرابعة بالمنظمة الصهيونية (تحت اسم الوكالة اليهودية) باعتبارها الجهة المسؤولة عن "إسداء المشورة والتعاون مع بريطانيا" في شأن المسائل كافة التي "قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين"، في حين لم يجر الاعتراف بهيئة مماثلة للغالبية العربية. أما المادة السادسة، فضمنت التزام بريطانيا "تسهيل هجرة اليهود وتشجيع استيطانهم الوثيق على الأرض، بما فيها الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية"، وشددت المادة السابعة على أن يتضمن قانون الجنسية الجديد "نصوصاً تسهل اكتساب الجنسية الفلسطينية لليهود".
وحينها بررت لندن ذلك بحجة لم ترد في وعد وزير الخارجية البريطاني، وهي اعترافها "بالصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين". في المقابل جاءت الإشارة إلى غالبية سكان فلسطين (نحو 90 في المئة وفقاً للتعداد البريطاني عام 1922، وكانت من العرب المسلمين والمسيحيين)، بعبارة "الطوائف غير اليهودية في فلسطين"، ومبدأ عدم الانتقاص من "الحقوق المدنية والدينية" لهذه الطوائف، وأغفلت هي أيضاً ذكر حقوق العرب السياسية أو الوطنية، وفق ما تشير إليه الموسوعة البريطانية.
ومع دخول الانتداب البريطاني حيز التنفيذ على الجغرافيا الفلسطينية في سبتمبر (أيلول) 1923، وتحرك العرب نحو رفض السياسات البريطانية تلك الساعية إلى تمكين اليهود "من أراضيهم"، حاولت لندن احتواء الغضب العربي بعدد من الطرق من دون التخلي عن دعم اليهود والوكالة اليهودية في الأراضي الفلسطينية، ووفق ما وثقه الأرشيف البريطاني، ونقلته دراسة لمركز "وفا" الفلسطيني، في ذلك التوقيت أرسلت بريطانيا رسالة إلى الشريف حسين بواسطة الكولونيل باست تؤكد فيها أنها لن تسمح بالاستيطان اليهودي في فلسطين إلا بقدر ما يتفق مع مصلحة السكان العرب من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، ولكنها في الوقت نفسه أصدرت أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة بأن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة حاييم وايزمان، كما عملت على تحويل قوافل المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية إلى فلسطين، ووفرت الحماية والمساعدة اللازمة لهم. وتضيف الدراسة أن الشعب الفلسطيني لم يستسلم للوعود والقرارات البريطانية، والوقائع العملية التي بدأت تفرضها على الأرض الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة، بل خاض ثورات متلاحقة كان أولها "ثورة البراق" عام 1929، ثم تلتها ثورة عام 1936.
وفي عام 1929 اجتاحت فلسطين في عهد الانتداب البريطاني موجة من الاضطرابات الدامية باسم الدفاع عن "الحرم الشريف"، وذلك بعد أن توافد يهود إلى الحائط الغربي في مدينة القدس وأطلقوا هتافات وأدوا طقوساً، مما أثار ذلك غضب العرب، لتندلع اضطرابات بعد أن نظم العرب مظاهرة نحو الحائط ذاته. واستمرت الاضطرابات وامتدت إلى خارج القدس، وقادت إلى مواجهات مسلحة مباشرة بين العرب واليهود والقوات البريطانية.
لم تقتصر الاضطرابات عند هذا الحد، واندلعت ما يعرف بـ"الثورة الفلسطينية الكبرى" في الفترة ما بين 1936 و1939، وذلك على وقع تزايد أعداد المهاجرين اليهود القادمين إلى فلسطين، ومقتل عز الدين القسام الذي كان يقاتل بجماعته المسلحة ضد الانتداب البريطاني بالقرب من مدينة جنين، وعلى إثر الأحداث الدامية التي شهدتها "الثورة الكبرى"، أعلنت بريطانيا عزمها إعادة تقييم سياستها في فلسطين التاريخية، فنظمت مؤتمراً في لندن وأصدرت عام 1939 وثيقة "الكتاب الأبيض" الذي قيد بيع الأراضي لليهود في فلسطين التاريخية، كما قيد هجرتهم خلال خمس سنوات تبدأ من أول أبريل (نيسان) 1939، كما تعهدت بريطانيا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في غضون السنوات الـ10 التالية إذا أمكن ذلك، على أن يتقاسم فيها الفلسطينيون واليهود مهمات السلطات الحكومية، وهو ما لم يجر حينها، واستمرت الأوضاع على هذا الحال، حتى انتهى الانتداب البريطاني عن فلسطين وأعلنت إسرائيل دولتها في مايو (أيار) 1948.
وفي إحدى كتاباته الحديثة، تحت عنوان "خطيئة الوطن القومي" يصف المؤرخ وأستاذ العلاقات الدولية السابق بجامعة أوكسفورد البريطاني الإسرائيلي آفي شلايم وعد بلفور عام 1917 بأنه "الخطيئة الأصلية"، بعد أن وعد بدعم إقامة "وطن قومي للشعب اليهودي" بشرط عدم القيام بأي شيء "للإضرار بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين". وحينها كان العرب يشكلون 90 في المئة من سكان فلسطين ويشكل اليهود أقل من 10 في المئة، معتبراً أن الوعد كان بمثابة "إعلان وثيقة استعمارية كلاسيكية"، بعد أن منح الحق في تقرير المصير القومي لأقلية صغيرة، وحرم الغالبية منه.
وفي قراءته للسياسات البريطانية طوال الانتداب على فلسطين، يقول شلايم إن لندن أوفت بوعدها لليهود من خلال مساعدة "الوطن القومي" على التطور إلى دولة يهودية، لكنها خانت تعهدها للفلسطينيين، موضحة أن خيانة بريطانيا أدت إلى اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي 1936 و1939، وكانت انتفاضة قومية تطالب بالاستقلال العربي ووضع حد لسياسة الهجرة اليهودية المفتوحة وشراء الأراضي، لكن جرى قمعها بقسوة من الجيش البريطاني والشرطة.
ومنذ ذلك الحين، بقي تاريخ الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 1917 تاريخاً يمثل بالنسبة إلى إسرائيل حدثاً فارقاً في مساعدتها في إقامة دولتها وتشجيع هجرة اليهود، في مقابل ما اعتبر فلسطينياً "أحد أبرز أسباب نكبتهم"، بعد أن أسهم في مأساة سلب وطنهم، وقاد إلى ما يعرف لاحقاً بـ"النكبة" عام 1948.